في البدء، يهمني أن اوضح بأن ما أخطه الآن من كلمات في الذكرى الخمسين لرحيل جمال عبد الناصر ،ليس الهدف منها تقديم وجهة نظر سياسية تحليليلة نقدية تخص الرجل وتجربته العسكرية والسياسية والثورية على الصعيدين المصري والعربي وحتى الصعيدين العالمي والانساني…ولو أنني كنت أتمنى ذلك..
فعبد الناصر وتجربته وثورة 23 تموز / يوليو التي ملأت حياة المصريين والعرب وأفريقيا وآسيا وكل حركات التحرر في أمريكا اللاتينية وغيرها ، تستحقان مثل هذه الدراسات والنقاشات العلمية والافكار النقدية..بالرغم من مئات الكتب والدراسات والمقالات التي صدرت بجميع اللغات الحية على مستوى العالم كله..
وأقصد بالدراسات الجديدة العربية منها تحديدا..لأننا وبعد مرور نصف قرن من الزمان مايزال عبد الناصر مالئ دنيانا وشاغل شعوبنا ..
ومايزال البعض من المحسوبين على الفكر والادب والثقافة والسياسة يرددون جمل وكلمات باهتة مثل ” البكباشي.. المهزوم..القمعي..الخ ” ولا يجدون عنده اوله أي ايجابية تذكر..
وأكاد أجزم ان مثل هؤلاء الذين لم يقرؤوا كتابا واحدا او دراسة واحدة مما صدر عبر هذه السنوات الطوال سواءا انصفت الرجل ام لم تنصفه..
وفي كل مرة تأتي ذكراه ” يلوكون ” كلامهم الممل..وتراهم يستشيطون غيظا حين يرون بأم اعينهم ” حنين ” الناس البسطاء الذين اطلق عليهم أحد هؤلاء الجاهبذة وصف ” الدهماء ” واعتبر هو وغيره ان الحنين ” تهمة او جريمة ” ..
ولم يكلف نفسه هو وغيره ويتساءل لماذا الشعب المصري الذي فجر ثورة يناير لم يرفع خلالها سوى صورة عبد الناصر..
وسأكتفي بهذا القدر وأعلن انني وبكل فخر انتمي لهذه ” الدهماء “…!؟
سأعود الان الى مكان بودي الحديث عنه بهذه المناسبة وهو علاقتي أنا ” الولد والشاب والرجل ” ب..أبو خالد…
عرفت عبد الناصر أول مرة حين رفعني المرحوم والدي فوق كتفيه أمام قصر الضيافة في قلب العاصمة السورية دمشق
بالتأكيد لا أذكر في أي سنة لكنها أول الستينات..كل الذي أذكره ان والدي وبعد ان رفعني للاعلى قال لي : طلع هناك يابا شايف البلكونة الكبيرة..هداك جمال عبد الناصر ..اللي عم يخطب شايفه…”.. !
بصراحة، لا اذكر إذا كنت رأيته أم لا..كل ما اتذكره ان صياح والدي اختلط بصياح ” بحر البشر ” المحيط بنا حينها..
بعدها بفترة ليست قليلة سأعرف لماذا اطلق والدي على شقيقي الذي يصغرني بثلاث سنين ” جمال “..وسيصبح اسم جمال عبد الناصر مألوفا في بيتنا وحارتنا ومدرستنا الابتدائية المالكية وصرفند من خلال احتفالنا بعيد الوحدة وقيامنا بتعليق ” الزينة والكورنيش واعلام الوحدة ” وحديث بعض اساتذتنا عن جمال عبد الناصر مثل الاستاذ ” مفضي النابلسي ” و الاستاذ ” عمر الشهابي ” وغيرهما…
بعدها ستعيش سوريا حدثا جللا ويعيش معها مخيم اليرموك واحدة من أصعب أيامه..
