يتزايد الحديث حول تعويم نظام الأسد، سواء في مستوى استعادة العلاقات الثنائية معه، أو على صعيد تطبيع علاقاته مع المنظمات والمؤسسات الإقليمية والدولية، وكلها تعرضت في السنوات العشر الماضية لهزات عنيفة بسبب جرائم النظام ضد السوريين، ما أدى إلى تجميد العلاقات أو قطعها، على نحو ما حدث في علاقات النظام العربية والأميركية والأوروبية.
وتترافق الأحاديث عن تعويم النظام بإجراءات وخطوات تتصل بالموضوع، منها قيام حكومات عربية بإعادة فتح سفاراتها في دمشق، وبث أخبار عن لقاءات أمنية بين مسؤولين في نظام الأسد ومسؤولين من بعض البلدان العربية والأجنبية، وقيام مسؤولين من بلدان عربية وأجنبية بزيارات إلى دمشق، وعقد لقاءات مع رأس النظام وأركانه. كما التقى وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد 9 من وزراء الخارجية العرب على هامش اجتماعات الأمم المتحدة الأخيرة في نيويورك، في خطوة اعتبرها البعض إحدى أبرز دلالات تعويم نظام الأسد وتأكيد مسار تطبيع العلاقات معه.
الحديث عن التعويم والخطوات والإجراءات ليست أشياء جديدة، بل مستمرة ومتواصلة منذ سنوات، والجديد فيها وحولها أمران؛ أولهما هو ما يبدو أنه تصعيد فيها، على نحو ما يمكن أن نقرأه لكثرة الحديث عنها، ولا سيما الإعلام المقرب والأقرب إلى نظام الأسد وحلفائه، ولقاء المقداد مع 9 من وزراء الخارجية العرب مؤخراً، والأمر الثاني ما يقرأه البعض في الموقف الأميركي من نظام الأسد، الذي شدد في آخر محتوياته، أنه لن يطبع ويعيد علاقاته مع النظام، لكنه لن يمنع تطبيع الدول الأخرى علاقتها معه، وقد ذهب البعض إلى الأبعد بالقول، إن الموقف الأميركي أمام تحول كبير في الموقف من نظام الأسد، وقد يؤدي إلى استعادة علاقات الطرفين في غضون عام مقبل أو أكثر بقليل، على نحو ما درجت سياسات واشنطن السورية في التعبير عن نفسها خلال السنوات العشر الماضية.
ورغم أنه من الفطنة ملاحظة ما سبق، إضافة إلى ملاحظة ما يبذله الروس من مساعٍ لتعويم نظام الأسد في المستويين العربي والدولي، فإن ما يجري أقل بكثير من فكرة تعويم النظام وتطبيع علاقاته العربية والدولية، بمعنى استعادة وضعه إلى ما كان عليه قبل مارس (آذار) 2011، والأمر في هذا يستند إلى وقائع ومعطيات، تكمن خلفياتها في الإجابة عن سؤال ملحّ، نصه: ما الذي يدفع إلى تعويم النظام والتطبيع معه؟
يصرّ نظام الأسد على الإمعان في طروحاته وسياساته التي أعلنها وتبناها منذ بدء الصراع في سوريا وحولها في العام 2011، ورغم ما خلفه موقف النظام من تداعيات وكوارث على سوريا والعالم من خلال جرائمه وارتكاباته، فإنه يصرّ على إعلان انتصاره بدعم من حلفائه الروس والإيرانيين، وأنهم سيكملون الطريق الذي انخرطوا فيه حتى النهاية.
ويتولى نظام الأسد إدارة كيان سياسي ممزق، تتوزع السيطرة الواقعية عليه قوى دولية وإقليمية مباشرة وبالاستناد إلى أدوات محلية، من بينها الولايات المتحدة، التي تسيطر في شمال شرقي سوريا، ومعها قوى التحالف الدولي ضد «داعش» وأداتها المحلية «قوات سوريا الديمقراطية»، وهناك تركيا التي تسيطر مباشرة على جزء من الشمال السوري، ويساعدها في السيطرة أدوات من جماعات مسلحة وحلفاء من «هيئة تحرير الشام»، إضافة إلى الوجود الروسي والإيراني المتخفيين وراء طابع الوجود الشرعي من سلطة فقدت أي شرعية لها.
