تلقيت أمس اتصالاً من أخ صديق يشكو لي سوء الأحوال وانسداد الأفق، وهو الذي أمضى سبعَ سنوات عجاف في الأعمال التجارية النشطة ومثلَها في الخدمات الاجتماعية والإنسانية في محاولة لجمع شتات الصادقين المخلصين على عمل جماعي يعود بالنفع على البلاد والعباد. أحسست بأنفاسه المتعبة كفارس يترجل من على صهوة حصانه وقد أرهقته السنوات السبع التي قضاها يحارب طواحين الهواء، أحسست بهذا الدونكيشوت المسلم التاجر الصدوق يسألني بشكل مبطن عن وصفة علاجية ليدسها في عقله وقلبه فيشعر براحة المريض الذي يخرج من عيادة الطبيب وقد شعر بالتحسن رغم أن العلاج مازال في جيبه وليس في معدته.
لكتابة وصفة ناجعة لصديقي ارتأيت أن أبحث في المراجع الغربية ثم أختم بالكلام الذي يعلو ولا يعلى عليه ففيه الدواء لكل داء.
منذ أشهر استوقفني كتاب جميل بعنوان بلد الزنبق الأبيض The Country of White Lilies للكاتب الروسي غريغوري بيتروف Grigory Spiridonovich Petrov (1866–1925) كتبه في بدايات القرن العشرين ويتحدث فيه عن فنلندا وكيف حول شعب تعداده 3.5 مليون إنسان بلداً – بدون موارد طبيعية و بأراضٍ تغطيها الكتل الجرانيتية الضخمة وأكثر من عشرة آلاف مستنقع وظروف مناخية قاسية – بلدهم إلى بلد من أكثر بلاد العالم حضارة ورفاهية. يسأل بيتروف كيف لبلد لا يملك ما يكفي من الأراضي الصالحة للزراعة ويغطيها الضباب والبرد والثلوج على مدار السنة وقبع أغلب فترات تاريخه محتلاً من جيرانه السويديين والروس و برغم كل هذا استطاع هذا الشعب بإرادة أبنائه أن يحول الجحيم إلى جنة في التعليم والصحة والنظافة والاكتفاء الذاتي.
ما استوقفني في الكتاب فصلٌ بعنوان الأبطال والناس يتحدث خلاله الكاتب عن سؤال لطالما شغلني شخصياً وشغل كثيرين: هل الأبطال يسقطون من السماء أم هم نتاج مجتمعاتهم؟ للجواب على هذا السؤال يستدعي الكاتب رأيين؛ رأي للفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل Thomas Carlyle في روايته “أبطال وبطولة في التاريخ” ورأي للكاتب الروسي ليف تولستوي Lev Tolstoy في روايته “الحرب والسلام”.
فكارليل في روايته يمجد الأبطال كقيصر، ونابليون، وبطرس الأكبر ويعتبرهم صناع التاريخ. كارليل يقول إن الأمة (الناس) تتكون من طبقة من الطين؛ إذا لم يقع هذا الطين في يدي فنان، فسوف يظل بلا شكل إلى الأبد. بالتالي، إذا خرج فنان مثل سقراط أو إسكندر الأكبر وتولى هذا الطين، فسيشكله كما يشاء. بحسب كارليل تمكن جنكيز خان من جمع ملايين الأشخاص المتشرذمين التائهين من سهول آسيا وغزا الصين والهند وإيران وروسيا. كذلك صنع مارتن لوثر حركة الإصلاح الديني في أوروبا. توماس كارليل في عمله المسمى “أبطال وبطولة في التاريخ” يقول: “الناس مثل قش ملقى على الأرض ويتعفن. الرجال العظماء، أي الأبطال، مثل صاعقة سقطت من السماء، تشعل القش وتحفز وتنشط الناس “.
يدعي تولستوي في روايته الحرب والسلام أن العكس هو الصحيح، فليس نابليون أو سقراط أو جنكيزخان من يصنعون التغيير، ولكن جماهير الناس، هم الذين يوجهون الإنسانية، يحددون مسار الأحداث والتاريخ. يقول تولستوي، صحيح أن الأبطال كبرق يسقط من السماء ولكن الناس ليسوا طبقة من الطين ولا كومة من القش. إن الأمة هي التي تصنع البرق. عندما تمتلئ الغيوم بالكهرباء، سيبدأ البرق حكماً بالوميض . أما إذا لم تحمل السحابة شحنات كهربائية في بعض قطرات الماء، فهي مجرد كتلة من بخار الماء. فإذا كان الناس مجرد كتلة من بخار الماء، فلن نتوقع أن يخرج برق من تلك السحابة.
