ترافقت فكرة الاعتقال السياسي في سورية بعد استقلالها، مع بدايات الانقلابات العسكرية منذ نهاية أربعينيات القرن الفائت، وتوالي مسلسل الصراع على السلطة سواء بعناوين عسكرية أو مدنية. بيدَ أن فرض قانون الطوارئ عام 1963، إثر سيطرة السلطة البعثية الأولى على الحكم، أسس لإطلاق يد الأجهزة الأمنية في تلك الحقبة، لاعتقال خصومها ومعارضيها السياسيين، تحت غطاء قانون استثنائي، يُعزى له تقويض منظومة الحقوق والحريات الفردية، التي كفلتها الدساتير السورية السابقة، لا سيما دستور العام 1955.
تُسعفنا هذه الخلفية في توضيح السياق التاريخي، الذي تعرضَ خلاله سوريون وفلسطينيون في “حكمهم”. لأنواع من انتهاك حرياتهم الفردية، لكنها بقيت ضمن نطاقٍ محدود في الفترة ما بين نهاية الخمسينيات وعقد الستينيات، وشملت بحكم انخراط اللاجئين الفلسطينيين في شتى جوانب الحياة السورية، أعداداً منهم كانت تنتسب لأحزاب قومية وشيوعية وناصرية. من أكثر الشواهد على اعتقال فلسطينيين في تلك المرحلة، على خلفية الاستقطابات السلطوية الداخلية، وليس بحكم هويتهم الفلسطينية فحسب، حملة الملاحقة والاعتقالات التي قامت بها السلطة في 18 تموز/ يوليو 1963، عشية المحاولة الانقلابية الفاشلة للعقيد جاسم علوان، والتي طاولت الفلسطينيين المنضوين في كتيبة الاستطلاع الخارجي (الكتيبة 68) التي تتبع الجيش السوري. حيث أصدرت المحكمة العسكرية، بعد عدة أيام من اعتقالهم، أحكاماً بالإعدام على (90) سورياً و(12) فلسطينياً غالبيتهم كانوا من مخيم اليرموك، بتهمة مشاركتهم في الانقلاب. فيما فرَّ قرابة (40) متهما فلسطينياً إلى لبنان ومصر.
اعتقال الفلسطينيين نهجاً أسدياً
تُسعفنا وقائع ذائعة الصيت، وفي وقت مبكر من تاريخ حافظ الأسد، على كيفية تعامله مع الوضعية الفلسطينية من منظور نوازعه وحساباته السلطويّة. كانت حادثة مقتل القيادي البعثي يوسف عرابي في دمشق عام 1966، واتهام عبد المجيد الزغموت بقتله “مع عدة روايات متضاربة حول تلك الحادثة” بمثابة فرصة استغلها الأسد الذي كان وزيراً للدفاع وقتذاك، لتأليب القيادة البعثية الحاكمة على حركة فتح التي ينتسب إليها المُتهم، وتحريض دوائر السلطة على تقييد العمل الفدائي إلى درجة التحكم به. حتى بعد انقلابه وتسلّمه زمام السلطة عام 1970، أبقى الأسد على الزغموت سجيناً سياسياً لأكثر من 34 عاماً، حتى وفاته داخل السجن. تكشف تلك الحادثة المُبكّرة، عن توظيف الأسد لأسلوب الاعتقال السياسي ضد الفلسطينيين، كأداة قمعية ممنهجة لإدارة العلاقة السورية – الفلسطينية من وجهين. الأول، وسيلة ضغط على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، كي تعمل تحت عباءته السلطويّة، وبما يحقق حساباته السياسية العربية والإقليمية والدولية. الثاني، وسيلة تأديب واحتواء للمجتمع الفلسطيني في سورية ولبنان، لمنعه من إظهار الولاء لغير السلطة الأسديّة.
