كتب الصديق الأخ صلاح زكي أحمد مقالاً في موقع “أصوات أونلاين” قبل ثلاثة أيام عرض فيه جانبا من قصة مجلة الطليعة المصرية بين جمال عبد الناصر ومحمد حسنين هيكل، وخالد محي الدين، ولطفي الخولي، وكانت الطليعة صدرت في العام ١٩٦٦ وتوقفت في العام ١٩٧٧.
واعتُبرت المجلة منذ لحظة صدورها وحتى حركة ١٥ مايو ١٩٧١ ـ حين تخلص السادات من مجموعة عبد الناصر وانفرد في الحكم ـ، معبرة عن الجناح اليساري ليس في ثورة يوليو، وإنما في الحياة الاجتماعية والفكرية في مصر والوطن العربي، وكانت المساهمات في تحريرها والكتابة فيها غنية، ومعمقة، وفيها تغطية وتحقيقات ميدانية وبالأرقام لتطورات الحياة وتحدياتها على مختلف الصعد، وكان الشباب العربي ينتظر بشغف إلى وصول العدد الجديد من المجلة.
ولا شك بأن الطليعة وبجانبها مجلة الكاتب ومجلة الفكر المعاصر كانت تعبر عن تيارات الحياة والفكر في إطار ثورة يوليو، وكان كل منها مفتوح لكل فكر ولكل مفكر، إذ لم تكن أي منها حكرا على اتجاه، وإن كان الكثير من المفكرين والكتاب قد اختاروا لأنفسهم واحدة أو أكثر من هذه المجلات، وكان هذا التنوع شاهدا قوي الدلالة على مدى الحرية الفكرية المتاحة في تلك المرحلة، وهي في مجملها تؤكد أن موقف سلطة ثورة يوليو لم يكن أبدا موقفا من الأفكار، وإنما موقف من الأحزاب، إذ كانت نظرتها للأحزاب معروفة ومحددة وقد صاغتها ـ في تلك المرحلة ـ على أساس ” حركة جماهيرية واحدة واسعة مفتوحة لكل قوى الشعب العامل من عمال وفلاحين ومثقفين، وجنود ورأسمالية وطنية يسعها تنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي، وتنظيم سياسي حزبي داخل هذا التنظيم العام يضم كل طلائع قوى الشعب العامل الذين أثبتوا بالعمل والنضال في مختلف مواقع العمل قدرتهم واستعدادهم وأهليتهم على تحمل المسؤولية.
ودخول طلائع من التشكيلات الشيوعية مختلف أشكال العمل السياسي والصحفي والفكري المتاح في مجتمع الثورة كان بدعوة وتشجيع من قيادة الثورة، ولم يكن تسللا قاموا به، وكان هذا متاحا لليساريين والقوميين والإسلاميين والليبراليين، كلهم كان هذا متاحا لهم، دون شروط ودون حدود.
وأثبتت تطورات الأحداث في مصر أن هذا الانفتاح الفكري كان بتأثير ودعم مباشر من جمال عبد الناصر، وأن التحول والدور المميز الذي قام به محمد حسنين هيكل في الأهرام، الذي جعل من الأهرام في ذلك الوقت واحة فكر مورقة تُظل كل المجتمع المصري، وتَمد هذا الظل إلى الوطن العربي كله، وتحتضن كل براعم العطاء وكل روافد الفكر، وكل تياراته حتى على المستوى العالمي، وفي رحاب الأهرام التقى قادة فكر عربي وعالمي، وقادة حركات ثورية سياسية الأهرام، وكانت هذه المكانة التي تبوأتها الأهرام متخطية كل العقبات الإدارية والسياسية بفعل رؤى هذا القائد التاريخي التي التقت مع عقل سياسي وصحفي وإداري وتقني لا مثيل له، وأعطى هذا اللقاء صرح الأهرام العظيم.
في هذا الإطار والأجواء جاء دور لطفي الخولي، الذي أمكن توظيف امكاناته الذاتية وتربيته اليسارية العملية في صرح الابداع هذا، وبذلك تميزت الطليعة، وتميز دور لطفي الخولي.
لكن هذا التميز كان شديد الارتباط بمرحلة جمال عبد الناصر، حتى ليصدق القول إن هذا التميز كان “السمة الناصرية لمجلة الطليعة”، وحين طويت صفحة عبد الناصر: التوجه، والإنحيازات، والحريات الفكرية، والرؤى المستقبلية، انتهى الدور المتميز للطفي الخولى، وللطليعة، وهنا ظهرت لا مبدئية لطفي الخولي، أو براجماتيته، أو انتهازيته، – حسب التوصيف المعتمد -.
إذ مع هذا التغير الجذري لتوجهات وخيارات السلطة المصرية الجديدة انتقل الخولي من الموقف الثوري اجتماعيا وسياسيا ونضاليا إلى النقيض، إلى الدعوة للصلح مع العدو الصهيوني، ومن الالتزام بالتحول الاشتراكي وقوى العملية إلى التنظير للتحولات والانحرافات التي قام بها الرئيس السادات، مبكرا جدا بدأ الخولي يكتب في الطليعة عن الديموقراطية الجديدة التي جاء بها السادات، وصار الخولي هو صوت اليسار الذي يرى في أمريكا واسرائيل القادم الذي يجب العمل معه والتوجه إليه. وكانت أعداد الطليعة المصرية طريقه للتعبير عن مواقفه هذه، وكانت مؤتمرات السلام المختلفة ومعاهداتها سبيله للمشاركة. ويبدو أن الخولي حينما اصطف إلى جانب خيار السادات ومن جاء بعده، أي خيار ” 99% من الأوراق بيد أمريكا”، وقع في “فخ الأمركة”، لذلك كان طبيعيا أن يصل إلى الأسرلة، فالفارق بينهما يسير، وفي أوقات معينة وظروف معينة يكاد لا يرى.
كانت الطليعة وكان الخولي مدرسة في الفكر والحراك الثقافي الثوري، ثم كان طبيعيا أن تنتهي مجلة الطليعة بانتهاء بيئتها، وتحول الخولي إلى مدرسة في مسار التسوية والاستسلام للولايات المتحدة.
والحق أن هذا التحول لم يقتصر على الخولي، ولم يقتصر على مصر، وإنما كان له بين اليساريين وغير اليساريين نظائر على اتساع الوطن العربي، بل وعلى المستوى العالمي.