من يعتقل الناس ويُخفيهم في سجون سرّية ويعذّبهم ويقتلهم تحت التعذيب وينهب ممتلكاتهم ويدمّرها، كما فعل نظام الأسد وما زال منذ عشر سنوات، لن نستغرب منه أبدًا حرمان الناس حتى من مستحقاتهم وحقوقهم التقاعدية، لمجرّد أنّ لهم رأيًا معارضًا لسياسته، كما لن يكون مستغربًا أبدًا ألاّ يجرؤ حتى رئيس مجلس الوزراء في سورية على إبداء الرأي في صرف المستحقات التقاعدية لورثة المتوفى، قبل أن يأخذ أولًا رأي اللواء علي مملوك (رئيس مكتب الأمن الوطني) في هذا الموضوع المهم والخطير الذي يتوقف عليه مصير سورية!
هذا ما حصل مع ورثة المرحوم (ب، أ) الذين فوجئوا برفض مؤسسة التأمينات الاجتماعية بدمشق صرف معاش الوفاة المستحقة لهم، عن وفاة مؤرثهم المؤمّن عليه لدى المؤسسة المذكورة التي لم تكلّف نفسها عناء بيان أسباب الرفض. فاضطر الورثة إلى تقديم دعوى أمام محكمة البداية العمالية بريف دمشق، طلبوا فيها إلزام مؤسسة التأمينات الاجتماعية بصرف معاش وفاة مؤرثهم، فكانت المفاجأة بأن ممثل قضايا الدولة قال في المحكمة: “إن المتوفى مؤرث الجهة المدعية كانت له مواقف سليبة ضد الدولة”، ولتأكيد كلامه، أبرز كتابًا موجّهًا من رئيس مجلس الوزراء السابق وائل الحلقي إلى مؤسسة التأمينات الاجتماعية، ورد فيه حرفيًا: “أفادنا السيد رئيس مكتب الأمني الوطني بكتابه رقم وتاريخ ××× أنه لا مانع من تصفية حقوق /م،ع/، وعدم الموافقة بالنسبة للعاملين / ب،أ/ كون موقفه سلبي تجاه الدولة، و/م،أ/ كونه مشبوهًا أمنيًا”. ماذا يعني أنه “مشبوه أمنيًا”؟ هل أصبح الناس -بنظر علي مملوك- يدانون على الشبهة؟ أين هي قرينة البراءة؟ ألم ينصّ دستور الأسد في المادة 51 على أنّ “كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم في محاكمة عادلة”؟ وختم رئيس مجلس الوزراء كتابه بعبارة إذعان لرأي اللواء علي مملوك: (يرجى الاطلاع وإجراء المقتضى وفقًا لما ورد أعلاه). ومن يقرأ الكتاب، يعتقد أن مجلس الوزراء يتبع لمكتب الأمن الوطني!!
وكان الورثة يأملون من القضاء أن ينصفهم ويأمر بصرف معاش الوفاة لهم، باعتباره حقًا لهم، إلا أن ظنهم قد خاب، فالمحكمة بعد أن أكدت في حيثيات الحكم أن ممثل قضايا الدولة أرفق توجيهًا من رئيس المجلس الوزراء لرفض الدعوى، عادت في الأسطر التالية، واعتبرت “التوجيه” قرارًا صادرًا عن رئيس مجلس الوزراء، وبالتالي، فالدعوى يجب أن تقام أمام القضاء الإداري المختص بالنظر في صحة أو عدم صحة القرارات الإدارية. وهذا -لعمري- تزوير فاضح، وقعت فيه هيئة المحكمة التي تعمّدت هذا الأمر حتى لا تحكم للجهة المدعية في دعواها المحقة، وإن توجيه رئيس الحكومة لا يُلزم القضاء بشيء، وإنّ ذكر المحكمة لكلمة قرار لا يجعل من التوجيه قرارًا. ويجب على محكمة الاستئناف فسخ القرار والحكم للجهة المدعية، بإلزام مؤسسة التأمينات الاجتماعية بصرف معاش الوفاة لورثة المتوفى، استنادًا إلى نص المادة 88 من قانون التأمينات الاجتماعية: “إذا توفي المؤمّن عليه أو صاحب المعاش، كان للمستحقين عنه الحقّ في تقاضي معاشات بقدر الأنصبة المقررة بالجدول رقم (3)، بشأن إصابات العمل، ورقم (3آ) بشأن الشيخوخة والعجز والوفاة. ويقصد بالمستحقين في المعاش: أرمل أو أرملة المؤمن عليه أو صاحب المعاش، أولاده وإخوته الذكور الذين لم يجاوزوا الحادية والعشرين، الأرامل والمطلقات وغير المتزوجات من بناته وأخواته، الوالدان”.
