يسيطر الإحساس بالإحباط لدى الغالبية العظمى من السوريين تجاه مستقبل بلدهم، مصدره الأساس ما يجري من محاولات وأد الأمل، وسد الأبواب بوجه خروجهم من واقعهم المأساوي، تعززها مؤشرات على أرض الواقع بتوسيع السيطرة الميدانية للنظام الأسدي على الجغرافية السورية وخطوات أولية لفك عزلته و التطبيع معه لإعادة تأهيله من قبل دول عربية، ناهيك بتضاؤل فرص فرض الحل السياسي وفق القرارات الدولية كمدخل لابد منه من الخروج من واقع الاستنقاع والحالة الكارثية التي يعيشها السوريون، التي تسببت فيها أساساً السلطة الأسدية، في الوقت الذي تتعثر الجهود لبلورة عمل جماعي سوري معارض ومستقل يضع حداً للضعف والتهميش الحاصلين لتمثيل السوريين في تقرير مصيرهم.
تبدو الصورة قاتمة إلى حد كبير لكن الواقع أعقد بكثير وأعقد من هذا التوصيف فالزلزال الذي حصل في بنية الكيان السوري مجتمعاً واقتصاداً وسياسة إثر تفجر بركان الغضب الشعبي على النظام الأسدي منذ انتفاضة/ثورة آذار/مارس 2011 وما تبعها من أحداث وتدخلات ترك مفاعيل كبيرة متباينة، وليس كل ما يطفو على السطح يعبر عن حقيقة الامور لأن الفعل التاريخي له منطقه وقوانينه واستحقاقاته، وتجارب الشعوب والثورات أعطت دروساً بليغة في مساراتها المتعرجة ومراحل تطورها.
كيف يمكن قراءة الأمور في ظل تعقيدات الوضع السوري وارتباطاته الإقليمية والدولية؟ وهل لدى النظام الأسدي القابلية لإعادة التدوير أو التأهيل؟
1- لا شك بأن الحملة الإعلامية التي قام بها النظام بدعم أو تغطية من حلفائه العلنيين والمستترين ومن لم يسمح بسقوطه، استندت إلى جملة تحولات في المشهد السوري، حصلت خلال عقد كامل بدفع منه وعبر نهجه العنيف والإجرامي لحرف الثورة عن مسارها وإيجاد أرضية للثورة المضادة التي استقطبت المتطرفين والمنبوذين في العالم، واستطاع إقناع العالم أن لا بديل لدوره في منطقة جيواستراتيجية حساسة، وفي ظل سوء أداء المعارضة السورية ومؤسساتها الرسمية والبديل الذي طفا على السطح من سلطات الأمر الواقع هو أسوء منه. ويعمل الآن جاهداً لفك عزلته، مستفيداً من حلفائه ومن البروباغندا الإعلامية في دول الغرب لاستقطاب اليمين المتطرف واليسار المتطرف، للتغطية على جرائمه المفضوحة على صعيد الرأي العام العالمي من تعذيب أو إبادة بالسلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة؛ جرائم الموت تحت التعذيب الموثقة بالصور كانت حافزاً لإصدار قانون قيصر الأمريكي لمعاقبة النظام ومسؤوليه اقتصادياً. ونتائج التحري عن استخدام السلاح الكيماوي من قبل اللجان المختصة للأمم المتحدة أدانته وبناء عليها يمكن أن يحاكم بشار الأسد كمجرم حرب ومجرم ضد الإنسانية إذا توفرت إرادة دولية بذلك.
2- الانتصار العسكري الذي يتباهى به النظام معروف للقاصي والداني أنه لم يتم بقدراته بل بفعل عوامل وأجندات خارجية بعد أن صارت الجغرافية السورية مستباحة للتدخلات الإقليمية والدولية؛ تم بالمساعدة الخارجية الإيرانية وأذرعها أولاً ثم جرى دعمها من روسيا ثانياً منذ ست سنوات بشكل مباشر، وجرت خلالها أعمال قصف همجية وسياسة الأرض المحروقة وأعمال تهجير واتفاقيات خفض التصعيد لاستعادة المناطق الخارجة عن سيطرته (لايزال متبقياً منها حوالي 30 بالمئة). ظاهرياً يبدو انه استعاد قوته لكن حقيقة وعملياً هو تنامي نفوذ القوة والسيطرة لكل من إيران وروسيا المتنافستين وتراجع نفوذه وتأثيره، بل وجوده واستمراره صار ورقة ضامنة قابلة للمساومة بيد كل منهما ناهيك عن الامتيازات الكثيرة الاستراتيجية التي منحها لهما.
3- إن أي قراءة معمقة للوضع السوري لابد أن تتوقف أمام بنية النظام السوري وما حصل فيها من تغيرات:
أولها أن البنية العسكرية والأمنية أصابها الضعف والتفكك وتحولت إلى مركب عسكري وأمني يضم ميليشيات متنافسة ومتناحرة ومتعددة الولاءات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى حصلت خلخلة كبيرة في الحاضنة الأساسية لهذا المركب أي ضمن الطائفة العلوية بالدرجة الأولى التي حاول سلخها من النسيج الوطني وجعلها وقوداً لسلطته الأسدية ودفعت ثمناً باهظاً لقاء فتات وأوهام وشرخ كبير في اللحمة الوطنية. ولا يفيدها عودة المجرم السفاح رفعت الأسد هارباً من ملاحقة القضاء الأوربي. بل قد يفاقم من حالة الخلخلة والاستعداد للتمرد والخروج عن الولاء.
