بعد مشاورات دامت لما يقرب الثلاث سنوات، خلص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو إلى جملة من “الاتفاقات” أو “البرامج” التي تقول باقتراب الزعيمين وبلديهما من بناء “دولة الاتحاد” على نحو مغاير لما توقعه كثيرون في أعقاب محاولة الإطاحة بالرئيس لوكاشينكو في أغسطس (آب) من العام الماضي.
وفي مؤتمرهما الصحافي المشترك الذي عقداه في أعقاب مباحثاتهما التي جرت في الكرملين واستمرت لما يزيد على الثلاث ساعات، كشف كل من الرئيسين عن رؤيتهما لشكل الاتحاد الجديد الذي كانت روسيا وبيلاروس وقعتا اتفاق إنشائه في نهاية تسعينيات القرن الماضي.
الأسس الاقتصادية الأكثر جدوى
قال بوتين إن مباحثات الكرملين ركزت بالدرجة الأولى على وضع الأسس الاقتصادية للاتحاد، التي قال إنها قد تكون الأكثر جدوى وفعالية. وأشار إلى أنهما خلصا إلى نقاط الاتفاق في مجالات الطاقة، بما فيها النفط والغاز الذي كشف بوتين عن اتفاق الجانبين حول الإبقاء على أسعاره في حدود 128 دولاراً عند مستوى العام الماضي التي تقل كثيراً عن الأسعار العالمية، وتبلغ اليوم 650 دولاراً عن كل ألف متر مكعب.
أما ألكسندر لوكاشينكو فقد كان أكثر صراحة بالكشف عن أن ما خلص إليه الزعيمان، قد يكون نموذجاً لا بد أن يستقطب ويستميل الآخرين من بلدان منظومة الكومنولث (الاتحاد السوفياتي السابق)، وبلدان منظمة التكامل الأوروآسيوي، وهما المنظمتان اللتان تجمعان أكبر عدد من بلدان الفضاء السوفياتي السابق، بما يعني ضمناً العودة إلى فكرة تصحيح الماضي، وتجاوز الأسباب التي كانت وراء فشل القيادة السوفياتية في الحفاظ على وحدة الدولة، من خلال تنظيمات تستند إلى أسس التكامل الاقتصادي المشترك، مع ترحيل فكرة التقارب والاتحاد على أسس سياسية إلى وقت لاحق.
وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى أن روسيا وبيلاروس استوعبتا على ما يبدو أخطاء الماضي التي ارتكبها ميخائيل غورباتشوف حين حاول في إطار سياسات البيريسترويكا البدء بالتغييرات السياسية أساساً للمعاهدة الاتحادية الجديدة، وهو ما كان في صدارة أسباب فشله في حشد القوى اللازمة لإعادة بناء الاتحاد السوفياتي.
28 برنامجاً اقتصادياً
ومن اللافت أن الرئيسين بعد مؤتمرهما الصحافي المشترك، عادا ليلتقيا من جديد حول نقاش استمر حتى الواحدة بعد منتصف ليلة الجمعة 10 سبتمبر (أيلول) الحالي، في سابقة تقول مفرداتها بعودة المياه إلى مجاريها بين الرئيسين، وبتوجه مشترك صوب مزيد من التقارب، بعيداً من الأخطار التي كانت أحدقت بالبلدين في أعقاب محاولة الإطاحة برئيس بيلاروس، وما تلا ذلك من محاولة اغتياله وأعضاء أسرته في خريف العام الماضي.
وكأن ما كاد يطيح بالرئيس لوكاشينكو، كان في صدارة الأسباب التي عجلت بخطوات الرئيسين صوب تنفيذ ما سبق وجرى ترحيله لسنوات اقتربت من العشرين، إلى وقت لاحق، ما قد يستحق “شكر” الرئيسين، وربما البلدين والشعبين، للمعارضة في بيلاروس، ومن وقف ولا يزال يقف وراءها ويدعمها من ممثلي الدوائر الغربية!
