تحلّ غداً الذكرى العشرون لهجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 التي شنّها تنظيم القاعدة في كل من واشنطن ونيويورك. وقد فاقت التداعيات التي ترتبت على تلك الهجمات كل التوقعات السائدة حينئذ، إذ تحوّل الأمر إلى “حربٍ عالميةٍ على الإرهاب”، ذهب ضحيتها مئات آلافٍ من القتلى والجرحى، وانهارت أنظمةٌ جرّاءها، وَاسْتُنْزِفَتْ اقتصادات دول، كما سقطت قيم كثيرة كانت أميركا، تحديداً، والغرب، عموماً، يزعمانها. الأهم أنها مهّدت الطريق لإعادة رسم موازين القوى عالمياً، ولكن ليس في صالح الولايات المتحدة، كما رامت.
بعيداً عن نظريات المؤامرة التي تزعم أن الهجمات أميركية المنشأ، أو أن إدارة الرئيس جورج بوش الابن غضّت الطرف عن مخطّطات تنفيذها ومنفذيها، فإن ما جرى ذلك اليوم كان تنافساً بين رؤيتين. الأولى، جسّدها تنظيم القاعدة الذي أراد ضرب رموز العظمة والكبرياء الأميركي، عسكرياً، واقتصادياً، وسياسياً، لجرِّ الولايات المتحدة إلى معركة استنزافٍ طويلة الأمد خارج حدودها بشكل يوهن قوتها. ومن ثمَّ، كانت الأهداف التي تمَّ ضربها تعبيراً عن ذلك. مبنى وزارة الدفاع في واشنطن، برج التجارة العالمي في نيويورك، أما الطائرة الثالثة التي سقطت في ولاية بنسلفانيا، فتخمّن الأجهزة الاستخبارية أنها كانت متجهة صوب البيت الأبيض أو مبنى الكونغرس في واشنطن. في المقابل، أرادت إرادة بوش أن يكون حجم ردّها ونوعه تجسيداً عملياً للقوة الأميركية الساحقة، وتدشيناً لقرن أميركي جديد، لا يجرؤ فيه تحالف، أو دولة، أو منظّمة، أو تنظيم على تحدّي هيمنتها فيه وعليه. المفارقة أن المبالغة في التعبير عن القوة الأميركية الطاغية قادت إلى ضدّها، ولكن الولايات المتحدة لم تدرك ذلك إلا متأخرة، وبعدما سبق السيف العذل، وما مشاهد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان إلا أحد تعبيرات ذلك.
حسب تقريرٍ أعدّته جامعة براون الأميركية عن تكاليف “الحرب العالمية على الإرهاب”، نشر في مطلع شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، فإن عشرين عاماً من الحروب كلفت الولايات المتحدة حوالي ثمانية تريليونات دولار، ما بين نفقات عسكرية وأمنية وفوائد ديون، وتسبّبت في مقتل أكثر من 900 ألف شخص في العالم، منهم 15000 من العسكريين والمتعاقدين الأميركيين. ويشدّد التقرير على أن العدد الكلي للقتلى الذي يورده لا يشمل الوفيات غير المباشرة التي تسبّبت فيها تلك الحرب جرّاء الأمراض والتهجير وعدم القدرة على الوصول إلى الغذاء والماء الصالح للشرب. ويجزم معدّو التقرير أن الحرب التي يصفونها بـ”الطويلة والمعقدة والمروّعة .. وطاولت أكثر من 80 دولة.. غير ناجحة”. ويرى الاستراتيجي الأميركي، الأستاذ في جامعة هارفارد جوزيف س. ناي، “الضرر الذي ألحقته بنا القاعدة يتضاءل مقارنة بالضرر الذي ألحقناه بأنفسنا”.
