في قراءتنا للواقع السوري، هناك حقيقتان تبدوان مسيطرتين منذ أعوام، على الرغم من كل محاولات إنكارهما؛ الأولى هي أن المسار العام للأحداث الميدانية، بعيدًا من تفاصيل ومجريات الواقع، يتجه نحو استعادة النظام السوري الهيمنة على الجغرافيا السورية كاملة، وحدوث تفاهمات دولية وإقليمية مؤقتة، ضمنية أو ظاهرة، معه. والثانية هي توجه دول عديدة نحو إعادة علاقاتها مع النظام السوري استنادًا إلى مبرِّرات متنوعة، ما يعني أن مسار التطبيع معه أصبح خيارًا لعدد من دول المنطقة.
في المقابل، تحتاج هاتان الحقيقتان إلى الإقرار بحقيقة أو نتيجة سياسية، خلاصتها أن رهانات القوى والشخصيات المعارضة، وعدد من الدول الإقليمية والعربية، خاصة الخليجية، كانت خاطئة وواهمة، وأن أنماط التفكير والشعارات والأدوات والآليات التي استخدمت لإسقاطه أو لإحداث تغيير يصبّ في مصلحة الشعب السوري وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية كانت خاطئة هي الأخرى. هذا كلام لا يحبّ كثيرون أن يسمعوه، ولكن يجب أن يُقال.
بعد عام على انطلاق الثورة، سيطرت أوهام الانتصار العسكري ضد النظام، وأوهام إمكان قبول العالم بسيطرة الإسلاميين والإسلامويين على السلطة في سورية. صحيح أن النظام السوري قد مرّ بمراحل ضعف على الصعيد الميداني، لكنه كان يدرك سلفًا أن حلفاءه لن يسمحوا بإسقاطه عسكريًا، وسيهرولون لإنقاذه. يُضاف إلى ذلك أن كثيرًا من الدول “الداعمة” للثورة السورية لن تسمح بإسقاطه على يد فصائل وقوى إسلامية، وهي إذ دعمت هذه الأخيرة عسكريًا فإنما دعمتها لإزعاج النظام وإيران، لكن من دون أن تسمح لها بتحقيق انتصارٍ نهائيٍّ. تكمن إحدى مشكلاتنا في أننا نغرق في مجريات المعارك والتفاصيل القتالية، وننسى في الوقت ذاته القوانين والحقائق الكبرى أو الاستراتيجية. كل القوى والفصائل العسكرية على الأرض السورية قوى وظيفية، صفرية، محكوم عليها بالتلاشي، بدءًا من لحظة تأسيسها، فهي مصمّمة لتؤدي دورًا مؤقتًا أو لتخدم سياسة معينة، ثم يجري إنهاؤها أو تتلاشى أو تغادر الساحة، بما فيها القوى الكردية المسلحة.
إن إدراك المسارات العامة والاستراتيجيات مهم وأساسي كي لا نبني أوهامًا انطلاقًا من تقدّم ميداني هنا أو هناك كما حصل. لقد جرّ النظام السوريين إلى العسكرة وانجروا معها، لأنه يعلم أنهم لا قبل لهم به، ولا شك في أن استنفار الطاقة كلها في الميدان العسكري، واختزال الثورة إلى فصائل هنا وهناك، قد حطمها تدريجيًا، لأنه لم يترك أي مساحة أو أهمية للعمل السياسي/المدني المنظّم أو لأي عمل آخر، فعندما ظهرت بوادر الهزيمة العسكرية لم نجد أي عكازة أخرى بين أيدينا يمكن أن تسند طموحنا إلى دولة وطنية ديمقراطية.