وكان الرئيسان قد توصلا إلى اتفاق حول 28 برنامجاً من برامج التكامل الاقتصادي، لا سيما في مجال الطاقة والنفط والغاز، إلى جانب إقامة أسواق موحدة، ومجال موحد للنقل وتطبيق سياسات مشتركة في مجالات الصناعة والزراعة.
وأضاف بوتين أن الحديث يدور حول توحيد التشريعات في الاقتصاد، ومواءمة التشريعات الضريبية والجمركية، وتنظيم العملة التي جرى ترحيل توحيدها لأسباب تعود إلى عدم استعداد البنك المركزي في روسيا ومثيله في بيلاروس، والمعاشات التقاعدية والتأمينات الاجتماعية.
وخلص الرئيس الروسي إلى أن الجانبين “اتفقا على إدارة سياسة مشتركة للاقتصاد الوطني للبلدين”. ومضى ليقول إن الجانبين ناقشا أيضاً الفضاء الدفاعي المشترك، مشيراً إلى أن التدريبات المشتركة “الغرب 2021” التي بدأت اعتباراً من العاشر من سبتمبر الحالي، ليست “موجهة ضد أحد”، لكن تنفيذها “منطقي في الظروف التي تعمل فيها تنظيمات أخرى، مثل “الناتو”، على سبيل المثال، بنشاط على تعزيز وجودها بالقرب من حدود دولة الاتحاد”.
وثمة من يشير إلى أن هذه المناورات، قد تكون مقدمة لتشكيل “آلية دائمة”، يمكن الاعتماد عليها بديلاً للقاعدة العسكرية التي كان ثمة من طرح فكرة إقامتها في بيلاروس، والتي قال لوكاشينكو بعدم جدواها نظراً لصغر أبعاد المساحة التي تفصل بين أراضي بيلاروس والمواقع المعنية على الجانب الآخر في البلدان المجاورة.
لكن ذلك كله، ليس القول الفصل بعد، حيث من المقرر أن يستكمل رئيسا حكومتي البلدين اجتماعاتهما في مينسك لوضعها كلها حيز التنفيذ، قبيل الزيارة المرتقبة للرئيس بوتين خلال الأشهر القليلة المقبلة للعاصمة البيلاروسية، لاستئناف مباحثات “الوحدة” التي كشف الزعيمان عن احتمالات ألا تكون اندماجية.
وأشارا إلى أنها قد تكون “خليطاً” بين الفيدرالية والكونفدرالية، وإن أعلن لوكاشينكو عن إبقاء الباب مفتوحاً أمام كافة الاحتمالات والتأويلات، وأنه لا يستبعد التكامل السياسي، فيما قال بوتين إنهما يتركان الأمر إلى البرلمان الاتحادي المزمع تشكيله، مشيراً إلى أن اجتماع المجلس الأعلى للدولة الاتحادية، الذي سيتم خلاله إقرار جميع البرامج، سيعقد قبل نهاية العام الجاري.
وكان لوكاشينكو أشار صراحة إلى “احتمالات أن تتوصل روسيا وبيلاروس إلى بناء علاقات غير موجودة لا في الدول الفيدرالية ولا الموحدة”. وأضاف في تعليقه على البرامج الاتحادية المزمع إقرارها، “إن الحديث لا يدور إطلاقاً عن فقدان السيادة. نحن اليوم مثقفون وأذكياء لدرجة أنه من دون فقدان سيادة من جانب روسيا أو بيلاروس، يمكننا بناء علاقات غير موجودة في الدول الفيدرالية أو الموحدة”.
وعلى الرغم من نفي الرئيسين عدم ارتباط المباحثات الأخيرة وما جرى التوصل إليه من نتائج بقرب إجراء الانتخابات البرلمانية لمجلس الدوما في روسيا خلال الفترة 17 – 19 سبتمبر الحالي، فإن هناك من المؤشرات التي تقول بأهميتها وتزايد تأثيرها على الأوساط السياسية والاجتماعية، مثلما كانت الحال في صيف عام 1996 قبيل الانتخابات الرئاسية التي كانت مؤشراتها تنذر باحتمالات سقوط مدوٍ للرئيس السابق بوريس يلتسين.