في الثامن عشر من تموز / يوليو 1963 أي بعد شهور قليلة من قيام انقلاب ” 8 آذار ” الذي قام به مجموعة من الضباط والسياسيين البعثيين والناصريين وأسقطا من خلاله ” حكم الانفصال “..
قامت مجموعة من الضباط الناصريين بحركة انقلابية جديدة بقيادة جاسم علوان ، ردا على ما اسموه باستئثار البعثيين بالسلطة ..
من بين من شاركوا بالانقلاب عدد كبير من ضباط وجنود ومتطوعي ” الكتبية 68 ” وجلهم من الفلسطينيين وكانت بقيادة الضابط ” اكرم الصفدي “..
المهم أن الانقلاب فشل بسبب اختراقه من الداخل..وحصلت مواجهات دموية ارتكب من خلالها مجزرة كبيرة بحق الضباط والجنود الناصريين..
من بين هؤلاء الضباط والمقاتلين هربت مجموعة كبيرة منهم والتجأت الى مخيم اليرموك وهم بالاساس من سكان المخيم..
ودارت مواجهة كبيرة بين هؤلاء وبين القوات التي لحقت بهم أمام جامع عبد القادر الحسيني في قلب المخيم والقريب من بيتنا ( نفس الجامع الذي قصفته طائرات نظام القتلة في 16- 12-1912).
على اثر هذا الانقلاب استقدم النظام حينها عدد من الدبابات وطوق المخيم ومنع التجوال بداخله..وقام بحملة اعتقالات واسعة داهم من خلالها البيوت لاعتقال هؤلاء ومن يأويهم..وأيضا بدأ باعتقال كل من يعلق صورة لجمال عبد الناصر في بيوتات المخيم..وكان من بينهم بيتنا…
أتذكر حينها ان بيتنا كان عبارة عن غرفتين صغيرتين..طلب والدي من أمي وأختي الكبيرة اميرة وشقيقي الصغيرين محمد وفاطمة المكوث بالغرفة البعيدة قليلا عن المدخل ..وأخذني وشقيقي جمال ووقفنا ثلاثتنا تحت صورة عبد الناصر..وقال : ضلكو واقفين معاي تحت الصورة حتى لو هدوا البيت…!
بعدها سأعرف ان والدي كان ينتمي فكريا وسياسيا ل ” حركة القوميين العرب “..
بمرور الوقت اصبح وعيي ينضج ،وصرت أقرب لوالدي و ” ناصريته ” التي تزداد سخونة أكثر وأكثر…!
في الخامس من حزيران / يونيو كنا متحلقين حول والدي وصديقه المقرب جدا جهاز الراديو ” ابو بطارية “..
والدي لايستمع سوى ل ” صوت العرب ” ينطلق صوت ” احمد سعيد ” يتهلل وجه والدي..أمضينا يومنا الأول على هالمنوال..
في اليوم الثاني صار والدي عصبيا ووجهه يحمر ويصفر حسب صوت المذيع..في اليوم الثالث والرابع والخامس..لم نعد نستطيع النظر في وجه والدي..خيم الصمت في بيتنا وحارتنا ولم يعد أحد من جيراننا يقترب من بيتنا لسماع الاخبار من الراديو الوحيد في حارتنا..
في 8 /6 عاد الجيران وتحلقوا حول والدي لسماع خطاب عبد الناصر.. الصمت سيد الموقف..والدي يرفع الصوت الى أعلى مستوى..ابو خالد يتحدث والصوت حزين…ويقول : ..فقد قررت ان اتنحى عن أي منصب رسمي…
ينتصب والدي واقفا مزمجرا، ينظر حوله يشاهد أمي ..يصرخ بأعلى الصوت : ” اسمعي ياعايشة..شو ماكان اللي موجود بطنك إسا ولا بعدين..ولد ولا بنت..بدنا نسميه عبد الناصر…مش احنا اللي بنتركه لحالو….احنا معاه ..شو قلتي ..!؟
الاحداث تتسارع ووالدي يلاحقها وانا معه والى جانبه و” ناصريتي ” تزداد سخونة ..معارك الاستنزاف تلتهب ووالدي يستعيد ألقه وفجأة….تتفجر ” معركة الكرامة ” ويظهر ” الفدائي ” الفلسطيني..
