في كانون الثاني (ديسمبر) 2020 نصح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف حكومة كابول بالاستعانة بـ”لواء فاطميون” لمكافحة الإرهاب. لم يقل ظريف آنذاك إذا ما إذا كان الإرهاب يشمل حركة “طالبان”، ولم يكن ذلك مهماً. جل ما أراد قوله هو أن شيعة أفغانستان هم وديعة إيرانية تمتلك طهران قرارهم فتزجّهم في قمع المحتجين في إيران أو في حرب سوريا دفاعاً عن النظام هناك، أو إعارتهم إلى حكومة بلدهم أفغانستان من وقت الى آخر.
استخرجت إيران من مجموعة الهزارة القبلية الأفغانية لواء من المقاتلين. غالبية الهزارة من الشيعة ويمثلون نسبة تتراوح ما بين 10 و12 في المئة من إجمالي الشعب الأفغاني. جرت عمليات التجنيد بكثافة في صفوف اللاجئين منهم في إيران، قبل أن تمتد عمليات التجنيد لتطال الهزارة في بلدهم أفغانستان. وفيما تتخبط أعداد المقاتلين داخل “لواء فاطميون” بين ما هو دعائي وما هو محتمل، فإن عدد مقاتلي ذلك اللواء يقدر بحجم يتراوح ما بين 5 و15 ألف مقاتل.
في عهد الرئيس أشرف غني صدرت مواقف ترفض قيام طهران بتجنيد مواطنين أفغان وتسليحهم وسوقهم باتجاه معارك إيران في المنطقة. قال غني في أيلول (سبتمبر) 2018 إن “المواطنين الأفغان الذين يقاتلون في بلد آخر يرتكبون جرماً” بموجب الدستور. لم تخض كابول معركة مع طهران، فالأمر ليس أولوية. ثم إن طهران نسجت مع أفغانستان بعد سقوط “طالبان” عام 2001 علاقات مع الحكومات المتعاقبة مذاك، وعلاقات مع قيادات الهزارة، وعلاقات مع قوى سياسية أفغانية من مجموعات عرقية مختلفة، لا سيما تلك التي كانت تشكل تحالف الشمال. لكن ما هو لافت في علاقات طهران هي تلك مع حركة “طالبان”.
طوت إيران ببراغماتية المرحلة السوداء التي وسمت علاقاتها مع حركة “طالبان”. وصل التناحر الطائفي بين الطرفين إلى درجة تصادم “طالبان”، في بداية استيلائها على السلطة منتصف التسعينات، مع الشيعة الهزارة، وصولاً إلى إعدام دبلوماسيين إيرانيين في قنصلية بلادهم في مزار شريف في آب (أغسطس) عام 1998. كاد أمر هذه المواجهة أن يتحول حرباً شاملة إلى أن أتاحت التحولات الدولية تعاوناً علنياً بين طهران وواشنطن لإسقاط نظام “طالبان” برمّته بعد اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001.
لاحقاً دعمت إيران كل الجماعات المقاتلة ضد الوجود الأميركي في أفغانستان شرقاً وفي العراق غرباً. لم تفرّق في هذا الدعم بين جماعات السنّة كما جماعات الشيعة بهدف إشغال الوجود الأميركي واستنزافه، ومنعه من أن يكون عاملاً مهدداً للنظام في إيران. ولئن دعمت إيران – كما دول أخرى – “طالبان” بالمال والسلاح سراً (وفق اتهامات الولايات المتحدة نفسها)، فإن العلاقة بين طهران والحركة باتت في السنوات الأخيرة علنية، تستقبل العاصمة الإيرانية وفقها قيادات “طالبان”ية وتقترح نفسها وسيطاً “محايداً” بين الحركة المتمردة وحكومة أفغانستان الشرعية.
عملت المناورة الإيرانية في أفغانستان وفق قواعد الوجود الأميركي في هذا البلد، التي وفّرت لإيران حدوداً مقبولة الأمان وتحكّماً بمقاربة الشأن الأفغاني. غير أن الانسحاب الأميركي – الغربي من أفغانستان قلب طاولة ما هو ثابت وفتح الباب أمام مرحلة المتغيرات. صحيح أن إيران احتفلت جهاراً بأمر الانسحاب الأميركي من أفغانستان واعتبرته نصراً لها، إلا أن الأمر سبّب فراغاً مستجداً ستسعى طهران سريعاً الى ارتجال سبل التعامل معه.
