كان زميلا العمل أحمد محمد عبدو وصديقه يحيى العبدو جالسَين في حديقة الحي مساء الحادي عشر من شهر آب (أغسطس) الجاري. كانت بعض مصابيح الحديقة مشتعلة، وبعضها الآخر مُطفأً. قام يحيى بضرب عمود الكهرباء بهدف إشعال المصباح الذي يعلوه (إنها عادة قديمة لدى السوريين، يضربون الراديو أو التلفزيون إذا توقف عن الاستقبال لسبب أو لآخر، وفي بعض الأحيان يحدث أن يعود الجهاز إلى العمل!).
مجموعة شبان أتراك من ثلاثة أشخاص شاهدوا ما يفعله يحيى وصديقه، فطلبوا منهما الاقتراب. سألهما أحدهم عن سبب ضربهما لعمود الإضاءة، فأجابا. دفع أحد الشبان يحيى بيده قائلاً: «خيراً انشاء الله؟!». تدخَّلَ أحمد للتفريق بينهما، فانقضَّ الثلاثة عليه بالضرب. هنا أَشهرَ يحيى سكيناً وضرب به.
فجأةً اجتمع عدد كبير من الأتراك وراحوا يضربون الشابين. استلّ واحد من الجمع سكيناً طويلة أراد أن يضرب بها أحمد، فأمسك الآخرون بحامل السكين التركي ومنعوه من طعن أحمد، الذي استغلّ الفرصة وهرب من هناك. احتمى بدكان أغلق صاحبه التركي بابه لحماية أحمد، لكن المهاجمين كسروا الباب الزجاجي ودخلوا، وراحوا يضربون أحمد.
هذا ما وردَ في إفادة أحمد محمد عبدو في تحقيق الشرطة. هي إذن مشاجرة عادية إلى حد كبير، يمكن أن تحدث في أي مكان بين شبان، مات بنتيجتها الشاب التركي أمِرهان يالجن في المستشفى الذي أُسعف إليه بنتيجة طعن يحيى له بالسكين، وجرح رفيقه.
غير أن ما حدث بعد ذلك في الحي الذي يقطنه عدد كبير من السوريين تجاوزَ كل أحداث العنف الموجهة ضد سوريين في تركيا في السنوات الماضية. قال مصطفى ينر أوغلو، نائب رئيس حزب الديموقراطية والتنمية (دِوا) والنائب في البرلمان، في حوار نشرته صحيفة سربستييت الإكترونية، إنه كان في أنقرة في تلك الليلة، وزار المنطقة التي وقعت فيها الأحداث، فرأى «أجواء بوغروم»!
بوغروم كلمة روسية الأصل تعني الاعتداء الجماعي على مجموعة بشرية مُعرَّفة بهويتها الاثنية أو العرقية أو الدينية أو المذهبية أو الثقافية، يتضمن التنكيل أو القتل، وتخريب الممتلكات ونهبها، والاعتداء على الرموز الثقافية للمجموعة المستهدفة. البوغروم إذن هو نوع من «الإبادة الجزئية» التي لا تشمل كامل المجموعة المستهدفة.
يشير ما حدث إلى احتقان مزمن في بيئة المجتمع المضيف ضد الأجانب الذين هم السوريون. يقدر عدد السوريين في حي أوندر، الذي كان مسرحاً لأحداث العنف المذكورة أعلاه، بنحو خمسين ألفاً، يعمل كثيرون منهم في ورشات موبيليا في منطقة سيتلار القريبة بأجور متدنية، ويملك آخرون متاجر صغيرة في الحي نفسه. سكان الحي «الأصليون» هم أيضاً من الطبقات الدنيا. يمكننا أن نتخيل إذن ما قد يتراكم في نفوس العائلات الفقيرة من ضغائن بفعل المنافسة غير المتكافئة على فرص العمل مع العمالة السورية الرخيصة، ومن ضمنها عمالة الأطفال (وفقاً لتقرير نشرته منظمة العمل الدولية في 2020، بلغت نسبة العمالة بين السوريين تحت 15 سنة في تركيا 66.1 بالمئة مقابل 22 بالمئة فقط من الشريحة العمرية نفسها ملتحقين بمدارس)، علماً بأن عمالة الأطفال تحت 18 سنة ممنوعة قانوناً في تركيا. فيما بلغت نسبة البطالة في قوة العمل 13 بالمئة وفقاً للأرقام الرسمية، وهو رقم أقل من النسبة الحقيقية.
