رباب محمد روائية سورية متميزة، تنتمي للثورة السورية، هذا أول عمل روائي أقرأه لها. في عداد الأحياء، رواية تتحدث عن الثورة السورية، عن الناشطين الثوريين، التظاهر، الاعتقال، التعذيب، عنف النظام السوري المستبد المجرم، القتل، تدمير البلاد، تهجير العباد، تحويل الحياة إلى جحيم. البلاد خراب، والشعب بين شهيد ومصاب ومعاق ومشرد ولاجئ…
تبدأ الرواية من لقاء بين الكاتبة وصفاء أحمد ابنة حي بابا عمرو الحمصي، حمص عاصمة الثورة السورية، وعلمت انها من الناشطات الثوريات هناك وإنها اعتقلت وعانت الكثير. طلبت منها ان تسرد لها قصتها في الثورة السورية، لكي توثق ما حصل مع الشعب السوري، انعاشا للذاكرة، وشهادة إدانة للنظام المجرم. ووصمة عار في جبين العالم الذي صمت علنا عما يحصل بالشعب السوري، ودعم ضمنا جرائم النظام وأفعاله …
صفاء احمد ابنة حمص، من حي بابا عمرو، تنتمي لعائلة واسعة، الأب رجل دين، وإمام جامع، فهو رجل شرقي في بيته يتصرف مع عائلته وأولاده، خاصة الفتيات وكأنهنّ عبء عليه، ما ان يكبرن قليلا حتى يسعى لتزويجهن دون معرفتهن بالزوج المختار، ودون استشارة ايضا.، كانت صدمة صفاء بوالدها وجدته يظهر للناس شيء ويمارس في حياته شيئًا آخر مناقض. زرع كل ذلك في عقل صفاء ارادة التمرد على هذا الظلم والقهر العائلي، خاصة أنها وجدته مناقضا لجوهر الإسلام، مستعينة بما قرأت واطلعت عليه من الكتب الإسلامية، حيث كانت قارئة نهمة، إنه يخالف الإسلام وتعاليمه وإنصافه المرأة وإعطائها حقوقها. عندما دخلت صفاء في سن النضج قرر والدها تزويجها، أخبرها بالعريس وأنه مناسب حسب وجهة نظره ويجب أن تستعد لزواجها القريب. واجهت والدها بالرفض، بكلمة كانت صاعقة له؛ تزوجه انت ان كان مناسبا؟ !!. تلقت الضرب عقابا لموقفها، لكنها كسبت حريتها. ومن يومها لم يستطع الاب او الام ان يفرضا على صفاء اي موقف لا ترغب به. تدربت فيما بعد على العمل بصيدلة. وعندما بدأ الربيع العربي اوائل عام ٢٠١١م. وحصلت شرارة الثورة السورية في درعا. قتل الأطفال والتنكيل بعائلاتهم وإذلالهم، وبداية حراك الثورة هناك، وامتدادها بعد ذلك إلى باقي المدن والبلدات السورية، ومنها حمص وخاصة حي بابا عمرو حيث تسكن، كانت صفاء من أوائل الفتيات اللواتي شاركن في المظاهرات مع قليل من الشبان المندفع والمتحمس. تدرك صفاء وكل السوريين عنف النظام وقمعه و بطشه وظلمه وفساده وطائفيته، لا يغيب عن وعيها ما علمته عن أحداث الثمانينات وقتل عشرات الآلاف من السوريين في حماة وغيرها من المدن السورية، لكنها وغيرها من الشباب السوري، تحدوا الخوف وواجهوا الظلم و خرجوا للتظاهر. بدأت التظاهرات تتوسع، وزاد حضور الناس وكذلك الحضور النسائي. كان التظاهر في بابا عمرو قد بلغ أوجه، وكان قرار النظام أن يواجه المتظاهرين بالعنف الجسدي، ثم المسلح، سقط الشهداء، زاد ذلك من اندفاع الشعب والتحاقه أكثر بالثورة، تحدى الناس الصمت والخوف، لكن النظام لم يستكن، بل صعّد من عنفه وبدأ بالقتل الجماعي، واستدعى الجيش وقام بعمليات