لم تستسغ طهران ذلك التفاوض المباشر الذي جرى في الدوحة بين الولايات المتحدة وحركة “طالبان” منذ عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. حتى أن وزارة الخارجية الإیرانیة أصدرت في أول آذار (مارس) 2020 بياناً انتقدت فيه اتفاق السلام الأميركي مع حركة “طالبان”، معتبرة أن الولايات المتحدة ليس لديها “وضع قانوني” لتوقيع معاهدة سلام أو “تحديد مستقبل أفغانستان”. وأشار البیان حينها إلی أن إيران “تعتبر أن المساعي الأميركية تهدف إلی إضفاء الشرعية على وجود قواتها في أفغانستان، وأن طهران تعارض هذه المساعي”.
تغيرت أفغانستان وباتت تحمل خطاباً لا بد سيتطور باتجاه حقائق لم يخفها المتحدث باسم “طالبان” حين استضافه التلفزيون الرسمي الإيراني قبل أيام. قال محمد نعيم إن “الإيرانيين العاديين سيتشبثون أيضاً بالطائرات الأميركية إذا كان ذلك يعني أن بإمكانهم الانتقال إلى الولايات المتحدة”. أثارت الجملة ضجيجاً وتبرّماً في إيران التي لن تختلف علاقاتها المقبلة مع أفغانستان عن علاقاتها مع دول المنطقة.
تقوم عقيدة الجمهورية الإسلامية على قاعدة أنها العنوان الحصري الوحيد لشيعة الأرض، بحيث إن منعتهم وأمانهم مرتبطان بقوة نظام طهران وأمنه. وتكمن القاعدة الثانية في أن أمن النظام السياسي في طهران واستقراره يحتاجان بنيوياً إلى رواج القلاقل في بلدان الجوار، بحيث تتصدّع وتعجز عن أن تكون عوامل خطر وتهديد. والقاعدة الثالثة تقوم على معادلة تكون فيها إيران مزعزعة لاستقرار تلك الدول، صانعة لأزماتها، بحيث لا يستقيم أي حلّ أو سكينة داخلها إلا باتفاق مع طهران وحضورها طاولة التسويات. هذه الحقيقة تنسحب على العراق وسوريا ولبنان واليمن، وحكماً ستنسحب على أفغانستان المستقبل.
تعتمد إيران على قاعدتها الطائفية داخل أفغانستان، سواء من خلال “لواء فاطميون” أم من خلال بناء “حشد شعبي” أفغاني بدأت معالمه تصبح أكثر وضوحاً (وفق ما نشرت صحيفة “جمهوري إسلامي” الإيرانية المقربة من المرشد علي خامنئي). وقد لا تسعف إيران الحقيقة الديموغرافية للشيعة في أفغانستان في أن تستند الى جماعاتها الولائية فقط للبناء عليها في تشكيل سياسة مع أفغانستان. غير أن طهران تسعى الى استثمار علاقاتها القديمة مع كل فرقاء الصراع الأفغاني خلال العقدين الماضيين لإيجاد دور لها داخل التباينات التي لن تغيب عن المشهد الأفغاني.
لم تعترف طهران حتى الآن رسمياً بسلطة “طالبان”، وتدعو خارجيتها جميع الأطراف في أفغانستان إلى إنهاء العنف والتفاوض من أجل تشكيل حكومة “شاملة”. وما تعتقده حقيقة، ومن دون نفاق الدبلوماسيين، عبّر عنه بوضوح أبو الفضل بهاء الديني، ممثل المرشد في باكستان. قال إن “طالبان” لم تتغير، ويجب إبداء الحذر في ما يتعلق بها. أوضح لوكالة “جماران” الإيرانية الإخبارية: “لم تتغير ماهية طالبان وهويتها، ولا يجوز تطهير سلوكها”.
والمعضلة، بالنسبة لإيران، أنها لاعب بين لاعبين كبار مثل الصين وروسيا والهند وباكستان والغرب عامة، بحيث إن الرشاقة الإيرانية محدودة لتماسها مع مصالح دول أخرى ليست موجودة بالعدد والكفاءة في الميادين التي تنشط فيها إيران في المنطقة. ولئن تنظر طهران بعين قلقة إلى الاتفاق الأميركي مع “طالبان” وتجهل مضمونه ومفاعيله المقبلة، فإن الأمر، للمفارقة، قد يكون حافزاً لصاحب القرار الإيراني للتّعجل في إبرام اتفاق “مضاد” مع الولايات المتحدة، يؤسّس لمرحلة جديدة يتم فيها ترتيب المشهد الجيوستراتيجي في المنطقة، والتموضع وفق معطيات أكثر وضوحاً وتوقعاً من ذلك الغامض الملتبس الذي تطلّ به حركة “طالبان” على العالم والمنطقة .. وإيران خصوصاً.
المصدر: النهار العربي