بداية لا بد من القول إن معرض إسطنبول الدولي للكتاب العربي (مئتان وخمسون دار نشر عربية مشاركة) يمتاز عن غيره من المعارض التي تقام في البلدان العربية بأنه يلبي حاجة العرب الموجودين في تركيا وهم كثر، إذ يعدون بالملايين من سوريا ومصر وليبيا واليمن والسودان وغيرها، ومعظم هؤلاء متشوقون للكتاب، ومن بينهم مثقفون وإعلاميون متنورون هُجِّروا من أوطانهم لهذه الصفة، فالحاكم العربي كاره للحديث في السياسة والإعلام والثقافة.
وتستقطب تركيا كونها بلداً سياحياً العرب في فصول السنة كلها، وما يعطي المعرض أهمية أيضاً أنه يأتي هذا العام بعد سنتين من حظر أشكال التجمع بسبب انتشار فيروس “كورونا” ومن ميزاته الخاصة أن بعض بلديات إسطنبول تمنح التلاميذ بطاقات مجانية لشراء الكتب (يستبدلها أصحاب دور النشر بحسب قيمتها).
ولكن دعونا نتحدث عن أوجاع القراءة والكتاب عندنا نحن العرب! ولا بد من تكرار عبارة تقال دائماً، وهي “إن العرب لا يقرؤون”، وإن استهلاكهم لورق الطباعة يأتي في آخر دول العالم، فقبل عقود قليلة كانت دور النشر العربية تطبع ألف نسخة للعنوان الواحد أو ألفي نسخة على أبعد تقدير، اليوم يكتفون بمئتي نسخة أو ثلاثمئة، وبعضهم يختصر العدد إلى مئة نسخة. ثم على ضوء السوق “يسوق” (وهذه الطباعة هي نوع من التصوير أو ما يسمى بـ”الديجتال”، وفي هذه الحال، غالباً ما يكون المؤلف غافلاً عن هذا الأمر) أما الكتب التي تطبع بكثرة فهي كتب تراثية، ويدعمها معظم الحكام إذ يجدون فيها الأمن على أنظمتهم أكثر مما تفعله الكتب الحداثية التي تعنى بالثقافة المعاصرة: فكراً وأدباً واهتماماً بروح الحضارة وأدواتها أي ما يهمُّ الأجيال الناشئة!
المواطن العربي يقرأ 6 دقائق سنوياً!
إن ملاحظة ما جاء في تقرير التنمية البشرية للعام 2003 الذي نشرته منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونيسكو» تعطي صورة عن فقر العرب في هذا الجانب الذي هو البداية الصحيحة لكل نشاط إنساني:
“إن المواطن العربي يقرأ في السنة أقل من كتاب بكثير، فكل 80 شخصاً عربياً يقرؤون كتاباً واحداً في السنة مقارنة بالمواطن الأوروبي الذي يقرأ نحو 35 كتاباً”.
ومما جاء في «تقرير التنمية الثقافية» للعام 2011 الصادر عن «مؤسسة الفكر العربي» إن العربي يقرأ 6 دقائق سنوياً كمعدل عام، في حين يقرأ الأوروبي 200 ساعة سنوياً.. إلا أنَّ هذه الأرقام لا تشمل قراءة النصوص الدينية على أنواعها، التي إذا ما شملها الإحصاء تتغير تغيراً كبيراً”.
وإذا كان الكتاب العربي طباعة وقراءة قد شهد في بعض البلدان مثل مصر وسوريا ولبنان والعراق توهجاً مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، فقد أخذ يتراجع بعد عقدين أو ثلاثة فقط. يعني مع بداية التضييق على الحريات العامة زمن استبداد العسكر، وما ماثلهم من حكام.. وأكثر ما يُلحظ هذا الأمر في سوريا، فقد أخذت كثير من المكتبات تغلق مع بداية ثمانينيات القرن الماضي.. واستبدل بها أصحابها الألبسة والأحذية أو الحلويات كما حدث في شارع القوتلي من مدينة حلب، إذ كان عامراً بالمكتبات ودور السينما. وما حدث يشير إلى طبيعة تحول المجتمع إلى نمط استهلاكي لا تعنيه الثقافة في شيء. وبقي الكتاب من اختصاص النخب الثقافية التي تعد في مجتمعاتنا قلة قليلة..