وعلى الرغم من صعوبة المقارنة بين مواقع كل من الرئيسين بوتين ويلتسين، واستحالة الجمع بين رئيس كانت نسبة شعبيته في مطلع عام 1996 لا تزيد على 6 في المئة، وآخر تراوحت شعبيته خلال العقدين الماضيين بين 60 – 75 في المئة، فإن هناك ما يقول بأهمية الانتخابات البرلمانية المرتقبة التي طالما اعتبرها الكرملين في موسكو ترمومتر قياس الرأي العام، فيما تتزايد أهميتها هذا العام، قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2024، وهي الانتخابات التي من أجلها طرح الرئيس بوتين رؤيته تجاه التعديلات الدستورية، وبدا ما يشبه الإجماع حول أنها تستهدف إتاحة الفرصة أمامه لولاية أو ولايتين جديدتين للرئيس تنتهيان في عام 2036.
ما علاقة الانتخابات؟
وبغض النظر عن التوقعات التي منها ما يقول إن الرئيسين بوتين ولوكاشينكو “مهمومان” بالبحث عن البدائل المناسبة لكليهما، بما قد يسهم في الخروج من المأزق الراهن، على ضوء تصريحات لوكاشينكو حول احتمالات رحيله عن السلطة وإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية المبكرة، وما يتوقعه البعض ومنهم الرئيس لوكاشينكو الذي قال إن بوتين صارحه بأنه لا يريد البقاء في السلطة بعد عام 2024، وأن يتوقع المراقبون أنه سوف يظل منها على مقربة بشكل أو بآخر.
ولعل ذلك تحديداً هو ما دفع الرئيس بوتين إلى أن يستهل مباحثاته مع لوكاشينكو بقوله، “أود أن أسارع لأشير إلى أن ما أتمنى أن نتفق عليه اليوم، ليس مرتبطاً بأي وضع سياسي حالي في بلادنا أو بالتقويم السياسي، عشية الانتخابات البرلمانية في روسيا”. وأضاف “هذا هو عملنا المشترك الحالي طويل الأمد، وأكرر، لسنوات عديدة”.
وكشف بوتين عن أن ما سوف يخلصان إليه مع لوكاشينكو سيكون محور اجتماعات الحكومتين الروسية والبيلاروسية، التي سوف تبحث سبل وضع ما يتفق عليه الرئيسان حيز التنفيذ. وفي محاولة لتأكيد ما قاله بوتين، حرص لوكاشينكو على استعادة بعض ما خلصا إليه خلال السنوات الثلاث الماضية. وقال “لقد بدأنا العمل سوية منذ أكثر من ثلاث سنوات، وحددنا المهام التي يجب أن تنفذها الحكومتان، وآمل أن نكون قد نجحنا في حل هذه القضايا”.
وتحول ليتساءل بما يعني الإنكار، “ما علاقة الانتخابات بذلك؟ إذا فعلنا شيئاً جيداً، فليكن هدية لهذه العطلة الكبيرة التي تسبق الانتخابات، إذا كان الناس يقدرونها. الناس يعرفون أفضل، ولعلنا نتحرك، مثل جميع البلدان المتحضرة، معاً فقط، في اتجاه الاتحاد، اتحاد الدول الأصلية، والشعوب القريبة، والشعوب المتحدة عملياً، ذات الجذور المشتركة. إن كلاً من الشعبين الروسي والبيلاروسي، من أصول واحدة، وجذور مشتركة”.
