آخر الأنفاس

محمد فتحي المقداد

اللّحظات الأخيرة مليئة بالمفاجآت تأتي على حين غِرّة غير آبهة بمعطيات سابقة أو لاحقة. هكذا هي كالسّكين قاطعة في قرارها ماضية لتشكيل حالة جديدة يُبنى عليها الكثير.
نداءات المُنظّمات العربيّة والدوليّة المُنادية بحقوق الإنسان، اصطدمت بجدار قاسٍ من العنّتِ وعدم القبول لدى مسؤولي النّظام بالإفراج عن الرّجل الذي قضى معظم سِني عمره في سُجونهم.  مُناشدات من دول العالم على اختلاف مواقعها أطلقت في حملات النّاشطين بلا فائدة تُذكر. وباء الكورونا حرّك الإنسانيّة من جديد لتلتفّ مُجدّدًا للتصدّي توعويًا وعمليًّا للوقاية من مخاطر انتشاره.
محاصرٌ بأحمال هموم بحجم الوطن رُهنت حُريّته به. جرأتُه لم تدع له مجالًا للعيش إلّا في زنزانة منذ سنوات، تُهمة التآمر على الوطن جاهزة كالبصمة. عمره تهرّأ بطيئًا تحت وطأة ظلام ورطوبة الجدران، وهجُ أفكاره يُعاكس سوء وضعه عندًا صلبًا بيقين ثابت لا يتزحزح.
ذُبالة أنفاسه الحرّى تتردّد كموجات صقيع المنخفض القطبيّ. شُحوب خريفيٌّ استوطن معالم وجهه النّاتئة الهابطة انهدامًا، تبدّلت ملامحه عن صورته تلك المستقرّة في أذهان قارئيه أيّام نشر مقالته اليوميّة في الجريدة الرّسميّة، خفت بريق نجمه مستنفذًا طاقته على مدار سنين مقيّدًا في سجنه.
لو مشى الآن في أيّ من شوارع دمشق المألوفة له لما لاحظ وجوده أحد، يمرون به ولا يحفلون به، شكله تغيّر تمامًا عن صورته بمئة وثمانين درجة.
سعالٌ استدامه طوال يوم كامل موشّى بخيوط حمراء، يا إلهي..!! قادتني إلى الشاعر السيّاب الذي كان في مثل حالة عبدالرّؤوف، حينما وصل السيّاب لهذه الحالة في مستشفى الصّباح الكُويتي، قال:
“الدّاءُ يُثلج راحتي، ويُطفئ الغَد … في خيالــــي
ويَشُلّ أنفاسي..، ويُطلقها كأنفاس الذُّبال
كم ليلة ناديتُ باسمك أيّها الموت الرّهيب..
وددتُ أن طلع الشّروق عليّ إن مال الغروب”.
طلع الشّروق ومال الحُزن مع شهيق اهتزّت له الجدران. ذُهول ألجم ألسنة بقيّة النّزلاء معه، انطفأ المصباح المُتوهّج في عالمهم. دموعهم حرّى أحرقت سوط الجلّاد، بلعنات مُستدامة.
صرخات .. تلو صرخات.. كلّت أيديهم الواهنة من القرع على الباب الصّلد، اهتزّت الجدران والعسكريّ الحارس، لم تهتزّ شعرة واحدة في مفرق رأسه.  في موعد توزيع الطّعام. جاء غاضبًا، مُتسائلًا:
-“مَن الذي كان يصرخ..!!؟”
جميعهم بصوت واحد نزع  داء الخوف من العقاب المُنتظر:
-“نحن”
-“إيه..!! في نيّتكم أن تعملوا إضراب..!!؟”.
جماعيًّا بصوت واحد:
-“بكلّ تأكيد.. لا”.
-“لكان شو طلبكم؟”.
-“مات رفيقنا عبدالرّؤوف، كان بحاجة لإسعاف منذ البارحة”.
العسكري بعنجهيّة صَلِفَةِ، فتح الباب:
-“أخرجوه إلى الممرّ.. غدًا في الصّباح تأتي سيًارة التمريض؛ فتأخذه. إذا اشتبهوا أنّه كان مصابًا بالكورونا، احتمال كبير أن يتّخذوا قرارهم بحَرْق الجُثّة…!!”.
قرقعة الأقفال دوّت في القبو بإغلاق الباب عليهم من جديد. صوت خطوات الحارس آخر خرق للصمت. السّجناء احتسوا مرارة واقعهم. دخلوا في إضراب حقيقيّ.  طعامهم على حاله لم يُمسّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى