لابدّ لقارئ هذه المبحث أن يشاهدَ قبل قراءتِه فيديو يستعرضُ حركةَ أسرابِ طائر الزرزور حتى يتسنى له فهمه. الأمرُ ليس بالصعب، يكفيك عزيزي القارئَ أن تضعَ هذا العنوانَ على اليوتيوب ليخرجَ لك عشراتُ الفيديوهات التي تضعكُ أمام مشهدٍ عجيبٍ من قدرة هذهِ الطيور على الطيران ضمن مساحات ضيقة وتنسيق إبداعي في ظاهرة حيرت العلماء لسنوات طوال وكانت بابًا لفتح علمٍ جديٍد تمامًا في الفيزياء يُسمى علمَ الأنظمة المعقدة” Complex systems”.
إن تعقيداتِ المشهدِ السوري خصوصًا والشرق أوسطي عمومًا يضعُنا جميعًا كمراقبين وفاعلين ومنفعلين أمام حيرةٍ حقيقية نحتاجُ معها إلى تفكيك عميقٍ للمشهد حتى ندركَ دينامياته وتفاعلاته كحركة أسراب طيور الزرزور! وهنا ولابدّ لنا عزيزي القارئ من تناول الموضوعِ من زوايا جديدةٍ تمامًا حتى نستطيعَ أن نخرجَ بتصورات جديدة عن مستقبل المنطقة ومستقبل من يعيشُ فوق أراضيها.
سنتناول في هذه المبحث سربًا بسيطًا مشكلًا من ثلاثة طيور زرزور فقط حتى لا نثقل على القارئ.
طائر الزرزور الأول: فرنسا (الدولة والمجتمع) الوكيل المكلف على الأرض من قبل المنظومة العالمية الحاكمة بملف سوريا ولبنان! كيف تفكر تجاه المنطقة وهل هي متصالحة مع نفسِها ومنطلقاتها النظريةِ؟
صحيفةُ نوفيل أوبسرفاتور Le Nouvel Observateur الفرنسية لعام 2021 تنقلُ لنا على لسان عالم الاجتماع الفرنسي الشهير جون بوبيرو Jean Baubérot المقطعَ التالي الذي يصلحُ أن يكونَ مفتاحًا لفهم حركةِ الزرزور الأول: “إنَّ المسؤولين الفرنسيين لا يتحدثون عن قيم الجمهوريةِ وخطرِ تقسيم الدولة إلا عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين والدين الإسلامي، وهو ما يظهرُ بوضوح في مشروع حظرِ التعليم المنزلي الذي وضعه إيمانويل ماكرون”.
في مقال مطول لصحيفة لوفيغارو Le Figaro نشرته في بداية عام 2021 يؤكد عالمُ الاجتماع الفرنسي جون بوبيرو Jean Baubérot (الأستاذ بكلية الدراسات المتقدمة للعلوم الاجتماعية والذي يرأس قسم علم اجتماع الدين والعلمانية في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي) في رسالته المفتوحةِ إلى الرئيس ماكرون أنه:” يتفق معه على أنّ الانفصاليةَ أمرٌ مرفوض داخل المجتمع، وأنَّ الاختلافَ يصبحُ أمراً خطراً عندما يتعارضُ مع قيم الجمهورية ويخرج عن إطار التنوع الثقافي والْهُوِيَّاتي الذي ينسجم مع المنظومة العلمانية”. لقد جاءت هذه الرسالةُ في معرض نقدِ جون بوبيرو لمشروع قانون “تعزيز المبادئ الجمهورية” ومحاربة “الانفصالية” الذي يروج له ماكرون، مطالبًا ماكرون في تلك الرسالةِ بمراجعة إجراءاتِه الانتقائية وعدمِ تفسير العلمانية وفقَ منظورٍ مناقضٍ للقيم الأساسيةِ التي قامت عليها بالأساس!