ويعاني الكيان السوري في كل أجزائه من تدمير، وتشتيت قدراته البشرية والمادية. فالسوريون اليوم في الداخل، يزيدون قليلاً على نصف سكان البلاد موزعين في مناطق سيطرة النظام أو مناطق سيطرة قوى الأمر الواقع، وأكثرهم يسعون للخروج من سوريا نتيجة تردي الأحوال في كل المجالات بصورة لم يسبق أن وصلت إليها، بل إن الوضع يمضي إلى تفاقم أكثر فأكثر، في ظل توقعات تجديد الحرب في الشمال الغربي، واحتمالاتها في الشمال الشرقي، ويقارب تردي أوضاع أكثر اللاجئين السوريين في بلدان الجوار مستوى تردي أوضاع إخوانهم في الداخل، وعدد هؤلاء يقترب من 5 ملايين نسمة، يعاني مئات آلاف منهم من تدهور الحالة المعيشية والأمنية في لبنان، ومثلهم سوريّو الأردن الذين يعانون من محدودية الموارد وظروف العيش، ويعاني نحو 4 ملايين سوري في تركيا من ظروف معيشية صعبة، لكن الأهم في معاناتهم تنامي العنصرية ضد وجودهم.
أما في مستوى القدرات المادية، فإن سوريا اليوم بلاد من ركام وحطام، حيث عشرات المدن والقرى، تزيد نسبة التدمير الكلي في مساكنها وأسواقها على 50 في المائة، وأغلب مرافق البلاد من طرق وشبكات كهرباء ومياه وصرف صحي خارج الخدمة أو في خدمة الحد الأدنى، بسبب ما لحقها من تدمير أو نتيجة إهمالها وعدم صيانتها وأسباب أخرى، والأنشطة الاقتصادية الإنتاجية والخدمية في شبه عطالة، تعبيرها الأبرز العجز في منتجات رئيسية اشتهرت بها سوريا من قطن وقمح وزيتون وحمضيات، وموارد البلاد من نفط وغاز ومعابر وفوسفات تتوزعها سلطات الأمر الواقع، وقد منح نظام الأسد بتسهيلات منه امتيازات استثمارية للإيرانيين والروس، شملت مكامن الثروة النفطية والفوسفات، إضافة إلى منفذي سوريا على البحر، اللاذقية وطرطوس.
لقد فقدت سوريا قدراتها وخبراتها، ليس على مستوى القدرات والخبرات المسؤولة عن تطوير البلاد وإخراجها من تداعيات حرب النظام وحلفائه وجماعات التطرف على السوريين، إنما على مستوى القدرات والخبرات، التي تلبي الاحتياجات اليومية لسكانها، من إدارة وصحة وتعليم وإسكان ونقل، وكلها تعاني من اختلالات، تحتاج البلاد إلى قدرات كبيرة وسنوات طويلة لمعالجتها.
مؤشرات تدهور الدولة والحياة السورية كثيرة، وبين تعبيراتها أن سوريا باتت تحتل المواقع الأسوأ في مراتب القياس الدولية، وتحولت إلى دولة فاشلة، محكومة بالقوة وحدها سواء بواسطة قوى الاحتلال الإيراني والروسي، أو القوة العسكرية والأمنية للنظام، التي صارت مجرد ميليشيات وعصابات تحت سيطرة الإيرانيين والروس.
وسط ما تقدم تفقد أحاديث تعويم النظام، والخطوات والإجراءات الدالة على مساعي التطبيع معه معناها الشائع، والإيحاء بمعنى جديد ومختلف أساسه عدم جدية فكرة تعويم النظام وإعادة تأهيله للانخراط في المجتمع الدولي، بل إن الفكرة في أحسن أحوالها تقارب ما قاله هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق عن مساعيه في الشرق الأوسط بعد الحرب العربية – الإسرائيلية عام 1973، حين قال ليس المطلوب تحقيق السلام، وإنما الحديث عنه، لأنه كان يرى ويعرف أن السلام بين الإسرائيليين والعرب بعيد جداً، وها نحن شهود عليه بعد قرابة نصف قرن من ذلك.
أما إذا كان هناك من يفكر في أن تعويم نظام الأسد، وإعادة تأهيله للانخراط في المجتمع الدولي ممكن، فليقل لنا ما الذي يغري الدول في هذا الانفتاح.
المصدر: الشرق الأوسط