اجتياح عسكري للأحياء الثائرة. لم يستسلم الشباب الثائر لعنف النظام. بدؤوا بتشكيل مجموعات مسلحة لتواجه النظام وتحمي المظاهرات. وزادت المواجهات، واستطاع الثوار أن يدفعوا النظام للتراجع عن حي بابا عمرو وغيره من أحياء حمص. انتقل النظام عندها الى مرحلة الحصار والتجويع والقصف بالصواريخ والطائرات والبراميل المتفجرة، بحيث جعل حياة الناس داخل الأحياء الثائرة اقرب للجحيم. كانت صفاء ومعها اختها هناء قد التحقتا بالمستشفيات الميدانية التي تم إنشاءها على عجل في الأقبية وبشروط صعبة، لعلاج الجرحى والمصابين وتنقذ من تستطيع انقاذه. كانت متفانية وتعمل بكل اقتدار. في المشفى الميداني التقت بمن أحبت، كان هناك أيضا، يقوم بعلاج المصابين ،أخذت دورة اسعاف سريعة، عملها في الصيدلة ساعدها، وهذا قريب من الدور الإسعافي والتمريضي الذي تقوم به، كان هناك مساحة للعواطف والمشاعر داخل جحيم ما يحصل داخل حي بابا عمرو، كانت ترى في ذلك الطبيب حبيبا غير قادرة على البوح له، رغم كونه عبّر في أكثر من مرة عن عواطفه، وعدم قبول أن يتزوجا، لأنه متزوج وحياته الزوجية ناجحة. كانت ترفض أن يشاركها حبها أحد. رفضت دعوته الصريحة للارتباط والزواج. دفنت حبها داخل روحها وقلبها. رغم كون حبه داخل نفسها بقي متأججا كل الوقت، بعد وقت وبعد ما حصل معها من اعتقال وعذاب وصل لمسامعها خبر استشهاده عاشت صدمة الخبر بعدم التصديق أولا ثم بتجرع الحسرة و الألم وحزنت عليه كثيرا، ندمت انها رفضته يوما، وتمنت لو تعود الأيام لتكون معه وله وتعيش حبا لم يمت داخلها ابدا…
نعود لسياق حياة صفاء واختها هناء، أصبحت معروفة بدورها الاسعافي، وفي المشافي الميدانية، كانت قد أصبحت مطلوبة من الاجهزة الامنية، لم يكن يخفى على الناشطين أن النظام اعتمد على اختراق الثوار والناشطين و المراكز الإسعافية والمشافي الميدانية بكثير من المخبرين و المخبرات. وسرعان ما تم اعتقالها واختها هناء على أحد الحواجز. تم أخذهما لأحد الفروع الأمنية المعروفة بظلمها وتنكيلها المعتقلين والناشطين، وهناك شاهدت وعايشت مع اختها ما لم تكن تتصور حتى في كوابيسها عن وجوده وممارسته في أقبية القتل والتعذيب و المسلخ البشري في سورية. تعرضت صفاء وهناء لجميع صنوف التعذيب على مدى شهرين، كان التعذيب مقصودا لذاته. للإيلام والإذلال وقتل الروح المعنوية، وليس للحصول على المعلومات، كما تبين أن النظام يعرف كل شيء، كان الهدف قتل أكبر عدد من الناشطين في المراكز الامنية، وأما من يخرج فيجب ان يكون مشوها نفسيا وجسديا. عايشت صفاء واختها التعذيب وشاهدت المعتقلين الاقرب للموت، وبعضهم مات امامهم، سمعوا اصوات التعذيب التي تكوي الروح. عايشوا كل صنوف التعذيب، علموا عن القتل والشبح والكرسي الروماني وبساط الريح والتعذيب بالصعق الكهربائي و بالدولاب والضرب بالسياط، كذلك الاغتصاب للنساء والرجال، عايشوا اسوأ من جهنم. تمنت صفاء الموت أكثر من مرة، لعل هذا الجحيم ينتهي. والكاتبة وصفت لنا الزنزانة رائحتها مساحتها الإضاءة الأصوات هناك.
