حضرت الرسائل باستخدام النيران في إدلب، شمال غربي سورية، بعد قمة الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، في سوتشي يوم الأربعاء الماضي، والتي ناقشا فيها حزمة من الملفات السورية، في مقدمتها الوضع في إدلب، إذ لا تزال التفاهمات التركية ـ الروسية حيال المحافظة محط تعثر لتنفيذ الاتفاقات، المبهمة أساساً، بسبب الغموض الذي يكتنف معظم بنودها ومحطاتها المتعددة.
وشهدت إدلب، صباح أمس الجمعة، تصعيداً من جانب النظام وروسيا، بعد أقل من يومين على القمة التي من المفترض أنها ركزت على تهدئة الوضع في هذه المنطقة. وأغار الطيران الحربي الروسي على محيط قرية الزيارة في سهل الغاب غربي حماة، فيما قصفت قوات النظام السوري بالمدفعية والصواريخ محيط قرية ومخيم بانتنا بريف إدلب الشمالي، ما تسبب في مقتل سيدة وإصابة عدد آخر من المدنيين. كما طاول القصف، بصواريخ أرض ـ أرض، مناطق عدة في منطقة جبل الأربعين قرب مدينة أريحا جنوبي إدلب، إضافة إلى أطراف بلدات مرعيان وكفريا ومعرة مصرين ومحيط مدينة جسر الشغور بريف إدلب، فضلاً عن مدينة جسر الشغور نفسها، التي يعتبرها الروس والنظام هدفاً استراتيجياً قادماً، بالإضافة لمدينة أريحا ومحيطها، لكونهما تقعان قرب الطريق الدولي حلب ـ اللاذقية “أم 4” المار من إدلب، والذي يبغي النظام والروس الوصول إليه بهدف فتحه أمام الحركة التجارية.
وأول من أمس الخميس، أي عقب انتهاء القمة بأقل من 24 ساعة، عملت القوات التركية على رفع كتل إسمنتية بمواجهة قوات النظام قرب خطوط التماس في جبل الزاوية جنوبي إدلب، وفق معلومات “العربي الجديد”. وأكدت مصادر عسكرية من المعارضة السورية، لـ”العربي الجديد”، أن القوات التركية أرسلت مجموعة استطلاع تابعة لها، من قاعدتها العسكرية الواقعة في معسكر المسطومة، القريب من مدينة أريحا غربي محافظة إدلب، إلى أطراف بلدة بينين، الواقعة في الجهة الشرقية الجنوبية من منطقة جبل الزاوية، وذلك بهدف إنشاء نقطة عسكرية جديدة لها في المنطقة خلال الأيام المقبلة. وأشارت المصادر إلى أن القوات التركية عزّزت، خلال الأيام القليلة الماضية، نقاطها العسكرية المنتشرة على الخطوط الشرقية والجنوبية من منطقة جبل الزاوية بمدافع ثقيلة ودبابات ومدرعات وجنود، لافتة إلى أن “عدد الآليات الثقيلة التي أدخلتها القوات التركية إلى منطقة جبل الزاوية خلال الأيام السبعة الماضية تجاوز الثلاثين مدفعاً ودبابة من طرازات مختلفة”.
كل ذلك يشي بأن أنقرة باتت تستعد لسيناريوهات سيئة في إدلب، ما يعني أن قمة بوتين ـ أردوغان لم تفرز تفاهمات استراتيجية حول مصير المحافظة، مع ترك الترتيبات للمسؤولين التقنيين، سواء الدبلوماسيين والعسكريين، للاتفاق عليها كما حدث من قبل. علماً أن اجتماعات التقنيين الروس والأتراك حول إدلب في محطات مختلفة، لم تفرز إلا مزيداً من التصعيد، في إطار سياسة عض الأصابع التي كانت تلعب على وقع عقد طاولات المفاوضات.
وتكمن صعوبة التفاهم بين كل من أنقرة وموسكو حول إدلب، بالإجابة عن سؤال مهم، مفاده ماذا ستطلب موسكو من أنقرة وبالعكس، للتوصل إلى تفاهم معين، يعده متابعون على أنه سيكون بمثابة المقايضة. الإجابة عن هذا السؤال تؤدي إلى طريق مسدود، إذ تطلب موسكو إبعاد المجموعات الراديكالية في إدلب، وكل من يرفض التفاهمات الروسية ـ التركية، بغية تهيئة المناخ لإدخال مؤسسات النظام السوري إليها، وفي المقام الأول فتح الطريق الدولي “أم 4” أمام الحركة التجارية لتخفيف الأعباء الاقتصادية على النظام، فيما تريد تركيا التوغل أكثر شمال شرقي البلاد بهدف طرد المجموعات الكردية وإبعادها عن الحدود، وهذا الأمر لا يمكن لروسيا إعطاء قرار أو أمر حاسم حياله. فعلى الرغم من العلاقة الروسية الطيبة مع “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، و”الإدارة الذاتية” الكردية لشمال وشرق سورية، إلا أن ملف تلك المنطقة يبقى بيد الأميركيين بالمطلق، نظراً لوجود القوات الأميركية هناك، والشراكة بين “قسد” وواشنطن في محاربة تنظيم “داعش”.