تؤكد حقبة الأسد الأب منذ العام 1970 وحتى وفاته عام 2000، على الأثمان الفادحة التي دفعها آلاف المعتقلين الفلسطينيين، على اختلاف انتماءاتهم الحزبية والسياسية سواء لحركات سورية أو فلسطينية، في معرض فرض سلطته المطلقة على السوريين والفلسطينيين، وتنكيله بكل من يحمل توجهاً يُعارض أو يخالف سياساته الداخلية أو الخارجية. لم تكن مصادفةً عابرة أن يفتتح الأسد الأب أولى سنوات حكمه، باعتقال مجموعة مؤلفة من (17) شاباً وشابة من “المنظمة الشيوعية العربية” التي كانت تستهدف ضرب المصالح الأميركية في المنطقة، حيث أصدرت إحدى المحاكم الاستثنائية في دمشق بتاريخ 29/7/ 1975، حكماً بإعدام (5) من بينهم (4) فلسطينيين وسوري، وبالحكم المؤبد على (4) آخرين، والحكم بالسجن على الـ (5) المتبقين لمدة خمسة عشر عاماً، وكان نصفهم من الفلسطينيين. لم تفلح كل المناشدات، لإصرار النظام على تنفيذ تلك الأحكام الجائرة، التي كان يريد من خلالها الضرب بيدٍ من حديد على المد الثوري الصاعد بين صفوف الشباب في تلك المرحلة. عدا أنها رسالة تطمين للأميركان، بقدرة الأسد على إنهاء وتصفية كل من يهدد مصالحهم في سورية والمنطقة.
مع ولوغ الأسد الأب في تكريس الطابع الأمني لحكمه الديكتاتوري، وملاحقته وبطشه بالجماعات السورية التي عارضت السلطة من خلفيات فكرية وسياسية متعددة، وبحكم انتساب عدد من الفلسطينيين لتلك الأحزاب السورية، فقد كان لهم نصيبهم من تجارب الاعتقال السياسي، التي اختبرها أترابهم السوريون. هذا ما نراه جلياً خلال حملات الملاحقة والاعتقال التي استهدفت رابطة العمل الشيوعي منذ نهاية السبعينيات، ثم التي طاولت حزب العمل الشيوعي واللجان الشعبية خلال الثمانينيات، وكان من بين معتقليها عدد من الشبان الفلسطينيين المتعلمين والمثقفين في غالبيتهم. ينطبق الأمر أيضاً على عدد آخر من الفلسطينيين الذين جرى اعتقالهم، بتهمة أو شبهة انتمائهم لجماعة الإخوان المسلمين، بعد تعرض الجماعة في بداية الثمانينيات لحملات اعتقال واسعة، لا سيما في محافظتي حلب وحماة. أما العدد الأكبر من حملات الاعتقال الجماعي التي طاولت الفلسطينيين قبل الثورة، فكانت عشية الصراع الذي خاضه الأسد الأب، ضد قيادة فتح ومنظمة التحرير في العام 1983 وما بعده، بهدف تصفية وجودهم من مخيمات لبنان وسورية، ومحاولاته السيطرة على القرار الوطني الفلسطيني، مستعيناً في ذلك بفصائل فلسطينية موالية له. شملت الحملة الكبيرة عام 1985 أكثر من 3500 معتقل من قيادات وكوادر وأعضاء الحركة، وزجَ بغالبيتهم في سجني صيدنايا والمزة، وتعرضت أعداد كبيرة منهم للتعذيب بمختلف الوسائل، وكان من بين أولئك المعتقلين أطفال أيضاً كان يطلق عليهم مجموعة الـ (19).
لم يَسلم فلسطينيون آخرون في تلك المرحلة من بطش النظام، لمجرد الشك بولائهم له، أو رفضهم المشاركة في ضرب المخيمات الفلسطينية في لبنان. ولا أدل على ذلك من مأساة العميد عطية عوض، الذي كان قائد اللواء (38) التابع لجيش التحرير الفلسطيني، والذي رفض تنفيذ الأوامر الأسديّة بقصف مخيمات طرابلس عام 1983، فتم اعتقاله وإهانته وتعذيبه، وما زالَ مصيره مجهولاً منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا. يجدر التذكير هنا؛ بأدوار نظام الأب في استخدام حركات فلسطينية ولبنانية مدعومة منه، للتنكيل بالحركات الفلسطينية المناوئة له وحواضنها المجتمعية، كما فعلت حركة “الانتفاضة والقيادة العامة والصاعقة”، خلال حرب المخيمات الأولى 1983- 1984، من عمليات اعتقال وتسليم مطلوبين له من حركة فتح والقوى والشخصيات القريبة منها. ودور حركة أمل اللبنانية، خلال حرب المخيمات الثانية ما بين الأعوام 1985 و1988، في اعتقال المئات من الفلسطينيين في لبنان، وتسليمهم لأجهزة المخابرات السورية.