من وجهة نظرِ جون بوبيرو Jean Baubérot ، فإنَّ استخدامَ مصطلحِ القيمِ لاستهداف بعضٍ وتجاهلِ بعضٍ آخرَ، قد يؤدي إلى نتائجَ عكسيةٍ ويعرقلُ عمليةَ الاندماجِ الثقافي داخل المجتمع الفرنسي، وهو ما أشار إليه الفيلسوفُ الفرنسي الراحلُ إميل دوركهايم David Émile Durkheim (1858 – 1917) حين قال :”إنَّ الاندماجَ ضروريٌّ لتشكيل المجتمعِ وتجنبِ الفوضى، لكنَّ الاندماجَ الكاملَ ينقلبُ ضد المجتمعِ نفسِه ويحوّلُ مواطنيه ومكوناته إلى أفراد غيرِ فاعلين، وهو ما يؤدي بدوره إلى استنزاف المجتمعِ وجموده” , وهو ما يذكرنا بعبارة بشارِ الأسد الشهيرة بأنه نجح في جعل المجتمعِ السوري أكثر تجانسًا!
يقول بوبيرو مخاطبًا الرئيسَ ماكرون في رسالته المطولة: “لقد شرحتَ سيدي الرئيس الخطوطَ العريضة للفكر الذي ترتكزُ عليه في خطابين، أحدهما في ميلوز Mulhouse (شمال شرقي فرنسا) في 18 فبراير/شباط 2021، والآخر في مورو Muro في الثاني من أكتوبر/تشرين الثاني 2020. قدمتَ حينئذٍ رؤيتَك لكيفية التعاملِ مع التحديات الكبيرة الماثلةِ أمامنا، وكانت رؤيةً مختلفةً تمامًا عن “العلمانية الجديدة” (مصطلح صاغه رئيس حزب الجمهوريين الفرنسي فرانسوا باروان) التي يتبنّاها اليمين “, لكن ما ينقده بوبيرو Jean Baubérot أن ماكرون توقف في منتصف الطريق. يعتقدُ بوبيرو أن إحدى المشكلاتِ الجوهرية في التعامل مع هذه القضية هي الحدودُ المسموحُ بها للتنوع والاختلاف داخل المجتمع، وكيفيةُ الحكمِ بأنّ ثقافةً ما تشكلُ عاملَ إثراء أو مؤشرًا على نزعةٍ انفصالية تهددُ قيمَ الجمهورية الفرنسية.
والمشكلة الأخرى، وفقًا للمفكر الفرنسي، هي أنّ تلك النزعةَ الانفصاليةَ قد تكونُ انعكاسًا لفشل عملية الاندماج الثقافي نتيجةَ السياسات التي سببت كثيرًا من البؤس والشقاء لفئات من المجتمع الفرنسي خصوصاً المهاجرين.
ويشددُ بوبيرو على ضرورة ألا تتحولَ اللائكيةُ من احتفاء بـ”العقل” إلى “آلهة” تجعلُ من فرنسا “الشعب المختار “على حد تعبيره، وأنّه ينبغي التحلي بالواقعية البراغماتية، واستخلاص الدروس من الماضي، إذ احتفظت فرنسا بالأعياد الكاثوليكية مع أنّها اختارت فصلَ الدين عن الدولة. ويضيفُ بوبيرو Jean Baubérot أنّ على فرنسا أن تتخلى عن المنهج الشمولي الذي تكادُ تسقط فيه، وأن تعملَ على إيجاد الحلولِ للفجوة التي ما انفكّت تتعمقُ بين فئاتِ المجتمع، وأن تعاملَ كلَّ مواطنيها على قدم المساواة.
يؤكدُ بوبيرو أنَّ مشروع إيمانويل ماكرون سوف يكرسُ تحولَ اللائكيةِ من نظام يقومُ على حياد السلطة إلى منظومة تفرضُ الحيادَ على المجتمع المدني والأفراد فحسب. ومن ثمّ فإنَّه يطلبُ من الرئيس الفرنسي أن يوضحَ طبيعةَ هذا التدخل، وأن يعملَ على مواجهة خطابِ الكراهية عبر الإنترنت ويتخذَ إجراءاتٍ من شأنها تكريسُ مبدأِ العدالة، مثل إعادةِ إحياءِ الهيئة العليا للمساواة ومكافحة التمييز، التي أسسها جاك شيراك وألغاها نيكولا ساركوزي.