من ثمَّ، لا عجب أن يستشهد الرئيس الأميركي، جو بايدن، بتقرير جامعة براون لتبرير قراره بالانسحاب من أفغانستان بعد عشرين عاماً من الاحتلال. قال: “لم يعد لدينا هدف واضح في مهمة مفتوحة في أفغانستان”. وأضاف: “بعد إنفاق أكثر من تريليوني دولار في أفغانستان، فإن التكاليف التي قدّر باحثو جامعة براون أنها تزيد عن 300 مليون دولار يومياً مدة 20 عاماً. نعم، يجب أن يسمع الشعب الأميركي هذا … (لذلك) أرفض إرسال أبناء أميركا وبناتها لخوض حربٍ كان يجب أن تنتهي منذ فترة طويلة”. لكن الإدراك الأميركي للاستنزاف الذي لحق بها جرّاء “الحرب العالمية على الإرهاب” جاء متأخراً، هذا إن استطاعت أن تلتزم بمقتضياته فعلاً. يعيدنا هذا إلى الهدف الذي أراد تنظيم القاعدة تحقيقه من وراء هجمات 11 سبتمبر، وما أرادته إدارة بوش من توظيفها، وأي الرؤيتين انتصرت؟
عبّرت الولايات المتحدة عن قوة عسكرية وديبلوماسية واقتصادية هائلة بعد الهجمات، وهي أنزلت ضرباتٍ كاسحة بتنظيم القاعدة، وأسقطت أنظمة في أفغانستان والعراق، ولم يستطع أحد في العالم أن يتحدّاها ويقف في وجهها وهي تخرق القانون الدولي، بل إن دولا كثيرة ساندتها، وتمكّنت من أن تتحمل تكاليف حروبٍ باهظة. لكن القوة الأميركية الهائلة أبانت عن أوجه قصور كثيرة، فقدراتها التدميرية أعمت عينيها عن أن لكل قوة حدوداً، وأن القدرة على التدمير لا تعني القدرة على حسم المعركة على الأرض وفرض الاستسلام، خصوصاً عندما تحارب تنظيماتٍ وأفراداً موزّعين في أرجاء العالم، ويملكون قدرة على استيعاب الضربات وتكييفها إيديولوجياً، وتحويلها إلى طاقة تحفيزية. ثمَّ إن غياب تحديد واضح لهوية “العدو”، في سياق الحرب الهلامية على “الإرهاب العالمي”، ساهم في استنزاف أميركا، فكيف تحسم معركة تتوسع وتتبدل فيها هوية العدو كل يوم، ولا تملك فيها تعريفاً دقيقاً للانتصار؟
كانت تلك أسئلة طرحها، غير مرّة، الرئيس الأسبق باراك أوباما. وفي خطابٍ له في الأكاديمية العسكرية الأميركية، ويست بوينت، في مايو/ أيار 2010، قال: “على مرّ تاريخ البشرية لم تتمكّن أمة تعاني من تراجع حيويتها الاقتصادية من أن تحافظ على تفوّقها العسكري والسياسي”. وأضاف: “كما لا يمكن أن تقع (المسؤولية العالمية) على كاهل أميركا وحدها. خصومنا يرغبون أن يروا أميركا تفرّط في استخدام قوتها”. هذا هو بالضبط ما يعيد بايدن تكراره اليوم، خصوصاً وهو يتحدّث عن التهديد الصيني، اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، وبأنه لا شيء يسرّها أكثر من بقاء الولايات المتحدة متورّطة ومستنزفة في حروبٍ هامشية، وتحديداً في الشرق الأوسط. وكما قال وزير دفاعه لويد أوستن، في شهر مارس/ آذار الماضي، فإنه بينما ركّزت الولايات المتحدة على الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين، “عملت الصين على بناء قدرةٍ عسكريةٍ حديثة”، وهو ما أدّى إلى تآكل ميزة الولايات المتحدة التنافسية عسكرياً.
قارن هذه النتيجة التي انتهت إليها الولايات المتحدة، وهي منهكة، مع أوهام جماعة المحافظين الجدد، الذين أسكرتهم القوة الأميركية الساحقة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، مطلع تسعينيات القرن الماضي، ثمَّ كانوا هم من بادر إلى إطلاق “الحرب العالمية على الإرهاب” خلال تمكّنهم من مفاصل إدارة بوش الابن. في عام 1992، أي بعد هزيمة العراق في حرب الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفييتي، أعدّت تلك الجماعة، بتوجيه من ديك تشيني، الذي كان وزيراً للدفاع، حينئذ، في إدارة جورج بوش الأب، “وثيقة التخطيط والإرشاد الدفاعية” الأميركية بهدف التأسيس لنظام عالمي أميركي جديد في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، عنوانه الأبرز عدم السماح بنشوء وقيام قوى عالمية أو إقليمية جديدة قادرة على تحدي الهيمنة الأميركية. كان معدّو تلك الوثيقة مهووسين بالقوة الهائلة التي أبانت عنها القدرات العسكرية لبلادهم في حرب العراق.
ذهب هؤلاء إلى أبعد من ذلك، عندما أنشأوا، خلال رئاسة بيل كلينتون، مؤسّسة تحت لافتة: “مشروع القرن الأميركي الجديد” لتحقيق أهدافهم سالفة الذكر. واقتربت طموحاتهم من التحقق مع وصول بوش الابن إلى البيت الأبيض، مطلع عام 2001، وتعيينه أغلب رموزهم في إدارته، وفي مقدمتهم تشيني نفسه، نائبا للرئيس. اللافت أن مؤسسة “مشروع القرن الأميركي الجديد” أصدرت ورقة في سبتمبر/ أيلول 2000، أي قبل عام من هجمات 2001، تحت عنوان: “إعادة بناء الدفاعات الأميركية”، جاء فيها تحت عنوان فرعي، “خلق قوة الغد المهيمنة”: “علاوة على ذلك، فإن عملية التحوّل (نحو استخدام القوة الأميركية)، حتى لو كانت ثورية من ناحية التغييرات التي ستحدثها، فإن من المحتمل أن تأخذ وقتاً طويلاً، في ظل غياب بعض الأحداث الكارثية والمحفّزة، مثل هجوم على مستوى بيرل هاربر جديد”.
كانت هجمات 11 سبتمبر هي بيرل هاربر التي انتظرها المحافظون الجدد لتغيير المزاج الشعبي الأميركي المتشكّك في المغامرات العسكرية الكبرى. وكما هو معلوم، الهجوم الياباني الجوي المباغت، في ديسمبر/ كانون الأول 1941، على القاعدة البحرية الأميركية في ميناء بيرل هاربر في جزر هاواي، هو الذي أقنع الرأي العام الأميركي، الذي كان يميل إلى الانعزالية حينها، بضرورة دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، بشكلٍ أدّى إلى قلب مسار الحرب جذرياً لصالح قوات الحلفاء ضد دول المحور.
مرّة أخرى، بعيداً عمّن قد يستخدم المعلومة السابقة لتعضيد وجود شكوك حول هجمات سبتمبر 2001، فإن نتيجة تورّط أميركا فيها جاءت مختلفة هذه المرّة بشكل كارثي عمَّا جرى عام 1941. بعد الحرب العالمية الثانية برزت الولايات المتحدة قوة عالمية عظمى، فهي حاربت ضد عدو محدّد واضح المعالم، وكان للنصر تعريف دقيق، كما كان لديها تصوّر استراتيجي واقعي لشكل العالم الذي تريده. أما في “الحرب العالمية على الإرهاب”، فإن أيّاً من الشروط السابقة لم تتحقق، ودخلتها الولايات المتحدة بناء على نظريات وأوهام إيديولوجية مغرقة في الغرور والصلف، تبنّاها المحافظون الجدد، فكان أن اصطدمت بجدارٍ صلب، أفقدها كثيراً من توازنها، وسمح لقوى إقليمية وعالمية أن تصعد، وهي مشغولةٌ في معارك شوارع.
باختصار، بغض النظر عن مدى عمق التصوّرات والأهداف التي كانت عند “القاعدة” من هذه الهجمات، إلا أنها استطاعت فعلاً أن تستنزف القوة الأعظم عالمياً، باستراتيجية “الألف جرح صغير”، التي لا تقتل مباشرة، ولكنها تصفّي دماء الضحية حتى تنهار. لم يكن النجاح هنا رهناً بذكاء من يقف وراء هجمات سبتمبر 2001، بقدر ما كان نتيجة مباشرة لسوء تقدير من كان يقود الولايات المتحدة حينها. وهو الأمر الذي يعترف به مسؤولون ومفكرون أميركيون كثيرون اليوم، ولكن هل يا ترى يستطيعون فعلاً لجم المجمع العسكري الصناعي عن افتعال حروبٍ واسعة جديدة؟ سؤال وحدها الأيام قادرة على الإجابة عنه، مع أن جوزيف س. ناي يجادل بأن الولايات المتحدة ستكون أكثر ذكاء في حال وقوع هجوم جديد عليها بحجم هجمات عام 2001، فهي قد تعلّمت الدرس، وأصبحت أكثر ذكاء وإدراكاً لعواقب استخدام كل عناصر قوتها الهائلة، حيث لا ينبغي استخدامها.
المصدر: العربي الجديد