صناعةُ الوعيِ الجمعي

د. أحمد سامر العش

صناعةُ الوعي هو مصطلحٌ اخترعَه المؤلفُ وواضعُ النظرياتِ هانس ماغنوس إنتزنسبيرغر (Hans           Magnus Enzensberger 1929- age 91 years )، وهو يهتمُّ بتحديد الآلياتِ التي يتمُّ من خلالها استنساخُ العقلِ البشريِّ كمنتَجٍ اجتماعي. ومن أهم هذه الآلياتِ – وعلى رأسها – تأتي مؤسساتُ ووسائلُ الإعلامِ والتعليمُ. وحسبُ رأيِّ إنتزنسبيرغر، لا تُنتجُ صناعةُ العقلِ أيَّ شيءٍ محددٍ، فعلى العكس من ذلك فإنّ نشاطَها الرئيسَ هو تخليدٌ وتكريسٌ لوجود نظامِ هيمنةِ الإنسانِ على الإنسان وقولبةِ واستنساخِ العقلِ البشري . وقد حاربَ الإسلامُ وكلُّ الشرائعِ السماويةِ موضوعَ الوصايةِ على العقل البشري من قبل الوعيِ الجمعيِ , قال تعالى  “وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ “(البقرة-170), “بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ “(الزخرف-22).

عمومًا يؤمنُ الفلاسفةُ أنّ التجربةَ الذاتيةَ هي جوهرُ الوعي . وعليه فإنه لا يمكنُ -على سبيل المثالِ – معرفةُ وجودِ وطبيعةِ الوعي الحيواني،  ذلك بإنه بغضِ النظرِ عن مدى معرفتِنا بدماغ الحيوانِ وسلوكِه، لا يمكنُنا أبدًا وضعُ أنفسِنا في ذهن الحيوانِ . وتجربةُ عالَمِهِ بالطريقة التي يعملُ بها. لقد أوضحَ الفيلسوفُ الأمريكي توماس ناغل ( Thomas Nagel 1937 – age 84 years)‏ وجهةَ النظرِ هذه في مقال مؤثرٍ بعنوان “ماذا يعني أن تكونَ خفاشًا؟ What Is it Like to Be a Bat ” والذي صدر في تشرين الأول 1974 ويقول فيه :” إنَّ الكائنَ الحيَّ واعٍ، إذاً وفقط إذا كان هناك شيءٌ يشبهُ أن يكونَ ذلك الكائنُ الحيّ؛ عندها يمكنُ معرفةُ هذا الوعيِ الذي لديه”.

كتجربة حيَّةٍ على صناعة الوعي، شخّصَ الكاتبُ الأمريكي “فيليب روث Philip Roth, 19332018- ” بدقة ما قام به يهودُ أمريكا، وبالتحديد اليهودُ المؤسسين لهوليود، بالقول: “إنّ اليهودَ في أمريكا قد ابتكروا الثقافةَ الشعبيةَ (الوعي الشعبي) والسينما، وهي نشاطٌ مارسوه لأنهم ببساطة كانوا ممنوعين من الأنشطة الأخرى، لقد ابتكروا الجديدَ لأنه لم يكنْ مسموحا لهم أن يمارسوا القديم”. نعم لقد صنعتْ هوليودُ بطريقة أو بأخرى واليوم وسائلُ التواصلِ الاجتماعي الوعيَ الجمعيَّ لسكان العالمِ تلك القريةِ العالمية الجديدة التي عكست مفهومَ العولمةِ.

لقد استطاع مؤسسو أستوديوهات الإنتاجِ السينمائي في هوليود أن يُمسكوا بطرف الخيطِ الصحيحِ – رغم أنهم كانوا في أقصى حالاتِ الضعفِ في بدايتهم – ورصدوا ببراعة القوةَ غيرَ المحدودة للسينما والصورة، وصناعةَ الوعي الجمعي فاستغلوا بعبقرية لا مثيلَ لها السينما لاستعمار الخيالِ وتشكيلِ ملامحَ جديدةٍ لمجتمع جديدٍ سيغزو أمريكا، ثمَّ بقيةَ العالم.

لقد نجح اليهودُ قبل الحربِ العالمية الثانية في امتلاك سلاحٍ سيحاربون به الآخرَ الذي يعادي قيمَهم، وهو سلاحٌ استغلته إسرائيلُ أيما استغلالٍ الى وقتنا الحاضر!