يقول بيتروف:” للوهلة الأولى، يبدو أن هاتين النظريتين متناقضتان تماماً، هل كارلايل أم تولستوي على حق؟ لكن في الواقع، النظريتان لا تتعارضان بل يكمل كل منهما الآخر. من الأصح أن نقول “كارلايل وتولستوي” بدلاً من قول إما كارلايل أو تولستوي؛ لأنّ كليهما على حق؛ فهما وجهان لعملة واحدة، وكل منهما يملك نصف الحقيقة. على سبيل المثال، خذ عدسة مكبرة الغرض منها جمع الآلاف من أشعة الشمس في نقطة واحدة. هذه العدسة تستطيع أن تحرق أشياء مثل الخشب والورق والقش المتعفن وحتى من الممكن أن تصهر المعادن. كل رجل عظيم يخرج من الأمة يشبه العدسة المكبرة. يجمع أقوى جوانب شعبه ويشعل أرواحهم. ولكن إذا كان الطقس غائماً وحرمت السماءُ العدسةَ من أشعة الشمس، فلا يمكن لأي عدسة تكبير أن تُذيب حتى ندفة ثلج أو تُسخّن قطرة ماء.
يقول بيتروف بالخلاصة “تعاني بعض الدول من أزمات مدمرة أو تدمرها أخطاء حكامها أو ملوكها (كما نشهد في دول الربيع العربي ودول إسلامية كثيرة أو كما شهد التاريخ كنيرون، أو كاراكلا، أو كومودوس). بينما توفر دول أخرى لشعوبها حياة سعيدة بفضل مديريهم الأذكياء والناجحين (كسنغافورة أو ماليزيا أو تركيا).
يجب على رجال الدولة والمستشارين والموظفين الحكوميين أن يتعلموا من ذلك، لكن هذا لا يكفي. يجب على شعب تلك الدولة – المرأة التي تربي الأولاد، الرجل العجوز، الفلاح، العامل – أن يفكروا في تقدم المجتمع وتعليمه. لا يمكننا أن نعزو قوة الدولة أو ضعفها أو تقدم المجتمع أو تدهوره إلى قدرة أولئك الذين يحكمون الدولة. أولئك الذين يحكمون الدولة – جيدين كانوا أو سيئين، أبطالاً كانوا أو سفاحين – يخرجون من ذلك المجتمع. وبعبارة أخرى، كل شخص يُدار كما يستحق. الأسئلة المهمة التي يطرحها بيتروف في نهاية هذا القسم؛ من يؤثر على تاريخ الأمم؟ من يخطط ويدير الأحداث الكبرى في حياة الدول والإنسانية؟ هل يجب أن يتولى قيادة الدولة قادةٌ أذكياءُ وأقوياء وموهوبون، أو أشخاص غير مهمين وغير أكفاء؟ إن مزاج وقيم الناس -بحسب بيتروف- هي التي تحدد أياً منهم سيقود الدولة. إن نيرون، كاراكلا، كومودوس وما شابههم لم يدمروا الإمبراطورية الرومانية. لقد انهارت الإمبراطورية، حين اختار المواطنون الرومانيون ذلك، فهم الذين انهاروا روحياً وانحرفوا إلى المستنقع ، القادة من أمثالهم وانعكاس لهم. هل يتطور عقلُ الناس وإرادةُ وضميرُ الأمة أم يتدهورون وينزلقون إلى حياة بائسة؟ هنا، بالفعل علينا دراسة أسلوب حياة وشخصية كل واحد منا. هنا تقع أهمية رحلتنا المعرفية إلى داخلنا وإلى ما حولنا. ما نقوم به في بلادنا؛ ما الدور الذي يجب ان نمارسه في تحديد مستقبل أمتنا؟
إن نقاش بيتروف نقاشٌ جميل مقنع ولكن قد يختلف معه آخرون كحال كل البشر وطبيعتهم ولكن ماذا لو جاء التأكيد من رب البشر. ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 20-24]. عندما كانت هذه فلسفة بني إسرائيل كان الجواب في الآية 26 ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ). فهؤلاء الذين شهدوا معجزات الله الكبرى مع موسى وكان على رأسهم نبيان لم يملكوا الإرادة للتغيير فتاهوا في أرض سيناء أربعين سنة، وعندما تغير المزاج العام هم من طلبوا من نبيهم شمويل القائد القوي الأمين ليقودهم حتى يصنعوا التغيير ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 246].
