تحوّل ما طرأ على موقف إسرائيل من البرنامج النووي الإيراني. باتت تل أبيب تتحدث عن “تعايش” مع اتفاق فيينا لعام 2015، وتكاد تدعم العودة إليه، وهي التي، بإدارة بنيامين نتنياهو، كانت ترفضه وشجعت الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على الانسحاب منه عام 2018. لا بل أن إسرائيل لطالما هددت وتوعدت بخيار عسكري يطيح البرنامج والاتفاق معاً.
إسرائيل اليوم تحمّل رئيس الوزراء السابق نتنياهو وترامب معاً مسؤولية انفلات البرنامج النووي الإيراني وتحول إيران جدياً دولة قادرة على إنتاج قنبلة نووية. قبل قرار ترامب سحب بلاده من اتفاق فيينا كانت إيران تلتزم مستوى تخصيب لليورانيوم بنسبة 3.67 في المئة، وهي النسبة التي يفرضها الاتفاق المبرم مع مجموعة الـ (5+1). وكانت قيود الاتفاق تبعد إيران مسافة عام عن امتلاك قدرات نووية عسكرية.
تتحدث التقارير الإسرائيلية عن أن إيران باتت على مسافة شهر من إنتاج قنبلة نووية. ليست إسرائيل فقط من يتحدث عن هذا التطور. تقييم “المعهد الدولي للعلوم والأمن” أشار إلى تقليص إيران وقت الاختراق النووي إلى شهر للحصول على مواد كافية لصنع قنبلة نووية واحدة. والأمر لا يحتاج إلى تقارير استخبارية، ذلك أن إيران نفسها، وعلى نحو علني، وبشهادة وتأكيد الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رفعت مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 20 في المئة في مرحلة أولى وإلى 60 في المئة في مرحلة لاحقة، علماً أن إنتاج القنبلة يحتاج إلى درجة تخصيب تصل إلى 90 في المئة.
تستنتج إسرائيل أن إيران تمتلك تقنية إنتاج القنبلة والقدرة على ذلك. وما يؤخر تحوّل إيران خطراً نووياً هو الوقت الذي ستستغرقه السيطرة على تقنية تحميل القنبلة على صاروخ باليستي. وفيما تقدر التقارير أن الأمر يحتاج إلى سنوات معدودة، فإن المسألة هي مسألة وقت. وتستنتج إسرائيل أيضاً أنها لا تملك منع إيران من وقف أو تأخير برنامجها النووي بقواها الخاصة، بحيث باتت القيادات الإسرائيلية تقرّ بأن أمراً كهذا لا يمكن أن تتولاه إلا الولايات المتحدة، لا بل تضع إسرائيل نفسها داخل جهد دولي لمواجهة الخطر النووي الإيراني يضم الصين وروسيا أيضاً.
ما زال وزير الدفاع الإسرائيلي بني غانتسيشكك في قدرة الدبلوماسية على كبح جماح التقدم الإيراني، لكنه يقترح خطة بديلة “قابلة للتطبيق، سياسية ودبلوماسية وعقوبات اقتصادية على طهران تفرضها الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وبالتحديد الصين”. ويضيف، في مقابلة مع مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، أن “علينا ربط الصين بهذا ولدى آسيا دور لتلعبه”. ويؤكد أن “إسرائيل لا قدرة لديها لكي تطبق خطة “ب” ولا نستطيع تنظيم نظام عقوبات اقتصادية، فهذا يجب أن تقوده الولايات المتحدة”. وعندما سئل عن جهود إدارة بايدن للعودة إلى الاتفاقية مع إيران أجاب: “أتقبل، النهج الأميركي الحالي لاحتواء البرنامج النووي الإيراني”.
يذهب رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، في مقال له في “يديعوت أحرونوت” إلى اعتبار وضع إيران الحالي هو نتاج فشل السياسة التي انتهجها نتنياهو وترامب، لجهة أن خروج واشنطن من الاتفاق النووي “لم يؤدِ إلى انكفاءٍ إيراني تحت العقوبات (…)، بل مكّنها من تحطيم تسلسل وجودة الرقابة وتقليص زمن الاختراق بصورة دراماتيكية وخطيرة”. بدوره يوجه رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي نفتالي بينيت انتقاداً مباشراً لنتنياهو معتبراً أن “إسرائيل ورثت وضعاً أصبحت فيه إيران في مرحلة متقدمة في السياق إلى القنبلة (…) والفجوة بين كلام نتنياهو وخطاباته والتحركات واسعة جداً”.
الانعطافة الإسرائيلية لافتة ودراماتيكية. محور الجهد الدولي الذي قادته الولايات المتحدة لمقاربة البرنامج النووي الإيراني كان متأسساً على قاعدة ضمان أمن إسرائيل. ولئن قامت عقيدة الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي على بديهية زوال أي منافس نووي معادٍ في المنطقة، حتى بالسبل العسكرية التي تمّ التعامل معها سابقاً مع مفاعل تموز العراقي أو منشآت قد تستخدم لأغراض نووية لاحقاً في سوريا، فإن التحول الراهن، وهو تحول مرتجل لم يرق إلى مستوى العقيدة النهائية، قد يتطور إلى مسلّمة مفادها التعايش حتى مع القنبلة الإيرانية النووية.