لقد تقاسم آباءُ السينما اليهودُ في هوليود شيئين متناقضين : فقرًا وإقصاءً في الماضي، وسلطةً طاغيةً وثراءً فاحشًا في المستقبل. كان أصحابُ أستوديوهاتِ السينما الأكثرُ شهرةً في العالم يهوداً هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أو أبناءَ مهاجرين انحدر أغلبُهم من عائلات فقيرة ووفيرة العدد، معدلُ الأبناءِ فيها يصلُ إلى 12 طفلًا وربما أكثر، ورغم فقرِهم فقد اشتركوا جميعًا بشكل غريبٍ في طموحٍ واحدٍ وهو التحكمُ في صناعة السينما في أمريكا وفي العالم.

لقد كانت هوليودُ في بداية العشرينيات حتى أواخر ثلاثينيات القرن الماضي بمثابة أرضِ الميعاد، وأصبحت أستوديوهات الإنتاجِ السينمائي في هوليود بمثابة سبعِ قبائلَ يهوديةِ تحكمتْ طيلةَ قرنٍ أو أكثرَ في صناعة السينما العالمية وصناعةِ الوعي الجمعي لسكان كوكبِ الأرضِ!

ولكن أين الوعيُ الشعبيُّ الجمعيُّ للأمة العربيةِ والإسلاميةِ أمامَ الوعي الهوليودي والوعي الجمعي الذي جلبته وسائلُ التواصلِ الاجتماعي الحديثةُ  من أمثال التيك توك واليوتيوب والفاسبوك وغيره؟

لا شكَّ أنّ الأمةَ العربية والإسلاميةَ أدَّتْ ضريبةً قاسيةً ولا تزالُ تؤدي جرّاءَ عدمِ وعيِها بقضاياها المحوريةِ والمحددةِ لنقطِ قوتِها وهزائمِها، إذ ما خلفتْهَ صدمةُ انحرافِ مسارِ الحكمِ في تاريخ المسلمين، وما تعرضوا له وبلدانهم من استعمار مسلحٍ واستغلالٍ لثرواتِهم يبقى قوياً وصادماً أدّى لضرب أسسِ الوعي الجمعي الإسلامي والقضاءِ على “النخب الواعية” بمقومات أمتِنا الإسلاميةِ بتغييبِها أو إغرائِها أو تجاهلِها إذ تُعَدُّ هذه العناصرُ أساليبَ قد اعتمدت لضرب وعينا قصداً وتحكماً واستبداداً، فقد اعتمد النظامُ الليبرالي مثلا القوةَ الناعمةَ أو القمعَ اللطيفَ وغيرَ المحسوسِ لتشكيل وعي هجينٍ يضعُ السمَّ في العسل لقاعدة هامةٍ غيرِ محصنةٍ فكرياً وعقائدياً ضد هذه الهجماتِ المنظمةِ الخطيرةِ، وقد اعتمدتِ الأنظمةُ القمعيةُ السابقةُ كالنظام السوفيتي والناصري والبعثي على المواجهة المباشرةِ لضرب فكرِ المخالفين قمعاً لهم وسجنِهم واغتيالِهم بشكل مباشر وغيرِ مباشر، وقد أدَّتْ هذه الأساليبُ على اختلافها لخلق وضعيةٍ فكريةٍ وعقائديةٍ هشةٍ عانت منها الأمةُ ولا تزال الأمرَّين.

من هنا نتساءلُ : هل المسلمون الآن في حاجة لوعي بديلٍ لما ساد قرونا من الزمان انحبس بموجبه فكرُنا وانقطع عن الاجتهاد والإبداع في شؤون الدينِ والدنيا؟ وهل سيأتي يومٌ نتخلصُ فيه من الوعي الذي ترسب في أذهان مثقفينا وعلمائِنا وشعوبِنا؟ أم أنه لا خلاصَ أمام أمتِنا إلا بتكسير أغلالِ التحجيرِ على الطاقات والكفاءات وفتحِ بابِ الإبداعِ أمامها؟ ولماذا يُحارَبُ الوعيُ الخلاقُ والمبدعُ ، ويُفتحُ الباب على مصراعيه أمام وعي هجينٍ ومستلبٍ وتابعٍ لفكرٍ غربيٍّ “حداثي” مسمومٍ لا يهتمُّ إلا بمصالحه الضيقةِ ولا يعترفُ إلا بمرجعيته وأيديولوجياته المنحرفةِ عن مسار الأخلاقِ والقيم.

لقد صنع المهاجرون اليهودُ الفقراءُ بإرادتهم وعملِهم الدؤوبِ ودعمِهم لبعضِهم بعضًا الوعي الجمعي للعالم وكرسوه لخدمة أهدافِ دينِهم ودنياهم، بينما يتوه وعيُنا الجمعيُّ في دهاليز التاريخِ والعرقيةِ والقبليةِ وانتصارِ الأنا على خدمةِ “الأمةِ والبشريةِ جمعاء”. وقد حذر دينُنا من التفرقة والتشتتِ قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (آل عمران-103), لكن السؤالَ المحوريَّ المُلِّحَ في هذا الوقتِ العصيبِ : كيف نصنعُ الوعي الجمعيَّ الصحيح, الذي يُعيدُ لنا دورنا المكلفين به؛ “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ”(آل عمران-110).

لا شكّ أنّ التغييرَ العمليَّ يبدأُ بتغييرِ قراراتِنا وسلوكياتِنا، ولكن هذه القراراتِ والسلوكياتِ ما هي إلا ثمرةٌ طبيعيةٌ لشيءٍ أعمقَ وأساسيٍّ في الشخصية وهو الفلسفةُ الخاصةُ والتي تتكونُ من القناعات والآراءِ والمعتقداتِ. وهذه الفلسفةُ الخاصةُ هي بمثابة نظامِ التشغيلِ للإنسان أو البرنامج الذي يتحكمُ في تفكيره وقراراتِه وأفعالِه. لذلك نجدُ أنَّ الأديانَ تستهدفُ تغييرَ هذه الفلسفةِ الخاصة.

في خضم هذه التعقيداتِ في المشهد الحالي والتي تبدو عصيةً على الفهم ,قد نتساءل: لماذا حاربْنا ونحاربُ الانظمةَ الاستبداديةَ ؟ لماذا ؟! هل لأنها تصادرُ حقَّنا في الحرية وتقريرِ المصيرِ؟ ولكن هلِ النظامُ المستبدُّ وحدَه الذي يصادرُ الحقوقَ؟ وماذا نقولُ فيمن يَحرمُ ابنتَه حقَّها في الميراث مثلا؟ ألا يصادرُ حقَّها كالحاكم المستبدِّ تماما؟ وربما هانت قضيةُ الحقوقِ الماديةِ أمامَ الحقوقِ الإنسانيةِ المعنويةِ ؛ فكم من شابٍ وكم من فتاةٍ يُجبرون على دخول تخصصاتٍ لا يرغبون فيها ! هذا إن لم يُصادرْ حقُّهم في التعليم أصلا. وكم من فتاةٍ يُغتصبُ حقُّها في اتخاذ قرارِ الزواجِ؛ وهو الحقُّ الذي أوجبه لها الشرعُ بالنص !

ولكن قد يقولُ قائلٌ : الحاكمُ المستبدُّ يسجنُ ويعذبُ ويقتلُ! يسجن! نعم؛ لكن أما ترى الآلافَ المؤلفةَ ممن حُكِمَ عليهن بالسجن مدى الحياة بين أربعةِ جدرانٍ ، يعشْنَ حياةَ جواري القرونِ الغابرةِ، لا يخرجن إلا لزيارة تافهةٍ لا يرجعْنَ منها إلا بأوزار الغيبةِ والنميمةِ ؟!

إننا نطالبُ بتغيير العالمِ والآخرين والأشياءِ ولكن الحقيقةَ الفلسفيةَ العميقةَ هي أن العالمَ والآخرين والأشياء أمورٌ ثابتهٌ لا تتغيرُ، بل نحن الذين نتغيرُ، وإذا كان هناك ما نشكو منه فإنه موجودٌ فينا نحن وفي نظرتنا وفلسفتنا الخاصة التي نفسرُ بها العالمَ والآخرين والأشياءَ. وأيُّ تغييرٍ لا يستهدفُ فلسفتَنا الخاصةَ هو تغييرٌ زائفٌ.

تغييرُ الوعيِ الجمعيِّ أمرٌ يتمُّ كما تحدثَ هانس ماغنوس إنتزنسبيرغر Enzensbergerعبرَ صناعةِ الآلياتِ التي يتمُّ من خلالها استنساخُ العقلِ البشري كمنتجٍ اجتماعي. ومن أهم هذه الآلياتِ مؤسساتُ وسائلِ الإعلامِ والتعليمِ . إذن بلا جامعٍ وسوقٍ ومدرسةٍ ونظامِ اتصالاتٍ وتواصلٍ خاصٍّ بنا نصنعُه بأيدينا لا بيد أعدائِنا لن نصلَ إلى وعي جمعيٍّ جديدٍ، وكما قال الكاتبُ الأمريكيُّ “فيليب روث Philip Roth- ” نجح اليهودُ قبل الحربِ العالميةِ الثانيةِ في امتلاك سلاحِ سيحاربون به الآخرَ الذي يعادي قيمَهم, لقد ابتكروا الجديدَ لأنه لم يكنْ مسموحًا لهم أن يمارسوا القديمَ . نعم نحن بحاجة إلى تغييرٍ حقيقيٍّ في طريقة تفكيرِنا ورمي الوعيِ الجمعيِّ السلبي المتراكمِ عبرِ مراحلَ طويلةٍ لنصنعَ وعيًا جمعيًا أصيلًا نغزو به العالمَ بدل الوعي الهوليودي الذي يبدو من القديم – وربما هذه فرصتنا- فهل نستطيعُ أن نبدعَ الجديدَ !!؟؟

لقد شكل نظامُ التعليمِ الذي أسسَه محمدُ علي باشا ومَن بعدَه دوغلاس دنلوب المعلمُ والمبشرُ الأسكتلندي الذي كلفه اللوردُ البريطاني كرومر بوزارة المعارفِ، ووضعِ نظامٍ تعليمي الغايةُ منه خدمةُ أهدافِ الاحتلالِ الإنجليزي لمصر، وكذلك السينما المصرية ومن بعدها الدراما والمسرحياتُ العربية (من أمثال مدرسة المشاغبين , والعيال كبرت , وباي باي لندن , وغربة , وكاسك ياوطن….) قواعد ومنصات  لتشويه الوعي الجمعي العربي ولكن هل كان هذا الوعيُ مُمَنهجًا ومُوَجهاً – كما كانت هوليوود ممنهجةً – لخدمة القضايا العربية والإسلامية أم أنه كان أداةً لضرب عمقِ المفهومِ الإسلامي والأخلاقي؟ ماعدا استثناءاتٍ بسيطةً للغاية يؤكدُ جيل منتصفَ القرن الماضي وماتلاه أنّ هذه الذاكرةَ والوعيَ الجمعي كان مشوشًا ومضطربًا للغاية وأحيانًا متشظيًا !؟ ولم يخففْ وطأةُ هذا العملِ الممنهجِ – في ذلك الوقت -إلا ضعفَ توفرِ وسائلِ التواصلِ وضعفَ نسبِ التعليمِ ،ووجودَ أجيالٍ واعيةٍ ومربيةٍ – أُحيلت للتقاعد منذُ منتصفِ ثمانينات القرن الماضي – من الأساتذة الفضلاءِ الذين حاربوا ما استطاعوا هذه الانحرافاتِ في الوعي الجمعي.

لكن تلك الكارثةَ لا تُعَدُّ شيئاً أمام الوعيِ الجمعي الذي سيشكلُه جيلُ التيك توك Tik-tok وجيلُ المخيمات والتشردِ في أصقاع الأرضِ والذي بدأ يظهرُ وسيكونُ بمثابة تسونامي يجرفُ كلَّ مايقفُ في طريقه من بقايا الوعي الجمعي للأمة!

لكن ما هو الحلُّ أمام هذا التحدي ؟ الجوابُ السهلُ الممتنعُ لهذا التحدي هو تغييرُ المنظورِ. لسوء الحظِّ ، هذا ليس سهلاً كما يبدو ، لأن وجهاتِ النظرِ غالبًا ما تؤثرُ علينا بشكل عقلاني مسبقِ بطرق لا نفهمها حقًا. هذا يعني أننا قد لا نحظى حتى بالفرصة أو القدرة على تغيير منظورِنا تمامًا بمفردنا.

ربما يكونُ النهجُ الأفضلُ هو أن نضعَ أنفسَنا في موقف يمكنُ أن يتغيرَ فيه منظورُنا بشكل طبيعي بدلاً من محاولة فرضِ التغييرِ بأنفسنا. حددِ المنظورَ الذي ترغبُ في رؤيته وأدخل إلى تلك البيئةِ . لا أقصدُ هذا من الناحية المجازيةِ. أعني حرفيًا الدخولَ في تلك البيئاتِ حيثُ يمكنُك رؤيةُ المنظورِ الذي ترغبُ في رؤيته.