ثانيها: البنية الاقتصادية التي تعرضت لانهيارات في العديد من أجزائها ليس فقط بسبب هجرة وتهجير الطاقات والكفاءات البشرية؛ أكثر من ثلث السكان خارج سوريا وقسم آخر مهم بالملايين خارج سيطرته في المحافظات الشمالية والشرقية بل أيضاً على صعيد الثروات الباطنية والطرق الاستراتيجية ناهيك بالفساد والنهب الذي ينخر قطاعات الادارة والاقتصاد، ما تسبب كله بأزمة اقتصادية معيشية يصعب الفكاك منها ولا يمكن الخروج منها؛ فموارد الاقتصاد الحالية تغطي عشرة بالمئة من الإنفاق الجاري وفق الإحصائيات الرسمية وقيمة العملة السورية المنهارة حولت 90 بالمئة من الشعب السوري تحت خط الفقر، وحالة الفوضى والقرارات الارتجالية تسببت في الآونة الاخيرة بتهجير عشرات ألوف الصناعيين باعتراف مسؤول غرف الصناعة. هذا الوضع قد يتسبب بانهيار النظام السياسي والأمني الذي لا يرغب المجتمع الدولي بانهياره في هذا الوقت، سهل تمرير مشروع الغاز العربي/الإسرائيلي (إسرائيل – مصر – الأردن – سوريا – لبنان) تجاوزاً لقانون قيصر ولأغراض استراتيجية دولية.
4- بعد أن توزعت الجغرافية السورية إلى مناطق نفوذ واحتلال وامتلكت الأطراف الإقليمية والدولية أوراقاً هامة في الملف السوري، بات أي حل أو مخرج مرتبطاً بملفات كثيرة على صعيد المنطقة والعالم ما زاد الأمر تعقيداً رغم وجود قرارات دولية (2254) قادرة أن تضعه على سكة الحل السياسي، إذا حصل توافق على صعيد المصالح الدولية والإقليمية المتبادلة. والنظام السوري يراهن على إعادة تعويمه وبقائه في السلطة في ظل استعصاء التفاهمات البينية وغياب السوريين عن دائرة الفعل والتأثير. لكن إلى متى تدوم حالة الاستعصاء وإلى متى تدوم جرعات الإنقاذ المقدمة لنظام متوحش مفلس وإلى متى يبقى السوريون مستكينين لواقعهم المأساوي.
هناك عوامل كثيرة تمنع إعادة تأهيل النظام إذا لم يحصل تغيير جوهري أساسه سياسي؛ العائق الأكبر الموضوعي هو الوضع الاقتصادي المشلول ولا يمكن حصول إنعاش للاقتصاد أو إعادة إعمار جدية أو انفتاح على العالم طالما بشار الأسد والمركب العسكري الأمني على رأس السلطة. استمراره، استمرار الأزمة والشلل، استمرار اللاحل، استمرار الواقع المأساوي المرير للغالبية العظمى من الشعب السوري في مناطق النفوذ المختلفة.
السوريون يتوحدون أمام مأساتهم الكبيرة وضرورات العيش المشترك، السياسة يعاد لها الاعتبار تدريجياً في الوقت الذي تسقط فيه المشاريع الاستبدادية بكل تلاوينها الأيديولوجية أو القومية. الحاجة لأن تكون سوريا دولة حريات ومساواة وقانون، دولة لكل مواطنيها، قناعة تزداد يوماً بعد يوم. والناجون من القتل والتعذيب من جيل الشباب، الذين طوروا كفاءاتهم داخل سوريا وفي دول الشتات مع من سبقوهم من أبناء الجاليات سيسهمون في بلورة آليات عمل تجعل القضية السورية حاضرة كقضية رأي عام دولي قادرة أن تؤثر في القرارات الدولية بعدما حصل لها من تشويه. أما القوى والهيئات السياسية رغم كل أخطائها عليها أن تجري نقداً جريئاً لتجربتها وأن تتحمل مسؤوليتها الوطنية وتعمل حقيقة لبناء الجسور بين السوريين وتجسيد جسم سياسي ذي برنامج واضح قادر أن يعبر عن تطلعات الشعب السوري في ثورة الحرية والكرامة واحترام شرعة حقوق الإنسان نحو الديمقراطية والعدالة، أو تخلي المجال أمام قوى صاعدة تستطيع أن تتقدم إلى القوى المؤثرة ببرنامج عمل يضمن مصالحهم من جهة وأن تكون سورية عامل أمن واستقرار في المنطقة. الطريق لازال طويلاً وشاقاً ومرهوناً بإرادة السوريين ونخبهم ومثقفيهم وقدرتهم على توظيف طاقاتهم والخروج من حالة اليأس والإحباط والهروب للحلول الفردية. المسؤولية كبيرة ليس فقط وفاء لمئات ألوف الشهداء وملايين الضحايا بل من أجل مستقبل الأجيال القادمة.
المصدر: موقع سوريا المستقبل