الخلودُ هوسٌ يُراودُ البشريةَ منذُ قديمِ الأزلِ، حتى تكادَ لا تخلو حضارةٌ من حضارات العالمِ القديم، من أساطيرَ تحكي عن وجود إكسيرٍ للحياة يمنحُ الشبابَ القوةَ والخلودَ الأبدي. والخلودُ في الوقت نفسِهِ يمثلُ السلاحَ الشيطانيَّ الأولَ ضدَّ البشرِ، وهو استغلالً الشيطانِ لرغبة الخلودِ في النعيم لدى البشرِ والتي وصفها خالقُ البشرِ سبحانه وتعالى بقوله يَصِفُ قوم عاد 🙁 أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) (الشعراء ,128-129).
بدأ الأمرُ مع سيدنا آدمَ واستمرَّ مع أباطرة المالِ والسلطةِ عبرَ التاريخِ إلى يومنا هذا. البحثُ عن الخلود في النِّعم قد يكونُ رواسبَ فكريةً لدى الجنسِ البشري من فشلهم في رحلة الخلودِ الأولى،عندما اُخرِجَ سيدُّنا آدمُ وأُمُّنا حواءُ من النعيم ! فأصبح البشرُ يبحثون بهوس عن الخلود في أيِّ نعيمٍ متوفر بين أيديهم. الغريبُ في الأمر حجم الكوارثِ التي تجرُّها هذه الرغبةُ من كونها المدخلَ الشيطانيَّ الأول لإفساد البشرِ،وهنا الأمرُ لا يتوقفُ على أمثال الأباطرةِ والملوك وأصحاب الثروات الذين أرادوا الحصولَ على إكسير الحياةِ ولا يتوقفُ على ملوك المالِ هذه الأيامَ الذين يدعمون الأبحاثَ الهائلةَ في مجال إطالةِ الأعمار من أمثال بول الان Paul Allen، لكن يتعداهم إلى مستوى مُهجرٍ في خيمة يريدُ أن يحافظَ على وصول سلتِهِ الغذائيةِ دون انقطاعٍ، أو لاجئ في أوروبا يريدُ أن يحافظَ على نقود الإعانةِ والسكن المجاني إلى الأبد، وينطبق كذلك على صاحب جمعيةٍ خيرية، وصاحبِ حلقةِ تدريسٍ ديني له مريدوه واتباعُه، وعلى زعيم تيارٍ فكري معياره الأول عدد أتباعه لا صوابية فكره، والشواهدُ في الأمر تكاد لا تنتهي.
الأمرُ كذلك لايقتصر على البشر بل يتعداهم إلى الدول والممالك عبر التاريخ ،والشاهدُ الحيُّ في عصرنا هذا الهوسُ الأمريكي في تخليد التفوقِ الأمريكي في كلِّ المجالاتِ إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها ,والهوسُ الفرنسي في الخلود بالنعيم الإفريقي ,والهوسُ البريطاني في الخلود بالسيطرة والتحكم بالبلاد والعباد حيثما كانت الإمبراطوريةُ التي لا تغيبُ عنها الشمس…والأمثلة تكاد لا تنتهي.
إذا كانت الغايةُ واضحةً وهي استمرار النعيمِ بحسب تعريف كلِّ فردٍ ودولة ومؤسسة لمفهوم النعيمِ- إلى أطول فترة ممكنة ، عندها يظهرُ السلاحُ الشيطاني الثاني- من جعبة الشيطان الأكبر- بقوته التدميرية الهائلة “الغاية تبرر الوسيلة”.قد يقول بعضهم إن السلاحَ الأولَ دافعٌ وفطرةٌ بشرية والثاني وسيلةٌ وأسلوبُ حياةٍ ومنهجيةُ تفكيرٍ, لكن بغض النظر عن التصنيف،فهُمُ الأدواتُ الأكثرُ فتكاً في جعبة الشيطانِ لإفساد الأرضِ وتدميرِ البشر وحرفهم عن الفطرة السليمة.
الغايةُ تبررُ الوسيلةَ هي التعريفُ الأشملُ لمفهوم الفوضى ، وهذا موضوعٌ علينا الإمعان به في ثورات البشر القديمة والحديثة على الواقع المزري.