في حقبة الاضطرابِ التي شهدتْها فرنسا مطلع القرن الـ20 بين مؤيدي تقاربِ الدين مع الدولة والمدافعين عن الفصل بينهما، وهي الحقبةُ التي شهدت سنّ ما عرف بقانون العلمانية لعام 1905, برز اسم أميل كومبس Émile Combes (رئيس وزراء فرنسا المتوفى عام 1921) الذي تناولَه عالمُ الاجتماع الفرنسي جون بوبيرو Jean Baubérot في أحدث رواياته “عواطف غير محتملة” والتي تروي قصةَ حب بين إميل كومبس بطلِ الرواية ، وبين راهبةٍ كرملية (تنتسبُ إلى رهبنة إخوة سيدة جبل الكرمل الكاثوليكية التي أُسست في القرن الـ12 في مملكة بيت المقدس الصليبية)، وتتعرض روايةُ جون بوبيرو المتخصص بالعلمانية الفرنسية، لدور كومبس في حقبة الاضطرابِ تلك . الروايةُ تعكسُ صراعًا قديمًا – جديدًا في فرنسا التي شَهِدَت قيامَ خمس جمهوريات منذ الثورة الفرنسية التي أقرت حقوقًا ومساواةً على المستوى النظري وفشلت على المستوى العملي – في حالةٍ مختلفةٍ عن التجربة الديمقراطيَّةِ لكُلٍّ من الولايات المتحدة وبريطانيا. يُعْزَى هذا الفشلُ بحسب فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهايةِ التاريخ والإنسان ” إلى غياب الانسجامِ الكامل بين الدولةِ والمجتمع في فرنسا!
إذن فرنسا الوكيلُ المكلفُ بالملف تشهدُ عدم انسجامٍ بين الدولة والمجتمع، وهذا الذي تعاني منه لابدَّ أن تصدرَه إلى سوريا ولبنان، ويكونَ أحدَ عواملِ المهمة في تحليلنا للأنظمة المعقدة في الملف السوري. الصحفي اللبناني سمير قصير الذي اغتيل في 2005 أدرك جزءًا من حقيقة طائرِ الزرزور الفرنسي تلك والتي انعكست في سلوكه في كل من لبنان وسوريا بكتابه الذي وضعه عام 2004 وربما كان سببًا في اغتياله “ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان: البحث عن ربيع دمشق”.
طائر الزرزور الثاني: نظريةُ الانفجارِ العظيم وتغييرُ التوجهِ في معرفة الذاتِ الإلهيةِ في العالم المُسيطر!
اعتبرَ كتابٌ علمي جديد Dieu – La science Les preuves (الله-دليل العلم) للكاتبين الفرنسيين ميشال إيف بولوري (Michel-Yves Bolloré) وأوليفيي بوناسي (Olivier Bonnassies)، حول علاقةِ العلمِ بالذات الإلهيةِ، أنَّ الاكتشافاتِ العلميةَ ذات الصلة بالنسبية، وميكانيكا الكم وتعقيدات الكائنات الحية والموت الحراري للكون -وبشكل خاص- بنظرية الانفجار العظيم، باتت كافيةً لقلب معتقدِ وقناعات أيِّ ملحدٍ لا يؤمنُ بوجود الله.
إنَّ نظريةَ الانفجارِ العظيم -التي تمَّ تأكيدُها علميًّا مطلعَ ستينيات القرن الماضي باتت أمرًا لا تشوبُه شائبةٌ- لطالما عارضها رافضو المعتقداتِ الميتافيزيقية والخرافات لأنها فتحت مجددًا المجالَ أمام رؤى لاهوتية، وقد استمرت هذه المعارضةُ حتى في ظل النازيةِ والشيوعية التي حاربت أفكارًا مثل هذه بالسجن وحتى بأحكام الإعدام.