لم تعد إسرائيل تستبعد الاحتمال إلى درجة أنها تروح لتحذّر مما بعده وتزعم الخشية من سباق تسلّح نووي في كل المنطقة. والحال أن إسرائيل سبّاقة في امتلاك القنبلة النووية وتملك، في النوع وعدد الرؤوس النووية والقدرة على تحميلها في البر والبحر والجو، ما بإمكانه ردع أي أخطار نووية. والحال أيضاً أن العالم، ومنذ السابقة الوحيدة الأميركية على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين عام 1945، لم يستخدم أبداً سلاح الدمار الشامل هذا، على نحو يؤكد شلل السلاح النووي ويقنع إسرائيل، مرغمة، أن الأخطار على الدولة ليست نووية.
جاء التحول الإسرائيلي استتباعاً لسلسة من اللقاءات التي أجرتها القيادات السياسية (نفتالي بينيت وبيني غاينتس ويائير لابيد) والأمنية والعسكرية الإسرائيلية مع مستويات متعددة داخل الإدارة الأميركية الحالية. استنتجت إسرائيل الممكن والمستحيل في عقيدة إدارة بايدن. بدا أن بايدن يعبّر تماماً، كما سلفه ترامب، للمفارقة، ولو بأسلوب شعبوي استعراضي، عن استراتيجية أميركية، لم تهتز كثيراً لدى الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض، عمادها ضبط البرنامج النووي الإيراني وتجنب أي مواجهة عسكرية كبرى مع إيران لتحقيق هذا الهدف.
ويسهل على إسرائيل ملاحظة أن الولايات المتحدة، حتى في عهد ترامب، تجنبت المواجهة العسكرية مع إيران، وأن اغتيال قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني كان استثناء يؤكد تلك القاعدة. ويسهل أيضاً تذكّر مجموعة من المواقف التي أعلن عنها ترامب سواء في طلبه لقاء الرئيس حسن روحاني أم تكراره أن عقوباته “التاريخية” ضد إيران هدفها مدّ طاولة مفاوضات، وليس شنّ حروب، للاهتداء إلى اتفاق جديد، وهذا تماماً ما يسعى إليه بايدن.
يأتي التحول الإسرائيلي أيضاً على خلفية قرار أميركي (ترامب – بايدن) بالانسحاب الكامل من أفغانستان، وبالانسحاب النوعي والجزئي من العراق، وبتفكيك نوعية الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط. بدا لإسرائيل أن واشنطن جدّية في اعتبار المشكلة الإيرانية ثانوية أمام التناقض الرئيسي الذي تمثله الصين بالنسبة الى موقع الولايات المتحدة وأمنها وهيبتها ونفوذها في العالم. ولا يمكن للمفاجأة الصاعقة التي أحدثها الإعلان عن تحالف “أوكوس” الثلاثي بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، إلا أن تكشف عجالة اندفاع واشنطن لترقية صراعها مع الصين من مستواه الاقتصادي التجاري إلى المستوى العسكري الاستراتيجي الشامل.
ويقوم التحول الإسرائيلي أيضاً على قاعدة صلبة من المعطيات المعلنة والمضمرة. تتمسك واشنطن بالدفاع عن أمن إسرائيل وتأمين تفوقها الاستراتيجي في المنطقة. وتستمر بالاحتضان التقليدي التاريخي الأميركي لإسرائيل بصفته أصلاً في الثقافة السياسية الأميركية العامة التي يرعاها الحزبان الرئيسان، الجمهوري والديموقراطي، والمتمأسسة داخل الكونغرس الأميركي، والمتأصلة داخل المؤسسات السياسية والإعلامية والعسكرية والأمنية للولايات المتحدة. وعليه تدعي إسرائيل تصديقها الوعد الذي قطعه بايدن من جديد بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي.
وفق ذلك تعيد إسرائيل قراءة الملف النووي الإيراني قراءة مختلفة تجعل من “التعايش” مع اتفاق فيينا هدفاً ومكسباً استراتيجيين لمصلحتها. وعلى هذا فإن إسرائيل، الحاضرة الغائبة في جولات المفاوضات الست السابقة، ستتأمل بدراية مآلات الجولات المقبلة التي قد تجعل ذلك التعايش من أصول عقائدها الدفاعية الجديدة. ومع ذلك فإن خيارات أخرى ما زالت حاضرة تبرر عودة الصحافة الدولية هذه الأيام للحديث عن عملية الاغتيال الهوليودية التي استهدفت محسن فخري زاده “أبو القنبلة النووية الإيرانية” في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي.
المصدر: النهار العربي