هذا الأسبوعَ كشفت صحيفةُ هآرتس Haaretz الإسرائيلية عن نتائج المباحثاتِ بين بايدن Joe Biden وبينيتNaftali Bennett. وكما اتضح، فقد قدم رئيسُ الحكومةِ الإسرائيلية لواشنطن رؤيةً جديدة للتعامل مع إيران. وفي إطارها، يقرُّ الإسرائيليون بأنهم يتخلون عن العمل بلا تنسيق مع الولايات المتحدة ضد إيران. وتتضمنُ المبادرةُ تعزيزَ الاتصالات الاستخباراتية بين الدولتين وتحسينَ جودةِ مراقبة البرنامج النووي الإيراني.
وفي الوقت نفسِه، لا تعارضُ الدولةُ اليهودية، بحسب “هآرتس”، عودة إيران إلى “الاتفاق النووي”.
من الواضح أن حكومةَ بينيت Bennett مستعدةٌ لحقيقة أن يتمَّ رفعُ بعضِ العقوبات عن الجمهورية الإسلامية وحتى مساعدتها على النهوض باقتصادها الوطني، على المدى الطويل، إذا نجح الحوارُ بشأن استعادة “الاتفاق النووي”. ومع ذلك، تفترض الخطةُ الإسرائيلية الجديدة أن تخضعَ إيران لمراقبة صارمة، وصولًا إلى دخول مراقبين دوليين إلى منشآتها العسكرية.
هذه الاستراتيجيةُ تعني تحولًا جذرياً في السياسة الإسرائيليةِ المعلنة (وليست الحقيقية).وتُبقي البابَ الشيطاني لاستمرار الحلمِ الفارسي-اليهودي وتخليدِ البقاء في النعيم الذي يعيشُه الاثنان في المنطقة.لكن السؤال الذي يطرحُ نفسه هنا: هل سيشكل إعلانُ هذا التحالفِ الثلاثي الذي قد يظهرُ للعلن للمرة الأولى منذ وصول الخميني إلى سدة الحكم , البداية أم النهاية لهذا المشروع؟!
ما نسجته الأساطيرُ حول الخلودِ الأبديِّ في النعم كان ولايزالُ نسجَ خيال, فعلى سبيل المثال , اعتبر الفلاسفةُ اليونانيون أن الخلطةَ المثالية بين العناصر الأربعة :الماء والتراب والنار والهواء, سيصنعُ ماسموه حجر الفلاسفة.واعتبروا حجرَ الفلاسفة رمزَ الكمال والتنوير والنعيم، فقد كانت صناعتُه الهدف الرئيسَ لكلِّ كيميائي في العصور الوسطى، إذ ينشأ الحجرُ عند تحويل بعضِ المعادن الأساسية مثل الرصاص، إلى معادنَ ثمينةٍ كالذهب والفضة، لذلك ذكرتْ بعضُ الأساطيرِ أن مجردَ حيازة هذا الحجرِ تجلبُ لصاحبه حياةً خالدة، بينما ذكرت أخرى أنه يُستخدمُ في صناعة إكسير الحياة, ولكن هل سيمتلك البشرُ يوماً حجرَ الفلاسفة هذا ؟!
مفتاحُ الخلودِ تعدد بتنوع الثقافاتِ فنجد نبات الألوفيرا في مصر القديمةِ وفي الأساطير النرويجية القديمة ذٌكِرت ثمارَ التفاحٍ الذهبيةٍ، التي تمنحُ الخلودَ وتُمكنُ الآلهةَ من الحفاظ على شبابها وحياتها الأبدية.كما وذُكِرَ شرابُ الآلهة “أمبروزيا” في الأساطير اليونانية . والكأسُ المقدسةُ في الأساطير المسيحية، حيث يُقالُ إنها الكأسُ التي شرب منها المسيحُ خلال العَشاءِ الأخير قبل أن (يُصلبَ)، ويُعتقدُ أيضاً أنها الكأس التي جُمِعت فيها دماءُ السيدِ المسيح عندما كان على الصليب.تقول الأساطيرُ إن أنقى الأرواح فقط يمكنُها الإمساكَ بها. وهناك أيضًا خوخُ الخلودِ في الأساطير الصينيةِ ولحمُ حوريةِ البحر في الأساطير اليابانية وكذلك أشارت بعضُ النصوصِ الصينية القديمة التي تعود إلى عام 475 قبل الميلاد إلى فِطر الخلود كعنصر رئيسٍ يدخلُ في تركيبة إكسير الحياة، وقيل إنه ينمو في مكان سريٍّ على قمة جبل “بينغلاي”، الأمر الذي دفع بالعديد من الأباطرة الصينيين لإرسال بعثاتٍ كبيرة إلى هناك؛ بحثاً عن ذلك الفِطر الأصيل الذي سيمنحُهم الخلود، لكن لم ينجحْ أحدٌ في العثور عليه.