غير أن المنافسة على فرص العمل، والوضع الاقتصادي غير المستقر في تركيا عموماً، لا تكفي وحدها لتفسير الاحتقان المذكور. فلا بد من ذكر عوامل أخرى ثقافية-اجتماعية، كحاجز اللغة والنفور «الطبيعي» من الغرباء والانغلاق القومي لدى المجتمع المضيف. في مجموع هذه العوامل إنما تنفخ جهات سياسية وإعلامية وصنّاع رأي، في البيئة المعارضة للحزب الحاكم بصورة خاصة، فتكفي شرارة واحدة، كالمشاجرة التي أدت إلى حالة البوغروم في آلتنداغ في أنقرة، لإشعال نار كبيرة قد تكون أعلى كلفة بكثير من حرائق الغابات التي التهمت مساحات كبيرة في تركيا الشهر الماضي.
وسبقت المشاجرة المذكورة وتداعياتها مجموعة من الأحداث والتصريحات، كانت بمثابة تمهيد لما سيحدث.
كان زعيم المعارضة العلمانية كمال كلِجدار أوغلو سبّاقاً في هذا المسار حين قال في أحد تصريحاته، في 16 تموز (يوليو) الماضي، إنه سيحل مشكلة اللاجئين السوريين في غضون سنتين حين يستلم حزبه السلطة: «بالتحدث إلى الأسد سنتفق على عودة السوريين إلى بلادهم طوعاً». أدى هذا التصريح إلى عودة نقاش محموم حول موضوع اللاجئين السوريين بعدما كان منذ فترة طي النسيان. نقاشٌ لم يقتصر على تصريحات إعلامية لقادة الأحزاب السياسية ومقالات الرأي في الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، بل تعدّاهما إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي تسودها مشاعر الكراهية ضد السوريين، وهذا أخطر ما في الأمر، لأن الناس «يقرؤون» في تويتر وفيسبوك وواتسآب أكثر مما يقرأون في الصحف أو مواقعها الإلكترونية.
في حواره الصحفي المذكور فوق نفسه، قال ينر أوغلو، نائب رئيس حزب (دِوا)، إنه رأى متاجر محطمة ومنهوبة في حي أوندر ملاصقة لمتاجر أخرى لم يُصبها أذى. وإذ سأل فتياناً في الجوار كيف عرف المعتدون أن هذا المتجر سوري والآخر تركي، أجابوه قائلين: «إذن أنت لا تتابع يا عم، لقد نشروا لوائح بمتاجر السوريين على صفحات فيسبوك»!
يتضمن التحريض ضد السوريين كثيراً من الأكاذيب والمعلومات المضللة، كالقول الشائع بأنهم يتقاضون رواتب شهرية من الحكومة (الحقيقة أن قسماً من العائلات السورية الأشد فقراً يتقاضون مساعدة مالية شهرية من الهلال الأحمر التركي تبلغ 120 ليرة تركية للفرد، يتم تمويلها من الاتحاد الأوروبي)، أو الحديث عن قبول الطلاب السوريين في الجامعات التركية المجانية بلا اختبار دخول (هذا كذب بالمطلق)، أو أن الدولة التركية تتكفل بمصاريف السوريين في المخيمات داخل الأراضي التركية أو في المناطق التي يسيطر عليها الجيش التركي في الداخل السوري، وتدفع رواتب مقاتلي الفصائل السورية التابعة لتركيا…
هناك موقع متخصص في تفنيد هذه الأكاذيب اسمه Teyit (بمعنى التأكد من…)، يديره نشطاء أتراك، ولكن لا أحد يهتم بمحتوياته، مقابل استعداد عالٍ للانجراف مع المعلومات المضللة.
أكثر من يستثمر سياسياً في موضوع اللاجئين السوريين هما الحزب الخيّر (قومي) وحزب الشعب الجمهوري (علماني-قومي)، إضافة إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم. وفي حين يضخ الحزبان المعارضان بعض المعلومات المضلّلة ويبنيان عليها مواقف سياسية لتحميل السلطة مسؤولية السماح بدخول اللاجئين – في إطار نقد أوسع يشمل سياسة السلطة تجاه الصراع السوري بعمومه – يستخدم الحزب الحاكم موضوع اللاجئين السوريين كمادة لابتزاز الاتحاد الأوروبي من جهة، وللهجوم على المعارضة التركية بدعوى مواقفها اللا-إنسانية من اللاجئين من جهة ثانية. قال الرئيس أردوغان، في رده على تصريحات كلِجدار أوغلو المذكورة، إنه لن يرمي بمن لجأوا إلى تركيا هرباً من ظلم نظام الأسد في النار.