الكاتبان على حق في إصرارهما على أنَّ تطورَ العلمِ بات أقلَّ دوغمائية Dogmatic approach (وهي حالة من الجمود الفكري حيثُ يتعصبُ فيها الشخصُ لأفكارهِ الخاصة لدرجة رفضهِ الاطلاع على الأفكار المخالفة) حينما يتعلقُ الأمرُ بالمسائل العقدية، حيثُ لم يعدْ بإمكان الملحدين الاعتمادُ عليه لإثبات عدم وجودِ الله، وأصبح بمقدور المؤمنين الاستشهادُ بالاكتشافات العلمية لإثبات وجوده.
يؤكدُ الكاتبان أنَّه في سيرورة العلم لا شيءَ يُولَدُ من لا شيء، وأنَّه إذا كان هناك “انفجارٌ عظيمٌ” فأكيد أنه كان هناك أيضًا شيءٌ قبله “ذكاء خارق يفوق التصور”.
لكنَّ المشكلةَ أنَّ الحديثَ عن “قبل” الانفجارِ العظيم يطرحُ أيضًا مشكلةً ذات صبغة زمنية، حيثُ إن الزمنَ ولد مع الانفجار، لذلك فمن السخافة أن نفترضَ وجودَ حدثٍ قبل الحدث ولا وجود وقت قبل الوقت، مما يتركنا أمام سؤالٍ بلا جواب: كيف يمكنُ لشيءٍ ما أن يولدَ من لا شيء؟ أو بطريقة أكثرَ وضوحًا: من بدأ تشغيلَ عقاربِ الزمن؟
أمرٌ واحدٌ فقط يقرُّه كلُّ العلماءِ سواء كانوا مؤمنين أو ملحدين وهو: مبدأُ التساؤلاتِ الميتافيزيقية، وهو ما يُعَدُّ بحد ذاتِه خطوةً عملاقة إلى الأمام بالنسبة للمؤمنين بغض النظرِ عن معتقداتهم، حتى أن عالم الفيزياء النظرية ألبرت أينشتاين بنفسه انتهى به المطافُ بقبول فكرةِ وجودِ إلهٍ حين قال: “السببُ الأولُ وراء الأشياء”.
طائر الزرزور الثالث: علي شريعتي منظرُ المنظومةِ الشيعية التي تحكمُ الهلالَ الشيعي الحالي (سوريا العراق لبنان …)
السيد أحمد الخميني نجلُ آيةِ الله الخميني يقول واصفًا علي شريعتي: إن ما قدّمه الدكتور شريعتي كان عظيمًا، بحيثُ يتعذرُ عليّ الآن الإحاطةُ به لأنه في الواقع كان ولا يزال معلّمَ الثورةِ الإسلامية.
يُعَدُّ علي شريعتي من أبرز روادِ الحركة الإسلامية الإيرانية وفي مقدمة مفكريها ويراه الكثيرُ من أتباع الحركة الإسلامية الشيعية في إيران بأنَّه مُلهِمُ الثورةِ الإسلامية التي قادها المراجعُ الشيعية بزعامة آية الله الموسوي الخميني في 1979 وأدت إلى الإطاحة بحكم البهلوي في إيران.