تستند الحتمية المسيطرة على العقول بسقوط النظام السوري إلى معايير أخلاقية بصورة رئيسة (كيف لنظام ارتكب كل هذه الموبقات أن يستمر؟!)، وكأن الأنظمة تسقط في حال كانت غير أخلاقية، في حين أن الواقع تحكمه، بصورة رئيسة، موازين القوى بمعناها الشامل؛ الموازين السياسية والثقافية والعسكرية والإعلامية والمجتمعية، العلاقات الإقليمية والدولية، الأيديولوجية… إلخ، والأخلاق السياسية جزء من منظومة الموازين المعقدة هذه. ميزان القوى الواقعي هو الذي يفرض الحقائق؛ لا تقل الجرائم التي ارتكبها الروس والأميركان عن الجرائم التي ارتكبها النازيون المهزومون. العار، كل العار، يحمله الضعفاء. لذلك، تتجلى نقطة الضعف الأساسية في التفكير “الثوري” المهيمن في أنه لم يضع في حسبانه احتمال “استمرار النظام” أبدًا، فلو فعل لكانت بين يديه خطط وسيناريوهات وقوى أخرى نحن في أحوج ما نكون إليها اليوم.
إذا قارنا السياسات الخليجية بالسياسة الإيرانية سنكتشف بساطتها، استراتيجيًا ولوجستيًا على أقل تقدير، فضلًا عن إحساسها الدائم بالرعب وعدم ثقتها بنفسها، وإذا قارنا سياسات “المعارضات السورية” بسياسات نظام الأسد سنكتشف أنها أقرب إلى سلوكات دراويش التكايا في مواجهة تلاميذ ميكيافيللي. تعتمد سياسات النظام على النفس الطويل، وكل سياسات المعارضة كان نفسها قصيرًا، ولا تراكم في اتجاه محدّد، ويفني بعضها بعضًا. يمكن أن نصف السياسات الإيرانية والروسية وسياسات النظام السوري بكل الصفات غير الأخلاقية التي عرفتها البشرية عبر تاريخها، لكن هذا لم يكن ذا فائدة أو قيمة خلال العقد الماضي، بل لم يكن مفيدًا في دراسة سياسات الدول أو في مواجهتها عبر التاريخ كله.
النقطة التي كانت تغيب عن المعارضة هي التقدير الصائب لقوة النظام السوري؛ فقوة النظام ليست مستمدة من شخصياته أو بناه العسكرية والاقتصادية، فهذه ليست شيئًا يعتدّ به في الموازين الإقليمية والدولية، بل هي مستمدة من سورية ذاتها؛ من موقعها الجيوسياسي وارتباطها الوثيق بمشكلات وأزمات المنطقة كلها، في لبنان وفلسطين والعراق وتركيا، فضلًا عن ارتباطاتها بإيران وروسيا، ما يجعل من سورية، فعليًا، رقمًا صعبًا في المنطقة. يذكرنا هذا بمقولة كيسنجر: لا يمكن للعرب أن يقاتلوا من دون مصر، ولا يمكن أن يعقدوا سلامًا من دون سورية. والنظام السوري بوصفه المعترف به عالميًا والسلطة “الشرعية” داخليًا، يستطيع استثمار إمكانات سورية بدرجة عالية، فيما المعارضات السورية ليست كذلك. في السنوات الخمس الأخيرة على الأقل، أصبح النظام السوري أفضل سيناريو بين سيناريوهات كلها سيئة، وهذه الخيارات السيئة الأخرى هي من دون شك من صناعة أميركا وتركيا ودول الخليج والمعارضات السورية؛ حتى هذه النقطة كانت مدركة على طول الخط من النظام السوري.
تؤيد الإدارة الأميركية الحالية، ضمنيًا، التطبيع مع النظام السوري، ولا مشكلة فعلية لديها في عودة العلاقات بين سورية والدول العربية، ولذلك افتتح ملك الأردن، عبد الله الثاني، باب التطبيع مع النظام السوري. كذلك، تدفع الإدارة الأميركية الحالية المعارضة السورية و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، للحديث مع الروس أو لإبرام صفقة مع النظام السوري، على الرغم من أنها في 25 حزيران/ يونيو الماضي قد هدّدت بتطبيق عقوبات على الدول التي ترغب في تطبيع العلاقات مع النظام السوري، مؤكدة أنه لا طريق لتحقيق السلام والاستقرار في سورية سوى عبر تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254.