المفارقة أن الحزبين المذكورين يطلقان الوعود بإعادة اللاجئين إلى بلادهم على أمل الحصول على زيادة في أصوات ناخبيهما، غير أنه لا ضمانة لوصولهما إلى هذا الهدف. فعلى رغم تراجع شعبية الحزب الحاكم في استطلاعات الرأي، لم ينعكس ذلك إيجاباً على شعبية هذين الحزبين. ما يحدث هو أن المتخلين عن دعم حزب العدالة والتنمية (وفقاً لاستطلاعات الرأي) لا ينتقلون بصورة أوتوماتيكية إلى دعم الأحزاب المعارضة، بل ينضمون إلى كتلة تنمو باطراد من فاقدي الثقة بجميع الأحزاب. وإذا أردنا التخصيص بشأن منطقة آلتنداغ في أنقرة، سنرى أن ناخبيها يصوتون بأكثريتهم لصالح حزب العدالة والتنمية، سواء في الانتخابات العامة أو الرئاسية أو البلدية، وكذلك صوتوا لمصلحة تغيير النظام السياسي إلى رئاسي في الاستفتاء الذي جرى بهذا الشأن في 2017. أي أن سكان منطقة آلتنداغ، المستائين من وجود السوريين، هم قاعدة اجتماعية للحزب الحاكم وليس لحزبَي المعارضة المتحالفين في إطار «تحالف الشعب».
بالمقابل قال دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية المتحالف مع العدالة والتنمية، في 31 تموز الماضي: «بما أن السوريين يستطيعون الذهاب إلى سوريا في الأعياد، فليبقوا هناك». كانت هذه هي المرة الأولى التي يطلق فيها بهجلي تصريحاً يمكن اعتباره ضد وجود اللاجئين السوريين في تركيا، وليس من المستبعد أن يشكل إشارة يلتقطها الحزب الحاكم بدوره ليقوم بمراجعة موقفه الإيجابي منهم. الواقع أن أردوغان لم يتأخر في الاستجابة لهذا الاتجاه الجديد، فقد قال، قبل أيام، أنه لا يمكن القبول باعتبار تركيا مستودعاً للاجئين كما تريد لها أوروبا؛ سيبقى قسم من اللاجئين في تركيا ممّن أتقنوا اللغة التركية وحققوا مستوى معقولاً من الاندماج، «أما البقية فلا بد أن يعودوا إلى بلادهم حين تسمح الظروف بذلك».
منذ بداية تدفق السوريين إلى تركيا، في العام 2011، تعاطت الحكومة التركية مع الأمر من منطلق أن هؤلاء السوريين «ضيوف»، وتم تصوير العلاقة بينهم وبين المجتمع التركي على أنها علاقة «مهاجرين وأنصار». وحتى بعيداً عن هذه التوصيفات الغريبة، وضعت تركيا – الموقّعة على معاهدة جنيف الدولية المعنية بموضوع اللاجئين – شرطاً جغرافياً لاستقبال اللاجئين بحيث لا يعتبر لاجئاً في تركيا إلا من قدم من الدول الأوروبية. وفي العام 2015 طبقت تركيا نظام الحماية المؤقتة. لهذه الاعتبارات، يبقى وضع السوريين في تركيا غامضاً بلا أي ضمانات. لكن يبقى، مع ذلك، أن الحكومة التركية، مثلها مثل كل دول العالم، لا يحق لها أن تُعيد اللاجئين إلى بلادهم قسراً بصرف النظر عن أي شيء آخر. فالعودة هذه تكون طوعية فقط.