في الصفحة 81 من كتابه “في تاريخ الشيعةِ “يقول علي شريعتي: من هو الشيعي؟! الشيعي هو ذلك الإيرانيُّ أو الرومي أو العربي المحرومُ الذي لجأ إلى الإسلام فرارًا من النظم الطبقيةِ والارستقراطية، من أجل الوصول إلى القيادة الإنسانية والعدالة ورفض الطبقيةَ والعرقية، وما هو ذا يرى أن هذا الإسلامَ موجودٌ، تلك الشعارات موجودة، لكنها سقطتْ ثانيةً في أيدي القياصرة والموابذة والمساواة والبابوات الذين تسموا بأسماء أخرى…
في الصفحة 84 يسألُ علي شريعتي السؤال التالي: حقيقة لماذا يُعظِّمُ الشيعيُّ كربلاء بالرغم من استهانته بالحج؟! يأتي الجوابُ في الصفحة 85:” قد صار تعظيمُ الحج لصالح الخليفة مباشرة وهو……لا يستطيع أن يعظمَ حجًّا صار شعارًا يستفيدُ منه العدوُّ…
في الصفحة 86 يسأل علي شريعتي كربلاء أو الكعبة: إذن وقد سقط الحجُ كشعار في يد العدو ما العمل؟! الاتجاه معلوم ومعروف، الطواف بقبر الحسين، هو إذن الطوافُ حول الكعبة الحقيقية….
يتابع علي شريعتي في الصفحة 87:” ومن هنا، فإنَّ زيارةَ الحج والاتجاه إلى الله ليست بالذهاب إلى الكعبة بل بالذهاب إلى الحسين”….
في الصفحة 91 يقول علي شريعتي:” من هنا يرتكزُ الشيعي على “العترة” ما دام الجهازُ يريدُ عن طريق “السنة” أن يبيدَ العترةَ ويقضي عليها…
في الصفحة 95 يقول علي شريعتي :”عندما يرى الشيعيُّ أنَّ الزكاةَ تُستخدمُ في القضاء عليه، والمسجدُ هو موضعُ مقتلِ علي في البداية ، وموضع مقتل فكر علي في النهاية ، يتجهُ إلى الخمس والحسينية حتى يمنحَ نضاله الدائمَ منذ علي وحتى الآن…الإمكان والقدرة.
في فكر علي شريعتي ليس هناك شهادةٌ في مواجهة الغزاةِ أو اليهود وإنما الشهادةُ في مواجهة الحكومة…يقول علي شريعتي في الصفحة 97:” الشهادةُ: تعني أنَّه ليس للشيعي في مواجهة جهاز الحكومة الخلافة من ثروة أو سلاح إلا “الشهادة”.
في الصفحة 98 عندما يتحدث علي شريعتي عن الغلو في التحدث عن مناقب علي وكراماته ورفعه إلى مصاف الآلهة” …يجاوب علي شريعتي بالتالي: “إذا عدنا إلى التاريخ وجدْنا الظلم الذي حاق بهذه الأسرةِ لما توقفنا عن الدهشة فحسب، بل و لاعتبرنا ما يحدثُ لازمًا وليشاركنا فيه!!”
في سنة 1973 أغلقتِ السلطاتُ الإيرانية (حسينية الإرشاد) التي ساهم شريعتي في تأسيسها سنة 1969م، واتخذها منطلقًا لمحاضراته ونشاطه، وقامت باعتقاله، هو ووالده، لمدة عام ونصف، ثم أفرجت عنه بعد وساطة جزائرية، وسُمح له في مايو من العام 1977م، بالسفر إلى لندن، لكن بعد أقل من شهر عُثر عليه ميتًا في شقته هناك، ولم يُسمحْ لجثمانه بأن يُدفنَ في إيران، فوافقت السلطات السورية (حافظ الأسد) – التي كانت على خلاف مع نظام الشاه – على أن يُدفنَ فيها، ودُفن – كما تمنى- بجانب ضريحِ السيدة زينب في دمشق.
قد يكونُ الطريقُ الى القدس الذي يمر بدمشق والقصير وحلب وقريبًا إدلب وقد مر سابقًا بكلٍّ من بغدادَ وصنعاءَ هو مسجد القبلتين الذي سيُحوِّلُ بحسب فلسفةِ علي شريعتي قبلةَ المسلمين من مكةَ إلى كربلاء ويُكتبُ القرآن بحرف فارسي لا عربي!