مشكلات أميركا مع نظام الأسد محصورة بالآتي: مشكلة تركيا مع الكرد، مشكلة التطرف والإرهاب، أمن “إسرائيل”، النفوذ الروسي والإيراني. عمليًا، لا يوجد في سورية من يستطيع أن يحدّ من هذه المشكلات سوى النظام السوري. أما تركيا فهاجسها الرئيس هو منع وجود كيان أو حكم ذاتي كردي على حدودها يمكن أن ينقل العدوى إليها، وأفضل سيناريو متاح، بالنسبة إلى أميركا وتركيا، هو عودة الكرد إلى سلطة النظام السوري. الكرد لن يكون لهم دولة أو كيان، وأميركا لن تدعم هذا المسعى. أما مشكلة داعش والتطرف فلا يحتاج النظام إلى حافز ليقوم بالمهمة عن أميركا في حال قبلت ضمنيًا ببقائه. وتأمل أميركا أن يقلِّل مسار التطبيع من حاجة النظام إلى روسيا وإيران، ما يسمح أيضًا بتطمين “إسرائيل” لجهة عدم تحقيق إيران لأحد أهدافها بوجودها على حدود “إسرائيل”.
ليس بعيدًا أيضًا أن تنخرط تركيا في مسار التطبيع مع النظام، وربما يكون لتطورات الداخل التركي دورٌ في دفع هذا المسار. هناك عناوين كثيرة محتملة للتقارب التركي مع النظام؛ منع تشكيل حزام خاص بالفرع السوري لمنظمة حزب العمال الكردستاني، إعادة اللاجئين السوريين، الاستعداد لمرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي المحتمل. عادة ما يبدأ التطبيع من البوابة الاستخبارية أو البوابة الاقتصادية، ومن ثم يُتوّج سياسيًا ودبلوماسيًا. أما الدول العربية الخليجية، فبعد أن استندت سابقًا، في إدارتها للصراع مع النظام السوري، إلى تصورات ساذجة، فإنها اليوم تجهِّز نفسها لتطبيع علاقاتها معه، مستندة إلى فرضية مضحكة، تتلخّص بأن إعادة العلاقات معه ستؤدي إلى تغيير علاقته بإيران، وستحدّ من تأثير ميليشياتها. هذه الفرضية تشبه حادثة الطالب الذي وصل إلى الامتحان بعد انتهائه.
لكن، عندما تتحول هاتان الحقيقتان إلى واقع مرئي، هيمنة النظام على الجغرافيا السورية كاملة، وتطبيع دول عديدة لعلاقاتها معه، لا يعني هذا أن الصراع انتهى، فهذا الأخير باقٍ ما دامت أسبابه باقية. اليوم السوريون وحدهم، وليس عليهم أن ينتظروا أحدًا، ويا ليتهم كانوا وحدهم طوال العقد الماضي كله، فمن المؤكد أن الخسارة كانت لن تكون بدرجة الخسارة الحالية. لكن، أصبح مهمًا وحيويًا الاقتناع بأن الحقل الرئيس الذي ينبغي الاهتمام به لتحقيق انتصار حقيقي على النظام هو الحقل السياسي؛ حقل بناء قوى سياسية وطنية ديمقراطية، وهو ما لم يكن محطّ اهتمام أبدًا طوال السنوات الماضية. في الحقيقة، لم يقم السوريون بعمل جدي، حقيقي، تراكمي، منظّم، طويل النفس، لتغيير النظام فعلًا، طوال السنوات الماضية، على الرغم من تضحياتهم وخسائرهم التي فاقت كل خيال، بل عملوا كل ما من شأنه أن يساهم في بقائه.
المصدر: المدن