فظائع اعتقال الفلسطينيين في زمن الثورة
تكشف بقدر ما تُفسّر تلك المحطات التاريخية، جوهر العقلية الأسدية في تعاملها الأمني مع ظاهرة المعتقلين الفلسطينيين في السجون السورية، وهي العقلية الإجرامية التي أورثها الأسد الأب بعد وفاته لابنه الوريث، ومارسها الأخير خلال محطات الثورة السورية من خلال أجهزته الأمنية وأدواته التشبيحية. منذ بدايات الثورة وضع النظام الفلسطينيين أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يقفوا إلى جانبه في حربه الشعواء ضد الشعب السوري الثائر عليه، وإما أن يكون مصيرهم القتل والاعتقال والتغييب والموت بالتعذيب، عدا عن تدمير مخيماتهم وتهجيرهم منها. لم يكن غائباً عن ذهنية الفلسطينيين، طبيعة هذا النظام القمعي الشرس، بحكم تجاربهم الطويلة معه، مع ذلك رفض القسم الأكبر منهم الخيار الأول، ووقفوا مع الشعب السوري في حقه بنيل الحرية والكرامة.
من أبرز سمات ظاهرة اعتقال الفلسطينيين خلال الثورة، مدى حقد أجهزة النظام الأمنية على الشعب الفلسطيني، وما يلقاه المعتقل الفلسطيني خلال التحقيق ومراحل احتجازه، من أشد أنواع الإذلال والإهانة والتعذيب النفسي والجسدي. أظهرت العديد من شهادات المعتقلين/ات الفلسطينيين/ات، الذين نجوا من الاعتقال، ما تعرضوا له من اتهامات بخيانة النظام والوقوف مع (الإرهابيين). وفق توثيقات لمنظمات حقوقية وإنسانية فلسطينية وسورية، واجه مئات المعتقلين/ات صنوفاً من التعذيب الشديد المُفضي للموت، ما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن (630) معتقلا/ة فلسطينيا/ة. علماً أن بعض الهيئات الحقوقية والتقارير الصحافية، تُقدر عدد الفلسطينيين الذين دخلوا الفروع الأمنية والسجون ومراكز التوقيف، بما يُقارب (12000) شخص خلال سنوات الثورة. لا يزال (1800) منهم في عداد المغيبين قسرياً، عدا عن (300) شخص مفقود، ومن بين المغيبين قسرياً يوجد أكثر من (110) فتيات ونساء معتقلات وفق وثائق مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية، والعديد من الرضع والأطفال المعتقلين مع أمهاتهم. من بين شهادات كثيرة، تروي المعتقلة الناجية هناء الحسين بعد خروجها من المعتقل، وهروبها للشمال السوري ما تعرضت له، والعديد من المعتقلات الفلسطينيات والسوريات اللواتي كنّا معها في فرع فلسطين، من تعذيب وحشي متواصل، واغتصابها لأكثر من مرة من شخص يُعرف داخل الفرع بعزرائيل.
لا ينفصل ملف المعتقلين/ات الفلسطينيين/ات خلال الثورة، عن قضية مئات ألوف المعتقلين/ات السوريين/ات، سواء من حيث أسباب وطبيعة وظروف الاعتقال، وتداعياته الكارثية على حياة المعتقلين/ات وأسرهم، وعلى المجتمع عموماً. كل تلك الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي قام بها النظام بحقهم، وبمشاركة مليشيات فلسطينية تابعة له، تندرج باعتبارها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وفق تحقيقات هيئات ولجان دولية مُحايدة ومُستقلّة. يُعد ملف قيصر الذي يتضمن صور آلاف المعتقلين/ات السوريين/ات، ومن بينهم صور عشرات المعتقلين/ات الفلسطينيين/ات، دليلاً دامغاً على مسؤولية النظام الجنائية عن تلك الجرائم المروّعة.
أخيراً: ثمة مرامٍ سياسية لم تعد خافية، من وراء اعتقال وتنكيل النظام بالفلسطينيين، وهي رسائله إلى الإسرائيليين، بقدراته على تفكيك الوجود الفلسطيني في سورية، وليس استخدامهم فحسب للمتاجرة بالقضية الفلسطينية. إذ إن قمعهم واعتقالهم وتغييبهم القسري، على هذا النحو الجماعي الفظيع، ما يفضح نواياه الحقيقية، ووظيفته المُعادية لحرية الشعبين السوري والفلسطيني.
أكتب هذه المقالة وصورة الصديق علي شهابي المعتقل عدة سنوات قبل الثورة، والمعتقل منذ بداية الثورة ولا يزال مصيره مجهولاً حتى الآن، لم تفارق مخيّلتي.
المصدر: العربي الجديد