نعم هنا طلبوا القائد الذي سيشعل حماسهم و يجمع أقوى جوانبهم. عندما أتى طَالُوت ملكا عليهم أدرك أن نصر الله يأتي للقلة الصادقة المتوكلة على الله فامتحن النفوس حتى وصل بالناجحين باختبار النهر إلى موقع المعركة هنا ظهر المزاج العام والرغبة الصادقة لدى الأمة في التغيير، عندما حدث الحوار الشهير بينهم والذي انتهى بالنصر ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]. هنا ندرك بأن مزاج التغيير والإصلاح وتبديل الحال والقدرة على إزاحة منظومة فرعون المتمكنة يأتي من المزاج الجمعي بالتغيير وليس فقط بقائد ملهم يأتي من السماء ولو كان هذا القائد رسولاً من أولي العزم من الرسل ، فلا بد كما قال بيتروف من تجمع بعض قطرات الماء المشحونة بالكهرباء حتى يخرج البرق فيحرق القش ويحول الجفاف إلى نار تصنع التغيير وتقضي على العفن. لقد ظن الكثيرون أنّ حسني مبارك أو القذافي أو غيرهم من طغاة الماضي والحاضر هم عائق التغيير وإصلاح الحال ليكتشفوا بالتجربة وليس بالتنظير أن إرادة التغيير لم تكن مزاجاً عاماً بل خليطاً من الجهل والأنانية وصراع المصالح الدنيوية. ها هو أحد قادة الكتائب الإسلامية في مقاومة الغزو الأميركي يقول متحسراً لقد كنا كقادة نأبى أن نجتمع لتكون كلمتنا واحدة لنجد أنفسنا مجتمعين قَسْراً في زنازين المحتل الأميركي!
ها هي الوصفة يا صديقي الدونكيشوت المسلم يجب أن ينبع التغيير من داخل كل فرد فينا أو على الأقل قلة منا. على بعض رجال الأعمال والأفراد والناس في أماكن مختلفة أن يشحنوا نفوسَهم بالكهرباء حتى ينقلوا هذه الشحنة لغيرهم من قطرات الماء في السحابة؛ ليخرج برق من هذه السحابة فيحرق القش اليابس ويصنع التغيير. هذه هي مواصفات مشروعي شحن قطرات ماء قليلة عندها الرغبة الصادقة مع نفسها ومع الله بشحن نفسها ونقل الطاقة لمن حولها لتُخْرِجَ في النهاية برقاً. أتذكر صديقاً لي يروي حادثة عاشها في 29 أغسطس 1997 حين كان يدرس الصيدلة في بازل-سويسرا حين فوجئ ومجموعة من الطلاب المسلمين بتلقي دعوة من المرحوم نجم الدين أربكان للمشاركة في لقاءٍ عُقِدَ في نفس الفندق الذي عَقَدَ فيه تيودور هرتزل قبل 100 عام المؤتمر الصهيوني الأول وأعلن قيام دولة إسرائيل ليعلن أربكان متحدياً بشجاعة طالوت وإيمان القلة الصادقة المؤمنة معه نهاية دولة إسرائيل من نفس الفندق وبنفس التوقيت. لقد كان أربكان رحمه الله ومجموعةٌ صغيرة حوله هم قطرات الماء المشحونة بالكهرباء المؤمنة الصادقة المتوكلة على الله التي صنعت التغيير في تركيا. مشروعي يا صديقي الدونكيشوت المسلم هو تجميع قطرات الندى من بخار الماء وشحنه بكهرباء الأمل والتوكل الخالص على الله مع السير في اتجاه الأرض التي أمرنا الله بالسير لها وفي النهاية سيخرج البرق ويحرق القش المتعفن لأن هذه سنة التغيير في الأرض.