ويعلن : هنا صوت فلسطين..صوت الثورة الفلسطينية….
وينطلق من القاهرة صوت العرب ثانية : اصبح عندي الآن بندقية..الى فلسطين خذوني معكم….
اقترب من والدي اكثر..بيتنا يزداد حيوية أمي تفرح ب ” حملها ” وكأنها لم تحمل تسع بطون قبله..
يعود أيلول / سبتمبر ..ويحل بيننا القادم الجديد ” عبد الناصر “…يحس والدي ووالدتي وكأنهما أوفيا بالعهد والدين…
تفرح أمي به كثيرا ويعتبره والدي ” وجه السعد والخير “….!
بقدوم شقيقنا عبد الناصر تحدث انفراجة في حياتنا..يتغير وضع والدي المهني ويتقدم خطوة بالتعاون مع خالي ابو زهير الخطيب في مجال الأعمال الحرة..
بالمقابل يستعيد علاقته الجدلية بين وطنيته الفلسطينية وقوميته العربية..
حينها اصبحنا نتعرف على اسماء لم تكن معهودة لدينا..
على الصعيد الفلسطيني لم نكن نعرف سوى الراحل احمد الشقيري بحكم علاقة والدي به حين جاء لزيارة مخيم اليرموك وقت إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية..
وهمسا كنا نسمع اسم جورج حبش وهو الأقرب الى قلب والدي بحكم علاقته بحركة القوميين العرب..
وهمسا أقل اسم العاصفة وابو عمار…
بعد الكرامة ظهرت فتح وياسر عرفات اكثر تألقا..ومع بروز ” كوفية ” ابو عمار ذهب بيتنا بأغلبيته الى ” حطة ” الختيار.
مع الاخذ بعين الاعتبار ان هذه التطورات لم تؤثر على الحضور الطاغي لجمال عبد الناصر وصورته المتصدرة لغرفة والدينا..
مع بروز وتنامي حركة المقاومة الفلسطينية وبروز تأثيرها المعنوي والمادي بالاوساط الفلسطينية والعربية والدولية..واحتدام المعارك العسكرية على الجبهة المصرية..اختلطت الاوراق وتنامى الفكر اليساري الثوري والماركسي بشكل لافت..
التهبت الجغرافية العربية ولم يعد مسموحا بالحلول والافكار الوسط…ولم يعد هناك قدرة على التمييز بين الاستراتيجي والتكتيك…بين ” لملمة ” الجراح والخسائر واعادة ترتيب الاوراق..وبين الحل الثوري الجذري بدون تقدير الامكانات المتاحة المتوفرة…
واشتعل حريق ” أيلول الأسود “….
مساء 28 أيلول/ سبتمبر 1970 كنت في صالة سينما الكرمل ( حفلة السادسة ) أشاهد فيلم ” خدني معاك ” بطولة احمد رمزي وسميرة احمد…
عند منتصف الفيلم تقريبا..توقف العرض وأعلن العزيز صلاح ابو غيدا صاحب دار السينما باكيا ..وفاة الرئيس جمال عبد الناصر…
خرجنا من السينما مسرعين لنشاهد المئات بل الالاف في شارع فلسطين يهتفون وينتحبون في مشهد لا يمكن أن يفارق مخيلتي..
عدت للبيت مسرعا..حال حارتنا في شارع الجاعونة كحال شارع فلسطين..أمي واخوتي وبعض الجيران ينتحبون كالاطفال..والدي خارج البيت…
بقينا في انتظاره حتى ساعة متأخرة من الليل..وصل ..لم اشاهد والدي باكيا بهذه الحرقة من قبل او بعد…..
وللحديث بقية
المصدر: صفحة محمود خزام