فالورثة لا يطلبون منّة من مؤسسة التأمينات ولا حسنة، بل يطلبون حقًا مكتسبًا لهم، حيث كان مؤرثهم يدفع شهريًا من جهده وعرقه مبالغ مالية، إضافة إلى ما كان يدفعه ربّ العمل إلى مؤسسة التأمينات على امتداد أكثر من 28 سنة في العمل. وإن دور مؤسسة التأمينات الاجتماعية يقتصر على المحافظة على تلك المبالغ وتنميتها وتقديم الرعاية للعناية الطبية، للمؤمّنين الذين يصابون بإصابات عمل أو أمراض مهنية، وصرف رواتب وتعويضات للمؤمن عليه بعد تركه العمل بسبب التقاعد أو العجز، أو لورثته ممن يعيلهم في حالة الوفاة.
ثم أليست مؤسسة التأمينات الاجتماعية تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، ويمثلها مديرها أمام القضاء والغير؟ فما الداعي إذًا لأخذ رأي رئيس مجلس الوزراء في صرف معاش الوفاة لورثة المؤمن عليه، وهو حق مكتسب لهم ومحمي بالقانون؟ وما هو الخطر الذي يمثله صرف هذا المعاش على أمن سورية حتى يؤخذ رأي رئيس مكتب الأمن الوطني في الصرف من عدمه؟ ثم ما علاقة صرف المعاش التقاعدي بموقف ورأي المؤمن عليه، سواء أكان مواليًا للحكومة أم معارضًا لها؟
وسبق لبشار الأسد أن أصدر المرسوم رقم 20 لعام 2012 الذي قضى بتسريح كل عامل أو موظف في الدولة من الخدمة، مهما كان القانون الخاضع له، وحرمانه من الأجر والراتب ومن كافة الحقوق التقاعدية ومن المعاش التقاعدي أيضًا، إذا ثبتت إدانته بحكم قضائي مكتسب الدرجة القطعية بالقيام بأي عمل إرهابي، سواء كان فاعلًا أو محرضًا أو متدخلًا أو شريكًا أو انضمامه إلى المجموعات الإرهابية أو تقديم أي عون مادي أو معنوي لهم، بأي شكل من الأشكال. والأمر ذاته ينطبق على العسكريين والشرطة والضابطة الجمركية وعناصر المخابرات العامة وجهاز المكافحة، وفقًا للمرسوم 47 لعام 2012.
ألم ينصّ الدستور والقانون على أن العقوبة شخصية تطال فقط شخص مرتكب الجرم وفقًا للقانون؟ ثم ما ذنب العائلة التي يعيلها الموظف بحرمانها من حقوقها المكتسبة التي هي حقّ أيضًا للعائلة، وليس للموظف، لا يجوز المساس به.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنّ وزير العدل القاضي أحمد السيد أصدر تعميمًا في 15/9/2020 اعتبر فيه الموافقة الأمنية شرطًا أساسيًا للحصول على الوكالة القضائية للغائب أو المفقود، وهو أمر يخالف دستور الأسد نفسه، فلا يجوز لوزير العدل فرض إجراء قانوني لم يرد عليه في نص القانون المعني وهو قانون الأحوال الشخصية، ويحتاج الأمر إلى تعديل من الجهة المخوّلة بالتشريع، وليس إلى تعميم أو قرار إداري. وبموجب هذا التعميم، لم يعد القاضي الشرعي يستطيع إجراء هذه الوكالة إلا بعد الحصول على الموافقة الأمنية. وبصدور هذا التعميم؛ تكون الدائرة قد اكتملت بالنسبة إلى مختلف أنواع الوكالات التي بات الحصول عليها مشروطًا بالحصول على الموافقة الأمنية أولًا.
وبعد خمسة أيام من صدور التعميم المذكور، تناهى إلى مسمع الوزير أن بعض القضاة في المحكمة الشرعية المشهود لهم بالكفاءة والعدل لن يتقيّدوا بمضمون التعميم، لمخالفته للدستور والقانون، فدعا مجلس القضاء الأعلى إلى الاجتماع، وأصدر قرارًا بنقل هؤلاء القضاة المشكوك بأمرهم من المحكمة الشرعية، ومن بينهم القاضي الشرعي الأول الذي نُقل إلى وظيفة محام عام في النيابة التمييزية، وهي وظيفة هامشية يُنقل إليها المغضوب عليهم، وعيّن بدلًا منهم قضاة جددًا، وقد لاقى هذا النقل استنكارًا واستهجانًا واسعًا من المحامين والمهتمين.
إن فرض الموافقات الأمنية لا يجد أيّ سند له في الدستور والقانون، وهو يفتقر إلى الشرعية القانونية، ولا يأتلف مع مبدأ سيادة القانون الذي هو أساس الحكم في الدولة، وفق ما نصت عليه المادة 50 من دستور الأسد نفسه.
لم يبقَ إلا أن يشترط نظام الأسد على الزوجين الحصول على موافقة أمنية قبل الاختلاء ببعضهما في السرير!
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة