من خلال متابعة نقاشات السوريين والسوريات المنتمين إلى الطرف المعارض لنظام الحكم في الأدبيات المكتوبة وعلى مختلف وسائل التواصل الاجتماعي بقديمها وجديدها، يمكن استخلاص محاور نقاش أساسية تستقطب اهتماماً واسعاً وتُحرّض على فتح حوارات لا تخلو من التوتر والعصبية التي ربما تتحول أحياناً إلى هجمات متبادلة ودفاعات متفاوتة.
وأهم ما يبرز ويميّز هذه الأدبيات هو وضع كل طرف من الأطراف الإثنية أو الدينية أو الجندرية مسألة المظلومية الذاتية كإطار عام وأساسي لعرضه أو لردّه. واللجوء إلى درع المظلومية الذاتية يدفع إلى الحد من إمكانية تعزيز وإثراء الحوار وبالتالي يمنعه من الوصول إلى نتيجة أو نتائج مثمرة. كل طرف، سيعتبر بأن الجماعة التي ينتمي إليها، هي التي دفعت أغلى الأثمان جراء اضطهادها من قبل النظام السياسي القائم طوال عقودٍ ماضيةٍ. ولتواجهها فوراً جماعة أخرى تحاول أن تُخرج من جعبتها المليئة مظلوميتها “بأبهى حللها” بحيث تكون في موقع متقدم عن كل البقية وهكذا دواليك. وستتعقد الأمور أكثر فأكثر عند تدرج المظلومية لدى الجماعة الواحدة كأن تكون من مذهب معين وقومية محددة، أو هكذا اختارت، فتصبح عملية التفضيل أصعب. فهل تستند المظلومية إلى العرق أو إلى المذهب أو إلى كليهما معا؟ ستنشئ إذاً مواجهات عنيفة رمزياً، وربما أكثر، لتحديد مستوى المظلومية دون أن يتنازل أحد الأطراف عن استلاب الحق لنفسه بالتقدم في درجة المظلومية على الآخر، ودون حتى أن يقبل أحد منهم المكوث في موقع وسطي أو في موقعٍ متساوٍ مع الآخر، مهما كان هذا الآخر، بحيث لا يمكن أن تكون هناك أرضية “مشتركة” للمظلومية.
مع انفجار القيود الفولاذية المفروضة من سلطة مستبدة بحسب كل المعايير على المجتمع سنة 2011 نتيجة الانتفاضة الشعبية، ومع تطور الأمور بطريقة مفجعة نقلت ما اعتبرته الأدبيات الجادة على أنه ثورة إلى أتون المقتلة المعمّمة، أوردت الكثير من الدراسات عدة إشارات أساسية تشير بجلاء إلى سقوط جدار الخوف أو إلى الانعتاق من ثقافة الخوف، وهو ما كان السوريون والسوريات يعيشون في كنفه لمدة تجاوزت عمر دولتهم “الوطنية” الفتية لدرجة تحوّله إلى جزء من تراثهم غير المادي. ونتيجة لتهجير نصف عدد السكان، فقد صار النقاش والجدال، بين المهجّرين على الأقل، متاحاً في كل القضايا، من أبسطها إلى أكثرها تركيباً وتعقيداً. وساد شعورٌ متنامٍ لديهم بتوسّع هامش حرية التعبير، خصوصاً إن كانت هجرتهم إلى بلاد تعرف ممارسات النظام الديمقراطي على اختلافاتها. وتخلو بالتالي عن جزء كبير من التابوهات التي كانت تحبس أنفاسهم طوال فترة نشوئهم في أرض الوطن. وقد ساعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بشدة في أوساطهم على تعزيز هذا الشعور وصولاً إلى الحد الذي يتخلّص فيه التعبير من معايير الالتزام الأخلاقي مبتعدا بالتالي عن مجرد حرية التعبير إلى حرية التشهير والإساءة.
تغوص الحوارات التي تقوم، إن جازت تسميتها كذلك، في تفاصيل درجة القمع أو الظلم التي عانت منها كل مجموعة. حتى إن تراجع الأمر إلى الأفراد، فستكون سنوات السجن التي تعرّض لها كلٌّ منهم هي التي تُشكّل العامل الحاسم الضروري في منح درجة مصداقية الطرح أو التحليل مهما كانت تكتنفه العبثية. وبالنسبة للمجموعات، فستستند في طروحاتها إلى سرد وقائع تاريخية محددة مستقاة من مراجعها الذاتية بعيداً عن عملية المقاطعة التاريخية الضرورية منهجياً للتثبّت، بحيث تتعرّض هذه الوقائع أحياناً إلى درجة من المبالغة ونسبة من التعظيم بحيث تفقد موضوعياً عدالة قضيتها أو جزءاً منها. ويتراكم هذا الانزياح عن المشترك من الهمّ الوطني في الفضاء المحلي بين السوريين أنفسهم، ولكنه يبرز أيضاً حينما يتم توجيه هذا الخطاب إلى “القوى” الخارجية الشقيقة أو الصديقة كما يحلو تسميتها. وهنا تكون الطامة الكبرى، بحيث يتم سلخ الهمّ السوري من كل مشروعيته الوطنية والإنسانية، بحيث يتحوّل المراقبون “الأجانب” إلى لعب دور الوسطاء الذين يحاولون تقريب وجهات النظر المتخشّبة والمتخندقة للأفراد وللجماعات التي تصدّرت مشهد المعارضة صدفة أو عن سابق إصرار وتصميم.
مُنِحَت سوريا تركيبة إثنية ودينية ومذهبية متنوعة كان رجال نهضتها يتمنون عليها، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أن تجتمع على كلمة سواء بعيداً عن التمايزات والتفاضلات في سبيل بناء وطن مشترك. وأسس هؤلاء، الذين نسيناهم أو تناسيناهم، قواعد سياسية للإخاء الوطني دوناً عن التفاصيل الفئوية الأخرى. وبعد مرور أكثر من قرن، وبعد أن انتفض السوريون ضد الظلم بحثاً عن كرامتهم وعن حريتهم، سرعان ما نمت طفيليات التقسيم والتمييز في أرضٍ خصبة لوّثتها عقود من القمع فشل القائمون عليها في إدارة التنوع، ونجحوا في نشر ثقافة التكيّف معه في أفضل الأحوال أو الخضوع له في أشملها.
إن ملايين السوريين القابعين في أحلك الظروف ينتظرون بروز نخبة مثقفة تتخلّص فعلاً وليس قولاً من عقدة المظلومية والبحث عن الاختلافات والسعي إلى إبراز حقٍ ـ أو فردٍ ـ على حساب حقوق الناس بمجملهم. فإلى متى سيظل ذلك حلماً؟
المصدر: موقع تلفزيون سوريا