الأسدُ للأبد والخلود في المنصب والنعيم الزائف شعارٌ تَحَكَم في حياتنا ومصيرنا ودمَّرَ البلاد والعباد , والأمرُ لا يتوقفُ على الأسد وحدَه بل يتعداه إلى كلِّ طاغيةٍ عبر التاريخ . توريثُ الحكمِ الذي سنَّه معاويةُ بن أبي سفيان رغبةً في خلود الكرسي في ذريته أدخل المسلمين في صدمة لم يستيقظوا منها إلى يومنا هذا ! قليل من يعلم أن أغلبَ الأسرِ الملكيةِ في أوروبا تنحدرُ من أسرةٍ واحدة هي “ساكس كوبرغ غوتا-House of Saxe-Coburg and Gotha “. فالأُسرُ الملكيةُ الموجودة حاليا في العديد من الدول الأوروبية هي عبارة عن فروع من هذه الأسرةِ الألمانية القديمة التي تحكم أوروبا منذ عدة قرون.هذه العائلةُ حكمَت بريطانيا من عام 1714 م إلى عام 1901م وحتى عائلة وندسور House of Windsor – التي تحكم بريطانيا منذ 1917م – حتى الآن, هي فرعٌ منها، لكن غيرت فقط التسمية لتجنب الإحراج مع البريطانيين بسبب الحربِ مع ألمانيا في الحربين العالميتين!
لكن هل الخلودُ استمرَّ لمعاوية وهل الخلود سيستمر لأسرةِ ساكس كوبرغ غوتا في بريطانيا وقد فَقَدَت قبلها عائلةً تيودور House of Tudor 1485م – 1603م و عائلة ستورات House of Stuart 1603م – 1714م هذا الخلود المزعوم!
المؤرخ البريطاني جي. إم. تريفيليان G. M. Trevelyan- (1876-1962) قال: “إن معاهدةَ أوترخت 1713، التي أذنت ببدء الفترةِ المستقرة والمميزة في حضارة القرن الثامن عشر، حددتْ نهايةَ خطرِ النظام الملكي الفرنسي القديم على أوروبا، ووسمت تغييرًا لا يقلُّ أهميةً بالنسبة للعالم كله، ألا وهو غلبةُ بريطانيا العظمى ماليًا وتجاريًا وبحريًا”. لكن هل سيستمر هذا النعيمُ الاقتصادي والمالي الذي دشنته هذه المعاهدة للأبد!
على مدار التاريخِ الأميركي (246 عاماً) غاب تورطُ الجيشِ الأميركي في مغامراتٍ عسكرية بالخارج 17 عاما فقط. وسبق أن ذكرنا وجودَ 800 قاعدةٍ عسكرية، وصرفَ أكثر من 16 تريليون دولار ميزانية عسكرية منذ نهايةِ الحرب الباردة وهو مجموع ما صرفته دولُ العالم مجتمعةً،ولكن نعيمَ التفوقِ العسكري الأمريكي الذي أصبح بعد نهايةِ الحرب العالمية الثانية العاملَ الحاسم بقرار الحربِ والسلم في العالم هل يمكنُ أن يستمرَّ ويخلد ؟!
رحم اللهُ الشَّاعرَ الأندلسيّ الكبير” أبا البَقاء الرَّندِي” – الذي خلد في قصيدِتهُ الَّتي عُرِفتْ باسمِ” رِثاءِ الأندلسِ” معانيَ انهيارِ الأممِ وزوالِها حيث قال:
لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ فلا يغرُّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمور كما شاهدْتَها دُولٌ من سرَّه زمنٌ ساءتهُ أزمانُ
الخلاصة :
قديماً قالت العرب: إذا تمَّ أمــرٌ بدا نقصُه….. توقَّعْ زوالاً إذا قيل تمّ. حلمُ الخلودِ في النعم حلمٌ قديم لم ولن يتحققَ لأن المدبرَ الأول والآخر هو ربُّ الكونِ (سبحانه وتعالى)الذي أعلمنا أن التغييرَ والتقلبَ بين السراءِ والضراء سنةٌ كونية كما هو الموت والشيخوخة سنة كونية لا مهرب منهما . قال سبحانه يصف من يريد الخلود: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) الهمزة-3 ,لكن في يوم القيامة يأتي الجواب القاطع للبشرية قاطبة:( لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلّهِ الواحِدِ القَهّارُ ) ( غافر/16 ).