وعودة إلى مباحثات الكرملين، نشير إلى أن رئيس بيلاروس كشف عن أن مباحثات الكرملين تناولت أيضاً “سبل توحيد المجال الدفاعي وضمان أمن الدولة الاتحادية بين البلدين على حدودها الخارجية”، مؤكداً مدى الأهمية التي يعيرها الجانبان للمناورات العسكرية المشتركة “الغرب 2021” التي تجرى على أراضي روسيا وبيلاروس، إلى جانب ما قاله حول “أن روسيا وبيلاروس ستعززان التعاون المشترك في التصدي للتهديدات العسكرية”.
بوتين ولوكاشينكو في قارب الوحدة
وقد جاءت هذه التصريحات في وقت مواكب لما أعلنه فلاديمير زيلينسكي حول “أنه لا يستبعد اشتعال حرب حقيقية بين أوكرانيا وروسيا”، دون أن يأخذ في اعتباره الفارق الهائل بين قدرات وتسليح كل من البلدين.
ومن اللافت أن تصريحات زيلينسكي تأتي تالية، لما سبق وأعلن عنه فيكتور غوليفيتش رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة البيلاروسية، مساء الخميس الماضي (9 سبتمبر الحالي) حول أن التدريبات الاستراتيجية “الغرب – 2021” دفاعية وتؤكد مسار جمهورية بيلاروس لتعزيز الأمن الإقليمي والتقيد بالتزامات الحلفاء مع روسيا الاتحادية.
وأضاف المسؤول العسكري البيلاروسي في إشارة لا تخلو من مغزى، إلى تدهور العلاقات بين أوكرانيا وكل من روسيا وبيلاروس، أنه عند التحضير للتدريبات “تم استخدام أحد الخيارات الممكنة لتطور الوضع العسكري – السياسي نحو احتمال تفاقم التناقضات الدولية إلى مستوى يمكن أن يؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وكذلك شن عدوان على دولة الاتحاد”.
وذلك ما أكدته وزارة الدفاع البيلاروسية التي قالت في بيانها الصادر بهذا الشأن “إن مناورات (الغرب 2021) تأتي في إطار دعم علاقات التعاون المشترك بين القوات المسلحة لكلا البلدين الحليفين، ويعكس تطابق رؤى الدولتين في كيفية توفير الأمن العسكري لدولة الاتحاد بين روسيا وبيلاروس”، فضلاً عما قالته وزارة الدفاع في تلميح يرقي إلى حد التصريح أن “إحدى فعاليات التدريب المشترك تتضمن مواجهة التصعيد العسكري السياسي في بلدان افتراضية”.
وهكذا يقترب الرئيسان والبلدان إلى ما سبق وأشارت إليه “اندبندنت عربية” من موسكو في أعقاب فشل الانقلاب ضد الرئيس لوكاشينكو في صيف العام الماضي، ووصفناه بـ “قارب الوحدة” المرشح لأن يحمل كلاً من الرئيسين بوتين ولوكاشينكو إلى بر الأمان، تحت غطاء دستوري قد يكون كافياً، لأن يكون النموذج الذي يستعيد معه من يريد من بلدان الاتحاد السوفياتي بعضاً من تاريخ الأمس القريب.
وكان الرئيس لوكاشينكو قد تعجل في العام الماضي، وفي معرض محاولة امتصاص غضب المعارضة في الداخل والأوساط الغربية في الخارج، إلى إعلان عزمه بشأن إجراء إصلاحات دستورية، قال إنها ستكون مقدمة للانتخابات البرلمانية والرئاسية في العام الجاري، وهو ما لم يتحقق بعد.
أما عن الرئيس بوتين فتظل الأنظار مشدودة إليه في انتظار النتائج التي قد يحققها حزب “الوحدة الروسية” الحاكم في الانتخابات البرلمانية المرتقبة في نهاية الأسبوع المقبل، على اعتبار أنها، وكما أشرنا إليه عاليه ستكون المؤشر الذي يمكن أن يحدد مسار التطورات السياسية خلال السنوات القليلة المقبلة قبيل موعد الانتخابات الرئاسية المرتقبة في عام 2024.
المصدر: اندبندنت عربية