الأنظمة المعقدة كنظرية وأين يمكن تطبيقها في ملفات المنطقة الشرق أوسطية
مُنحتْ جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2021 بشكل مشترك لكل من الإيطالي جورجيو باريزي Giorgio Parisi، وسيوكورو مانابي Syukuro Manabe الياباني، والألماني كلاوس هاسلمان Klaus Hasselmann “لمساهمتهم الرائدة في فهمنا للأنظمة المعقدة” complex systems “.
جائزة البروفيسور باريزي، المقسمة مع علماء الأرصاد الجوية الرائدين البروفيسور مانابي والبروفيسور هاسلمان، هي اعترافٌ مذهلٌ بمجال بحث كامل – ربما أقل بريقًا قليلًا من أمثال النظرية النسبية العامة General relativity أو نظرية الأوتار String Theory – التي تحاول فهمَ وصياغة ما نسميه في الفيزياء “الأنظمة المعقدة”.
الأنظمةُ المعقدةُ تشملُ على سبيل المثال لا الحصر: النظمَ البيئية المناخية، والأنظمةَ المالية، والظواهرَ البيولوجية. إنَّ التنوعَ الهائلَ للأنظمة المعقدة – من أمثال حركة وتقلبات الأسواق المالية وحركات أسراب طيور الزرزور …الخ – يجعلُ من الصعب للغاية اشتقاقَ أيِّ نوع من القواعد العالمية لها. لكن عمل باريزي Parisi سمح لنا باستخلاص استنتاجات غير مسبوقة حول عمل هذه الأنظمة التي تبدو ظاهريًا عشوائية وغيرَ متوقعة لا وبل من المستحيل نمذجتها نظريًا مثلها مثل الكثير من الملفات السياسية العالقة وعلى رأسها أزمات المنطقة الشرق أوسطية وتحديدًا الملف السوري.
على عكس بعضِ النماذج الفيزيائية الأخرى، فإنَّ الأنظمةَ المعقدة ليست مجموعة من الجسيمات والعناصر المتطابقة، والتي تتفاعلُ بانتظام بطريقة متسقة يمكن التنبؤُ بها. بدلًا من ذلك، الأنظمة المعقدة عبارة عن أنظمة من العناصر، يحتملُ أنْ تكونَ مختلفةً عن بعضِها بعضًا، وتتفاعل بطرق مختلفة ويبدو أنها غير متوقعة أثناء تعرضها لظروف وعوامل خارجية مختلفة.
تُعَدُّ نظريةُ “الأنظمة المضطربة “disordered systems نقطةَ انطلاقٍ لنمذجة الأنظمةِ المعقدة. وهي في الأساس أنظمةٌ تُختبرُ فيها أزواجٌ مختلفةٌ من العناصر قوى مختلفة، يُحتملُ أن تكونَ متضاربة بحيث يمكنُ أن تقودَ تلك القوى العناصر إلى ما يعرف ب “الإحباط”Frustration.
تتمثل إحدى طرقِ توضيحِ ذلك في تخيل حفلة اجتماعية (نظام اجتماعي مغلق)، حيث قد ترغب ليلى في الدردشة مع محمد، وقد يرغب محمد في الدردشة مع علي ، لكن علي قد لا يرغب في الدردشة مع ليلى. هناك إحباطٌ هنا – فماذا يجبُ أن يفعلوا؟
أوضح بحثُ البروفيسور باريزي Parisi ما يحدثُ عندما يحدثُ الإحباطُ في أنظمة مضطربة ومعقدة. لقد حدد أنَّ الأنظمةَ المعقدةَ قادرةٌ على تذكر مساراتها بمرور الوقت، ويمكن للأنظمة المعقدة أن تتعثرَ في حالات دون المستوى الأمثل لفترة طويلة من الزمن.