يقولُ الكاتبُ الأمريكي باري شوارتز,Barry Schwartz) 1946-age 75) في كتابه Why We Work -لماذ نعملُ – الذي صدر عام 2015:” كنتُ أتحدثُ مؤخرًا مع مديرةِ السلامةِ في مؤسسة الأشغالِ العامةِ وسألْتُها عن بعض مفاتيحِ النجاحِ الذي حققتْه في  المنظمة على الرغم من التحديات الكبيرةِ في الموارد. وقد أشارتْ إلى تغيير حركةِ كوادرَ إدارتِها لتكونَ في نفس الموقعِ حيثُ يتمُّ إرسالُ العمالِ منه وقامت بتحويل ساعاتِ عملِ إدارتِها لتكونَ مماثلةً لساعات العمالِ . شيءٌ قالته شكل صدىً لدي, قالت: “نرى بعضَنا بعضًا في ساحة انتظارِ السياراتِ كلَّ صباحٍ ، نسألُ عن أطفال بعضِنا بعضًا.” يقول شوارتز :”لقد تمَّ تحديدُ شيءٍ تافهٍ مثلِ إجبارِ العمالِ والموظفين على العمل في نفس المكانِ والوقتِ اللذين كان من المفترض أن يعملوا فيه كعامل رئيسٍ للنجاح على الرغم من بيئة العملِ التي تنطوي على مشاكل. وليس لأن موظفي السلامةِ يمكنُهم مراقبةَ العمالِ للتأكد من أنهم يتبعون القواعد ، ولكن لأنها أرادت مساعدتَهم على تطوير العلاقاتِ الإنسانية والرابطة البشرية”.

الطبيعةُ البشريةُ بإساسِها علائقيةٌ – عندما يوضعُ البشرُ في مواقفَ حيثُ يجبُ أن نتفاعلَ مع الآخرين ، فإننا نطورُ العلاقاتِ بشكل طبيعي. بالتأكيد إذا كنت تعرفُ شخصًا ما على المستوى الشخصي ، فمن المرجح أن ترى وجهةَ نظرِه وتفهمَ كيف تؤثرُ أفعالُك عليه أكثرَ مما لو كنتَ تتعاملُ مع الغرباء.

هذا هو الدرسُ لمنظري التغييرِ ونهضةِ المجتمع في بلادنا العربية والإسلامية: “العملُ على الأرض حيثُ يتواجدُ البشرُ” .قد تكونُ هناك طرقٌ بديلةٌ أخرى لوضع جيلِ المخيماتِ والنزوحِ وجيلِ التيك توك في موقف أو بيئةٍ يمكن من خلالها تطويرُ منظورِهم . ولكن إذا لم نتمكنْ من وضعهم في تلك البيئاتِ التي يمكنُ أن تتحولَ فيها وجهاتُ نظرِهم ، فيجبُ علينا أن نتعاملَ بحذر وأن نكونَ حذرين من الافتراضات التي تدعمُ أي تدخلٍ نوصي به في مؤسساتِنا ومجتمعاتِنا ينطلق من إطار نظريٍّ أو تنظيري فقط كما تعودنا. في تلك الحالةِ نحن نناورُ بنقاط عمياءَ كبيرةٍ. لسوء الحظِّ ، كما يشيرُ شوارتز Barry Schwartz ، غالبًا ما تكونُ أجيالُنا هم الذين يعانون في تلك المواقفِ حين نكتفي بالتنظير والإطارالنظري ولا نخلقُ المشاريعَ على الأرض التي تعملُ على إنتاج البيئةِ ! هناك شواهدُ حيةٌ على نجاح بعض التجاربِ من أمثال تجربةِ التعليمِ في غزة ,وسابقاً تجربة المدارسِ التي افتتحَها محمدُ البشيرالإبراهيمي في الجزائر, وحديثاً جامعة حلب الحرة,ومشروعِ إرادتي في مخيمات قطمة للنازحين في شمال سوريا. أرجو أن يكون هذا البحث دعوة مفتوحة لأن نعملَ على الأرض ونتفاعل مع البشر ولا نكتفي بالمنابر وكراسات الكتبِ فقط، وبذلك نستطيع أن ننقذَ جيلاً كاملاً وننجحَ في مهمتنا التي كلفنا اللهُ بها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى