شهران وأكثر أعطتهما درعا لكل المناطق “المحرّرة” في سورية لتستعيد تدفقها الثوري، وكذلك أعطتهما لأريافها الغربية والشرقية، ولكن كل تلك الأطراف صمتت على المقتلة والدمار. المعارضة بمؤسساتها المكرّسة لم تفعل شيئاً كذلك، وجاء تصريح رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، سالم المسلط، أن “الائتلاف” ومؤسسات الثورة سينسحبان من المؤسسات الدولية بعد أكثر من شهرين على الحصار المحكم على درعا البلد كي لا يقول شيئاً. المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام ليست ضمن الاحتمال المذكور أعلاه، ولكنها بدأت تشهد احتجاجاتٍ أوّليّة، مع تعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
كما لم تستفد الأطراف المناهضة للنظام من معركة درعا، صمت العالم عمّا يجري، وضمن ذلك الحلف الجديد للغاز (مصر والأردن ولبنان) الذي كَثُرَت نشاطاته، كالمشاركة في مؤتمر بغداد أخيراً، وزيارة وفد لبناني إلى سورية واللقاء بين ممثلي تلك الدول وسورية في عمّان يوم 8 سبتمبر/ أيلول الحالي لإكمال التجهير لخط الغاز، الذي سيمرّ على “جثة” محافظة درعا بأكملها. إذاً تلك الدول لم تستفد من حاجة النظام لهذا الخط للضغط عليه، كي يتصالح مع شعبه بدل الاستمرار بخياره الأمني والعسكري، والتابع لكل من إيران وروسيا. عدم استفادة هذه الدول من هذا الخط يتجاوز هذه النقطة، للضغط على النظام ليخفّف من الدور الإيراني في سورية، والذي ينزع، في كثير من أوجهه، الطابع العربي عن هذا البلد، ويسعى إلى مزيدٍ من التهتك للبنية الاجتماعية، وهناك أيضاً التهجير الواسع للسوريين.
إسرائيل وأميركا بدورهما لم تستغلا الفرصة أعلاه لإجبار روسيا على إبعاد إيران عن “الحدود الإسرائيلية”، حيث تراجعت روسيا من قبل عن تعهداتها، وكذلك النظام. إيران الآن هي المستفيد الأكبر من دحر الثورة في درعا. صحيحٌ أن سيناريو التهجير الديموغرافي لم يتحقق، ولكنها جرّدت المحافظة من السلاح. لدى النظام وإيران استحقاقات أخرى، نراها تتصاعد ضد إدلب، وليس فقط ضد جبل الزاوية، وقد نراها تتجه نحو المناطق التي تسيطر عليها تركيا مباشرة.
أن تصل المعركة إلى إدلب يوضح الخطأ الكبير في عدم استغلال فرصة درعا، لإشعال الجبهات، وبالتالي إبعاد المقتلة والدمار عن إدلب، المنكوبة حالياً بهيئة تحرير الشام، وكذلك لم تنتبه تركيا إلى الخطوة القادمة لروسيا، وتتمثل في “طردها” من إدلب ومناطق سيطرتها المباشرة. السؤال هنا، هل ستقايض تركيا وجودها هناك بشطب قوات سورية الديمقراطية (قسد)، وخروج أميركا من شمال سورية وشرقها، وهل اتفقت أميركا على ذلك مع روسيا؟ هذا غير مستبعد حالياً، ولكن الوصول إلى تلك النقطة يتطلب توافقاتٍ كبرى بين تركيا وروسيا وروسيا وأميركا وتركيا. ستأخذ التوافقات هذه وقتاً ليس قصيراً؛ حيث تطلبت معركة درعا البلد زمناً طويلاً، وهي مدينة محاصرة من كل الجهات، وبسلاحٍ خفيفٍ وبسيط، وبالتالي معركة إدلب أو “قسد” أو تفكيك الفصائل التابعة لتركيا تتطلّب وقتاً أطول. في كل الأحوال، بعكس فرضيتنا أعلاه في هدر الفرص، يمكن أن يكون هناك تنسيق وتوافق أميركي روسي للإجهاز على درعا وربما إدلب و”قسد” أيضاً.
الصمت الإقليمي والدولي عما جرى يقول إن هناك ما يُعدّ لبقية المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. إن وضع إيران الوالغ في الشأن السوري، والدولة والجيش، لا يعطيها عناصر قوة كثيرة؛ فهناك روسيا، والأخيرة لعبت دوراً مركزياً في تخريب الثورة والمناطق المحاصرة وإنهاكها، وعزلها عن بعضها، والإجهاز على الفصائل المقاتلة، وحصرها في مناطق طرفية من سورية منذ إنشاء لقاء أستانة وحكاية مناطق خفض التصعيد والتراجع عنها تدريجياً.