ويمكن إضافة أمر آخر من همِّ الكتاب هو ارتفاع سعره، قياساً لدخل الفرد، ومرد ذلك، كما أشير، إلى عدم طباعة نسخ كثيرة إذ كلما ازدادت النسخ المطبوعة انخفضت الكلفة، ما يعني أن سعر الكتاب يتناسب عكساً مع زيادة عدد قرائه، (في أوروبا يعد الكتاب سلعة تلعب دوراً في زيادة الدخل القومي) ولا شك في أن بعض الحكومات العربية مسؤولة عن هذا الأمر في ناحيتين الأولى منهما: إنَّ أمر الكتاب الجاد المنفتح على حضارة اليوم لا يعنيهم في كثير أو قليل، وعلى العكس فهم لا يحبذون هذا النوع من القراءة التي تفتّح العقول، وتحركها، فهمُّ المستبد أن تبقى نائمة.. ولو أرادوا فعلاً لعملوا على غرس حبّ المطالعة من خلال مناهج التربية والتعليم في المدارس وغرسوا حبَّ القراءة في نفوس التلاميذ منذ مراحل التعليم الأولى، ولتخلصوا من طرق التعليم القائمة على التلقين التي لا تثير الأسئلة ولا تسمح بالبحث عن إجابات سليمة.. فالحاكم العربي لا تعنيه هذه المسائل وهو لا ينزع إلى التغيير أو التجديد ولا يسعى إلى مستقبل أفضل لبلاده، مستقبل يساهم فيه الشعب على اختلاف فئاته وتنوعها، وإن لم يكن الأمر كذلك فمن أين أتى كل هذا التخلف الذي تفجَّر مع الثورة المضادة التي أتت على الربيع العربي لو لم تكن العقول مقفلة بمنعها عن ممارسة الحريات السياسية.
الناحية الثانية هي ارتفاع تكاليف الكتاب قياساً لعدد النسخ، ومعروف أن كلفة الكتاب تحسب بدءاً بالتدقيق اللغوي ثم الإخراج الفني وتصميم الغلاف، ثم أجور الطباعة. وقبل ذلك حصة المؤلف. ومعظم المؤلفين، وبخاصة الجدد منهم، يطبعون على نفقتهم مؤملين أن يستردوا ما دفعوه.. ناهيكم بمقابل تعبهم وشقائهم في التأليف إبداعاً أم أبحاثاً. أما تكاليف المعارض فحدِّث ولا حرج.. فمن أجور الشحن إلى كلفة الأجنحة إلى نفقات العارضين من أجور سفر وفنادق وسوى ذلك.. لاحظوا أن ألفاً أو ألفي نسخة لأربعمئة مليون عربي المفترض أن نصفهم يجيد القراءة ومع ذلك لا تباع هذه النسخ خلال سنة أو سنتين.. في حين كانت تباع في شهور خلال مرحلة خمسينيات القرن الماضي وأوائل ستينياته.
“ثورة” التكنولوجيا الرقمية
أما أهم خطر يهدد الكتاب الورقي اليوم فهو تجاوز التكنولوجيا الرقمية الجديدة له، والحقيقة لا يصح أن نطلق عليها خطراً.. فهي نمو راق ومتقدم، إنها ثورة تماثل ثورة اكتشاف الورق بل تتفوق عليها! وإذا كان الورق قد ألغى الرُّقم الطينية والحجرية، والكتابة على جلود الحيوانات، وسعف النخيل، وسوى ذلك.. فإن الثورة الرقمية تهدد الكتب التي أخذت تضيق بها الأبنية، في وقت صار كل منا يحمل في حاسوبه مكتبة تتجدد باستمرار، وكثير منها مجاني. ناهيكم بالمواقع الإلكترونية التي تعج بمئات المقالات إضافة إلى مراكز البحث التي أحدثت خلال الربيع العربي وفي المغتربات وتنتج دراسات في غاية الأهمية تعنى بشأن السياسة والاقتصاد والتنمية إضافة إلى الأدب والفنون.. وهناك أيضاً أمر جديد آخر منافس، وهو الكتاب المسموع الذي يقرؤه عليك صوت عذب بنبرة تمثيلية مختلفة ثم هناك ما يسمى بـ: “البودكاست” التي تكفيك عناء الاختيار وغالباً ما تكون اختيارات موفقة ولا يكاد موقع يخلو منها. وثمة أقنية حرة متعددة.. ولكل هذه القراءات السماعية متعتها وفائدتها، إذ إنها كسرت التابوهات الثلاثة التي يفرضها الاستبداد.
أخيراً: إن تكنولوجيا العلم الحديث تعمل على توحيد مفاهيم الحضارة طوعاً أو كرهاً. ومن يرفض يبقى خارج التاريخ وكم من الكائنات الحية انقرضت لعدم قدرتها على التأقلم مع ظروف جديدة فاجأتها. فهل يعي الحكام ما يجري في العالم أم أنهم سيظلون يناطحون بقرون من طين؟ أعتقد أن حركة الحياة هي الأقوى، ولا بد منتصرة.
المصدر: موقع تلفزيون سورية