الواقع أن من يدافعون عن وجود اللاجئين السوريين، ويطالبون بتحسين شروط حياتهم وبسياسات إدماج حكومية ناجعة، هم أقلية في الرأي العام التركي (نشطاء ديموقراطيون، منظمات مجتمع مدني، مثقفون تحرريون معارضون للحكومة…)، مقابل 70 بالمئة ممن يعبرون عن استيائهم من هذا الوجود ويطالبون بإعادة اللاجئين إلى بلدهم، وفقاً لاستطلاعات الرأي. مع ذلك، يبقى أن المشاركين في أحداث العنف ضد السوريين، والمحرضين عليها، هم أعداد قليلة نسبياً. أعلن وزير الداخلية التركي سليمان صويلو أنه تم توقيف 78 شخصاً يشتبه بضلوعهم في الاعتداءات التي جرت في منطقة آلتنداغ، نصفهم من أصحاب السوابق. القصد أن الاستياء الاجتماعي الواسع من وجود السوريين لا يتحول إلى عنف إلا بالنسبة لعدد قليل من العدوانيين.
تجدر الإشارة هنا إلى أن النزعة العنصرية أو معاداة المختلفين حاضرة في المجتمع التركي قبل تدفق اللاجئين السوريين، وكانت موجهة إلى الكرد والعلويين والأرمن وغيرهم من الهويات الفرعية. في الثالث من شهر آب الجاري، حدثت مجزرة في منطقة مرام التابعة لولاية قونية، قُتل فيها سبعة أشخاص هم كلّ أفراد عائلة كردية تعيش هناك، وتبيَّنَ أن العائلة تلقت تهديدات سابقة بدوافع عرقية من القتلة أنفسهم. وفي الشهر الماضي، فُجعت مدينة إزمير بمقتل شابة كردية تعمل مستخدَمة في مكتب المنظمة المحلية لحزب الشعوب الديموقراطي، ولم تكن الضحية هدفاً للقاتل بشخصها، بل كان هدفه قتل كلّ الحاضرين في اجتماع كان مقرراً في الساعة نفسها وتم تأجيله في آخر لحظة. وفي تاريخ تركيا الحديث كثيرٌ من الأحداث المشابهة.
هناك حدثٌ جديد ساهم في تمهيد الجو لأحداث آلتنداغ، هو موجة لاجئين أفغان بدأت تتدفق إلى الأراضي التركية عبر إيران، مع تمدد سيطرة طالبان على المدن الأفغانية. ما زاد من القلق العام هو أن هؤلاء الأفغان كلهم تقريباً من الذكور في سن العمل أو القتال، فانتشرت نظريات افترضت أنهم قد يكونون مجاهدين! في حين أشارت بعض الاستقصاءات الصحفية إلى أن سبب ذلك يعود إلى حاجة مربي المواشي في تركيا إلى رعاة، إذ إن عدداً كبيراً من أولئك اللاجئين يأتون إلى مناطق ريفية محددة للعمل فيها كرعاة مقابل الطعام والمأوى وراتب شهري ضئيل.
يُقدَّر عدد اللاجئين الأفغان في تركيا بنحو 200 ألف. وأعلنت وزارة الداخلية أن السلطات الحدودية منعت أعداداً كبيرة من الأفغان من العبور. في حين قال أردوغان في كلمته المشار إليها أعلاه إن الحكومة على وشك استكمال الترتيبات الأمنية المشددة على الحدود مع إيران لوقف تدفق اللاجئين عبرها بصورة تامة. وتخشى الحكومة التركية الآن من ازدياد تدفق الأفغان إلى تركيا عبر إيران بعد سقوط كابول في يد طالبان.
ما زال يفصلنا عن موعد الانتخابات العامة والرئاسية القادمة في تركيا سنتان كاملتان. لكن جميع الأحزاب السياسية، في السلطة والمعارضة، تتصرف كما لو أنها ستجرى بعد شهرين. فإضافة إلى الاستقطاب السياسي الحاد بين سلطة ومعارضة، تراكمت مشكلات كثيرة، منذ الانتخابات السابقة، تبدو السلطة عاجزة عن ابتكار حلول مناسبة بشأنها، وذلك بسبب النظام الرئاسي الذي لم يستقر بصورة كافية بعد، وفيه من الثغرات ما يؤدي إلى تشتت إداري وعطالة في آليات اتخاذ القرار وخلل كبير في مبدأ الفصل بين السلطات.
لقد تعلَّمَ سوريو تركيا، بالتجربة المُعاشة، أنهم الهدف الأسهل والمادة المشاعة للاستخدام في التنافس بين الأحزاب.
المصدر: الجمهورية. نت