في مثالنا على الحفلة، تخيل ليلى، محمد، علي وغيرهم من الضيوف يغيرون بشكل غيرِ منتظمٍ مجموعاتِ المحادثةِ والشركاء، على أمل العثورِ على أفضل مجموعةٍ من الأشخاص للدردشة معهم – ولكن من المحتمل ألا يجدوها أبدًا. هذه هي حالات دون المستوى الأمثل التي يمكن أن تتعثرَ فيها الأنظمة المعقدة.
أنماط الفوضى
إحدى الأدوات النظريةِ العديدة التي استخدمها البروفيسور باريزي Giorgio Parisi لتأسيس نظريته هي ما يسمى بـ “خدعة النسخ المتماثلة replica trick” – وهي طريقة رياضية تأخذ “الأنظمة المضطربة” disordered systems “وتكررُها عدة مرات وتقارنُ كيف تتصرفُ النسخُ المتماثلة. يمكننا القيام بذلك، على سبيل المثال، عن طريق ضغطِ كراتٍ زجاجية في صندوق، والذي سيشكل تكوينًا مختلفًا في كلِّ مرة تقومُ فيها بالضغط. عرف باريزي Parisi أنه على مدى العديد من التكرارات، قد تظهر أنماط معبرة.
هذه الطريقة هي الآن واحدة من الركائز النظرية القليلة لتطوير النظرية الكاملة حول الأنظمة المعقدة كما نعرفها اليوم. لقد ثبت أنَّ نظريةَ البروفيسور باريزي Parisi تعطي تنبؤات موثوقة حول الخصائص الإحصائية للأنظمة المعقدة والتي تتراوح من حركة السوائل فائقة التبريد (السوائل تحت درجة حرارة التصلب)، والسوائل المجمدة، والمواد الصلبة غير المتبلورة مثل الزجاج، وحتى حركة أسراب طائر الزرزور وربما في المستقبل القريب التنبؤ بمآل ملفات سياسية معقدة مثل الملف السوري.
تسمح لنا نظريةُ الأنظمة المضطربة “disordered systems” بفهم أنماطِ الطيرانِ المتماسكة والجميلة وبمسافاتِ مناورةٍ ضيقة داخل أسراب طيور الزرزور – التي تمكنت من الالتصاق ببعضِها بعضًا وتشكيلِ مجموعاتٍ كبيرة على الرغم من الظروف المعاكسة.
تم استخدامُ نفس الإطار لفهم مناخ الأرض. حيث اعتمد علماء الأرصاد الجوية الذين يتشاركون جائزة نوبل مع البروفيسور باريزي على هذه التطورات في الفيزياء النظرية لإنتاج النماذج التي نستخدمها الآن لإثبات ظاهرة الاحتباس الحراري بشكل يمكن الاعتماد عليه والوثوق به.
لو أتيحت لنا الفرصةُ لمناقشة حركةِ طيور الزرزور الثلاثة مع الأستاذ باريزي Parisi في روما، وأضفنا لها طيورَ زرزور أخرى كطائر الزرزور التركي والروسي والأمريكي وزرزور البترودولار وزرزور القارة الوسطى لكيسنجر وزرزور الأقليات وزرزور الإسلام اليساري وزرزور الصهيونية العالمية….. وأجرينا معه عمليات المحاكاة الحاسوبية للأنظمة المضطربة تلك، ربما لوجدنا مخرجًا من مشهد مليءٍ بالأنظمة المضطربة إلى مشهد يملأه علمُ الأنظمة المعقدة ليُخرِجَ لنا نموذجًا يمكن الوثوق به لحل الملف السوري الذي يُعجز الدول وليس الأفراد.
إنَّ مجالَ الأنظمةِ المعقدة، الذي يدفعُ بهدوء نحو حدودِ البحثِ النظري في الفيزياء، قد تمَّ الكشفُ عنه. وأعطتْ جائزةُ نوبل 2021 لجيورجيو باريزي Giorgio Parisi هذه شرعيةً جديدة – ويمكنُنا أن نأملَ، بأن يكونَ هذا المجالُ الرائع للفيزياء المعاصرة سبباً في فهم المشهد السريالي السوري والشرق أوسطي ..