مقدار الألم الذي لا يحتمله بشر ووصفت لنا حتى مشاعر المعتقلة أمام كل هذا ووصفت لنا الأفكار التي تدور في ذهن المعتقلين الأسئلة التي تضرب عقلهم ووقع الكلمات التي تقتل الروح قبل الجسد ووصفت الكاتبة نداء المعتقلين والدعوات لله لإنقاذ عباده المظلومين؟
وجاءت الإجابات على هذه الأسئلة في الصفحات الأخيرة تحت عنوان “أما أكبر الأسئلة”. كانت مؤمنة متدينة، لكن تساؤلاتها لامست لحظات من الشك بتدخل الله، وكانت تأتيها بعض الاشارات تفهم منها أن الله معها. كثيرة هي الآيات التي تدل على نصرة الله لعباده، وأن الإنسان مبتلى، وان العقبى للصابرين، إن لم يكن في الدنيا، فهي انصاف وعدل حتمي بالآخرة. نقلت صفاء بعد وقت اختها هناء من المعتقل إلى سجن حمص الميداني وكانت تستدعى الى مجمع معتقلين اسمه البولوني وهو تابع لعدة فروع أمنية مشتركة. وأعيد معها واختها التحقيق مجددا، وكانتا تعذبان مجددا حسب ما يراه المحقق، دون أي رادع أو مبرر، فكل ما عندها واختها أصبح معروفا لدى الأمن والاستخبارات، على انها تحت المحاكمة العسكرية. تغيرت أحوال السجن المدني وأصبحت أكثر راحة وأمانا وتلبي احتياجات الأختين الانسانية، كانتا من عائلة معروفة ولها حضور مجتمعي، وهذا جعل الادارة في السجن تهتم بوضعهما اكثر. انتظرتا حتى يحاكما أمام القاضي العسكري، الذي لم يسألهما سوى عن اسمهما، وصرفهما، وعلمت بعد ذلك أن حكمهما كان الإعدام، لكنه لم ينفذ، ومضى الوقت. و كانتا تنتظران الإفراج وتحلمان به، وهكذا مضى وقت طويل حتى أبلغت صفاء بالإفراج عنها. خرجت مع فتاة حمصية توجهت الى حمص الى بيت أختها الكبرى. لم يبق لها الا اختها المتزوجة هناك مع أطفالها الصغار الذين حلمت صفاء بهم كثيرا أيام اعتقالها وتعذيبها. وصلت الى هناك متجاوزة الحواجز، حمص خاوية، ومدمرة، هجرها أغلب أهلها. لم تفارق صفاء كوابيس الاعتقال والتعذيب وما حصل معها. كانت قد حاولت الانتحار ايام الاعتقال ونجت باعجوبة، عاودتها هواجس الموت والانتحار في حمص حيث عاشت. كان الافضل لها ان تبتعد عن حمص وعن كل الخوف الذي سكنها و لم تستطع التغلب عليه، ” خرجت من هناك لكن هناك لم يخرج مني”. غادرت حمص وفي اسطنبول التقت الكاتبة وتحدثت لها بما لم تكن تحلم ان تخرجه من اعماقها لهول ما عاشته…
هنا تنتهي الرواية… وفي التعقيب عليها نقول:
نحن أمام رواية تتحدث عن الثورة السورية وما حصل مع الناشطين فيها، وعن افعال النظام المجرمة والقمعية، الاعتقال والقتل والتعذيب، تدمير البلدات والمدن وتهجير الناس وتحويل البلاد إلى خراب.