تأتي خطوة سماح أميركا لروسيا بالإجهاز على درعا وتشغيل خط الغاز، وإعفاء الدول المشاركة به من عقوبات قانون قيصر، والضغط على البنك الدولي لتأمين الأموال لتجهيزه، تعبيراً عن تقاربٍ أكبر مع روسيا، والعمل بسياسة الخطوة خطوة. للنظام حصته من هذا الخط، وكذلك يستعيد بعضاً من شرعيته الإقليمية، ولكن ذلك لا يعني إعادة تعويمه، ولا البدء بإعادة الإعمار، كما يتوهم النظام أو تشتهي السلطة في الأردن، حيث كانت تحرّكات ملك الأردن، عبد الله الثاني، في موسكو وواشنطن وبغداد في هذا المنحى. الأردن في أزمة اقتصادية كبيرة، والانفتاح نحو سورية، وفتح خط نصيب، وأيضاً استجرار خط الكهرباء من الأردن وعبر سورية وإلى لبنان، ستكون له فوائد جمّة على الأردن، ولصالح كل الدول المتدخلة بسورية؛ وإن فرض سيطرة النظام على هذه المحافظة والإجهاز على ثورتها يؤدّي إلى ذلك. ولهذا كان الصمت الإقليمي والعالمي، وأمّا الصمت المحلي فتتحمّل مسؤوليته المعارضة الفاشلة منذ 2011.
على السوريين التخلص من الأوهام، حيث هناك تناقض جذري بين الثورات والأنظمة والدول العظمى، أي كان لا بد من الإجهاز على الثورة السورية كي لا تنتصر وتنتقل إلى بلدانٍ كثيرةٍ، وتمّ ذلك عبر مراحل عديدة. والآن بدأت مرحلة النهاية. قوّة الثورة فقط ما أطال بعمرها، وسمح لدولٍ كثيرة بالتدخل والتصارع على أرض سورية، وصولاً إلى اللحظة الراهنة، لحظة أوهام النظام بالانتصار؛ إذاً الأوهام كانت من نصيب المعارضة والنظام معاً.
في المرحلة الحالية، يتمّ توظيف النظام، ومعه إيران، من أجل إنهاء الفصائل ومناطق خفض التصعيد، وكذلك منطقة “قسد”. أميركا الضامنة لمحافظة درعا من قبل والداعمة بعض فصائل فيها عبر غرفة الموك، والمنسحبة منها، يمكن أن تكرّر الأمر، وتنسحب من شمال سورية. روسيا معنية بتقديم خطوات لصالح الأميركان، تتجسّد في تهميش إيران عسكرياً من سورية، وإحداث تغيير في بنية النظام؛ ويبدأ ذلك عبر المحافظة عليه، مع تغييرٍ في بنيته. هنا ستواجه روسيا مشكلة كبيرة، فكيف ستضمن مصالحها، وقد اعتمدت في توقيع اتفاقياتها على السلطة الحالية بالتحديد؟ لا يمكن للأميركان أو للاتحاد الأوروبي وكثير من الدول التصالح مع النظام الحالي، حيث هناك جملة انتهاكاتٍ ملتصقةٍ به، ومعلومة دولياً؛ إن ضعف النظام بوضعه الراهن هو ما يجعله مستنداً بصورة كلية إلى إيران وروسيا، فليس من معركةٍ خاضها أو يخوضها من دون ذلك العون. ذلك الضعف، وفقدان الشرعية الخارجية والداخلية، واستمرار رفض إعادة الإعمار، يفرض على الدول الأساسية المتدخلة في سورية خيارين: تعويم النظام بصورته الحالية، وهذا مستبعد، وسياسة الخطوة خطوة الأميركية لا تذهب بهذا الاتجاه. أو إحداث تغييرٍ في بنيته، والسؤال كيف ستتحقق هذه الخطوة؟ الخطوة غير محددٍ شكل الاتفاق حولها، ولكن ما جرى، منذ التدخل الروسي وإلى التخلص من درعا، والاتجاه نحو إدلب، كما يظهر من خلال التصعيد أخيراً، يشي بأن هناك سلسلة توافقات بين الدول المتدخلة، وستكون بالضرورة على حساب إيران والنظام المزهو بوهم الانتصار.
المصدر: العربي الجديد