ورأى القيادي في المعارضة السورية، المحلل العسكري، العميد فاتح حسون، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “التعامل مع روسيا في الملفات السياسية غالباً كالتعامل مع ناكص بالعهود بشكل مسبق، وبالتالي هذا يستوجب أخذ الحيطة والحذر بأعلى مستوياتهما، تحسباً لأي مفاجأة باتفاقية مبرمة يمكن عقدها معها”. وأضاف أن “اتفاقية سوتشي حول إدلب بين تركيا وروسيا، والتفاهمات اللاحقة حول بعض نقاطها، ليست بمنأى عن الإطار السابق للتعهدات الروسية، وهذا ما تترجمه روسيا بقصفها لمنطقة إدلب قبل وبعد اجتماع الرئيسين التركي والروسي، وفي الوقت نفسه تترجمه تركيا بقيامها برفع السواتر والكتل الإسمنتية على خطوط التماس في منطقة إدلب، ورفع الجاهزية القتالية لقواتها في مناطق تجمعها”. وأشار إلى أن “الغايات الروسية من وراء ذلك عديدة، منها إرسال رسالة إلى تركيا رداً على موقفها من القرم، وأفغانستان، وأذربيجان، وليبيا، وملفات أخرى”.
ولا يتوقع حسون “حدوث صدام عسكري حالي ولا مستقبلي بين تركيا وروسيا، ولكن هذا لا يعني توقف القصف الروسي، واختيار الرد المناسب من قبل تركيا بشكل مباشر، أو عن طريق قوى الثورة والمعارضة في المنطقة”. وقال: “صحيح أن العنوان المتفق عليه بالتصريحات أخيرا بين تركيا وروسيا هو إبقاء الوضع على ما هو عليه في إدلب، لكن روسيا لن تلتزم، لا سيما أنها تطمح لسد الفراغ في منطقة شرق الفرات في حال انسحبت القوات الأميركية، الأمر الذي تحاول تركيا منعه، وتدارك سلبياته وتطويقها إن حدث”.
من جهته، رأى الصحافي والمحلل السياسي التركي فراس رضوان أوغلو، أن تصريحات أردوغان بتمسك بلاده بالاتفاقيات القديمة حيال إدلب، تعني أن هناك عرضاً روسياً جديداً لأنقرة حيال إدلب. وأشار، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن الروس دائماً ما كانوا يقدمون عروضاً للأتراك حول إدلب، وكانت تلك العروض تقابل بالرفض، إذ يشدد المسؤولون الأتراك بأن المقابل يجب أن يتضمن حلاً كاملاً وشاملاً للأزمة السورية”. وأوضح أن “تركيا لن تقبل بعودة النظام إلى الأرض المتاخمة لحدودها كونها تعتبره نظاما معاديا، وهذا مرتبط بحل شامل للقضية السورية، يكون للمعارضة دور سياسي فاعل فيه”.
وتوقع رضوان أوغلو أن يكون هناك تصعيد من قبل النظام والروس حتى يتم الجلوس لطاولة التفاوض بين المسؤولين الروس والأتراك، وأنقرة لديها قوات ذات طبيعة قتالية في إدلب، وهذا لا يعني أن يكون هناك صدام مع الروس. وربما يكون هناك مواجهة جديدة مع قوات النظام رغم استبعاد الأمر في المرحلة الحالية، لذلك يرى أن التصعيد سيكون مؤقتاً ووسيلة ضغط لتحصيل مكاسب على طاولة التفاوض. ونوه بأن تركيا باتت أخيراً تتجاوب مع روسيا حيال بعض الملفات في سورية، كون أنقرة باتت تدرك أن النظام والروس توسعوا على رقعة جغرافية كبيرة من البلاد، وربما يتم التعاون في بعض الملفات الاقتصادية لإنعاش بعض المناطق، لكن مع الحذر من تبعات قانون “قيصر” الأميركي.
المصدر: العربي الجديد