نعم نحتاج هذه الشهادات التي تجعل قضية الشعب السوري وحصوله على حقوقه باسقاط النظام المجرم ومحاسبته وتحرير البلاد من حلفائه المجرمين الروس والايرانيين و المرتزقة الطائفيين حزب الله وغيره. كذلك أمريكا ومرتزقتها ال ب ي د الانفصاليين الكرد الذين يسعون لتقسيم سورية. وبناء دولة الشعب السوري الديمقراطية، محققين الحرية والعدالة والكرامة والحياة الأفضل لكل الشعب السوري.
الرواية ممتلئة بالمشاعر الفياضة والجيّاشة المعبرة عن عمق الانتماء للشعب و حقوقه، يتداخل فيها الذاتي مع المعاش العام بطريقة رائعة. روح التحدي فيها تنعش الروح وتبعث داخلنا ألف امل بشعبنا وحتمية انتصاره، و لو بعد حين.
كما تحدثت الرواية بجرأة حول موضوع الايمان وزعزعة ثقة المعتقل خاصة و الشعب السوري عامة بدينه و عقيدته و أن الله تركنا بين يدي هؤلاء المجرمين يعيثون فينا قتلا و تهجيرا على أسوء صورة شهدها التاريخ وان هناك خيبة أمل يعيشها الكثيرون. وهنا نقول : كان هناك مشكلة بفهم آيات الله في النفس والكون، عند كثير من المسلمين حتى الآن، بحيث ظهر عدم تدخل الله لنصرة المظلومين، جعلهم يعتقدون ان الله قد تخلى عنهم، والبعض انتقل الى حالة انكار الله والكفر بوجوده. بينما الأصل أن الله خلق الكون وفق قوانين في حياة البشر والكون، تجعل الأخذ بالأسباب الكونية والاجتماعية تؤدي للانتقال من حال إلى حال، النظام المستبد المجرم الطائفي أخذ بأسباب القوة والظلم والقمع والسجون والمعتقلات والاستحواذ على الجيش والأمن والعلاقات الدولية وخيانته للشعب ومصالحه، بحيث جعل أسباب الثورة عليه واسقاطه شبه مستحيلة، استطاع الشعب تجاوز مستحيل الثورة على النظام. لكنه لم يستطع تجاوز مستحيل إسقاطه لأنه لم يمتلك أسباب هذا الإسقاط. لذلك لم يكن الدعاء والتمني على الله ليحل هذه المشكلة. لقد اصبح البشر منذ عهد رسولنا محمد (ص) محكومون بأسباب القوة والدراية السياسية، بدءً من تبليغ الدعوة لرسول الله ص والهجرة ومعركة بدر وأُحد والأحزاب وفتح مكة وانتشار الإسلام في العالم. لقد انتهى عصر المعجزات والتدخل الإلهي كما هو واضح في النص القرآني، كما حصل مع الأنبياء والمرسلين السابقين واصبح من الماضي البعيد، وأصبح البشر مسؤولين عن أعمالهم، نجاحهم وفشلهم مرتبط بأخذهم بالأسباب والقوانين في النفس والوجود، وبذلك أصبح الحساب ومنتهى العدل في الآخرة عند رب حكيم عادل. والله اعلم. قد حاولت الكاتبة ولو قليلا ايصال هذا الفكر من خلال ما كتبت.
اخيرا يطول الحديث في الثورة السورية ويتشعب ومهما كتبنا وتحدثنا نبقى مقصرين مع شعبنا وما عاشه وعاناه. لذلك نقول ان اي جهد ومن اي نوع في الكتابة القصصية والروائية والمرئية وغيرها كلها تخدم قضية شعبنا وعدالتها واسترداد الحقوق وتحقيق المطالب. ولو بعد حين…
هي صرخة وجع، وشهادة ، ودعوة أمل، وانتصار لانسانية الانسان.