تعيش منطقتنا أوضاعاً مضطربة منذ عقود نتيجة الصراعات والحروب، سواء التي كانت بين الدول العربية واسرائيل، أو بين الدول العربية نفسها، أو التي كانت بين إيران والعراق، والحرب الأهلية اللبنانية، والحروب الإسرائيلية على لبنان التي استهدفت الوجود العسكري الفلسطيني هناك، هذا إلى جانب حرب الكويت، والحملات العسكرية التي تعرّض لها الكرد في كل من العراق وإيران وتركيا في مراحل مختلفة نتيجة المطالبة بالحقوق. والحملات الإسرائيلية على الضفة الغربية وغزة من حين إلى آخر، في ردّ على المطالبات الفلسطينية بالحقوق المشروعة.
وفي العقدين الأخيرين، ارتفعت وتيرة الاضطرابات، وأصبح العراق، بموارده الطبيعية والبشرية الضخمة، بلداً مفكّكاً، يحلم سكانه بالماء والكهرباء والحد الأدنى المقبول من الرعاية وأبسط مقومات العيش الكريم. وبات لبنان، الذي كان يُعرف في الخمسينيات والستينيات بلؤلؤة المشرق، أو سويسرا الشرق، بلداً يتوسل سكانه من أجل الحصول على الرغيف والدواء والوقود. وتحولت سورية، نتيجة التهجير والقتل والتدمير، بعد الحرب التي أعلنها الحكم، بدعم من حلفائه على السوريين المناهضين لاستبداده وفساده، إلى حطام تتصارع عليه جيوش إقليمية ودولية، ومليشيات خارجية أدخلها بشار الأسد من كل حدب وصوب، مليشيات ترفع شعارات مذهبية، وتعمل لصالح أجندات عابرة للحدود الوطنية، لا علاقة لها بمصلحة السوريين والسوريات ومستقبلهم. والأمر ذاته في اليمن الذي يعيش أهله محنة حقيقية، نتيجة الحرب الداخلية التي ارتبطت مع الأجندات والصراعات الإقليمية.
تكلفة ذلك كله باهظة مادياً وبشرياً. مبالغ خيالية تنفق لشراء الأسلحة والذمم وتقديم المساعدات التي غالباً لا تصل إلى مستحقيها. هذا في حين أن غول الفساد هو الأشرس، ينتعش عادة في أجواء الاضطراب والاستقطاب وهشاشة الدول وهيمنة المليشيات، فتنهب الثروات من دون شفقة، وغالباً ما يكون شعار مكافحة “فزّاعة” الإرهاب الوسيلة لإسكات المطالبين بالمساءلة والمحاسبة.
الاستمرار في هذه الوضعية مؤدّاه مزيد من التدمير والتفكّك والتهجير والتعفّن، وتبديد الثروات المادية والطاقات البشرية، خصوصا في ظل الاستقطاب المذهبي البغيض الذي فُرض على مجتمعات المنطقة لحساباتٍ سياسية انتهازية مكشوفة. والواضح أن الخلافات والصراعات الإقليمية لن تنتهي بغالبٍ ومغلوب، طالما أن إمكانات الاستقواء بهذه الجهة الدولية أو تلك موجودة، الأمر الذي يؤدّي إلى مزيدٍ من التعقيد، ومزيدٍ من الاستنزاف، ومزيدٍ من المعاناة بالنسبة إلى مجتمعاتنا.
منطقتنا في أشد الحاجة إلى مبادرة إقليمية، تجمع بين دولها، لمناقشة جميع القضايا والخلافات والهواجس والتطلعات؛ كما تحتاج إلى العمل المشترك من أجل تدوير الزوايا، وتحديد التوافقات، وترحيل المختلف عليه إلى لقاءاتٍ مقبلةٍ، تتم بصورة مستمرّة، بعد التوافق على الآليات والمحدّدات.
وما يعزّز فرص مثل هذه المبادرة يتمثّل في جملة الخطوات التصالحية، واللقاءات التي تمّت، في السر وفي العلن، بين مختلف دول المنطقة. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى المصالحة الخليجية، والتفاهمات التركية المصرية، والاتصالات بين السعودية وإيران، وبين الأردن وإيران، والمبادرة السعودية الخاصة بالسلام في اليمن، واللقاءات التركية الإماراتية، والمساعي العراقية المستمرّة لتأمين الانفتاح العربي على العراق.
هذا إلى جانب الجهود العراقية المبذولة من أجل الحفاظ على علاقات حسن الجوار مع الجميع، خصوصا مع كل من إيران وتركيا، باعتبارهما القوتين الإقليميتين الأكثر تأثيراً في الواقع العراقي الداخلي، فإيران موجودة في العراق عبر قواتها والفصائل المتحالفة معها، وكذلك تركيا عبر وجود جيشها في العديد من مناطق إقليم كردستان العراق. وبالانسجام مع هذا التوجه، تؤكد الحكومة العراقية باستمرار رفضها أن يتحول بلدها إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات بين الآخرين، أو نقطة ارتكاز لتهديد أو إلحاق الأذى بدول الجوار.
وفي إطار هذه المساعي، جاءت المبادرة العراقية لعقد اجتماع إقليمي – دولي في أواخر أغسطس/ آب الجاري، يضم العدد الأكبر من دول المنطقة، السعودية وإيران وتركيا ومصر وقطر الأردن والكويت والإمارات، والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، إلى جانب ممثلين عن المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. وهناك جهود حثيثة تبذل لتأمين عقد هذا الاجتماع والبناء عليه.
الأمر المؤكد أن هذا الاجتماع لن يكون العصا السحرية التي ستمكّن من معالجة سائر مشكلات المنطقة المعقدة، ولكنه سيمثل، في كل الأحوال، إذا ما شاركت فيه الأطراف المحورية الفاعلة على مستوى الإقليم بتمثيلٍ قوي، اختراقاً إيجابياً يمكن تطويره والاستمرار فيه، وذلك في حال توفر الرغبة في تجاوز الصراعات العبثية التي أنهكت شعوب المنطقة، وسدّت الآفاق أمام شبابها، وتنذر بما هو أقسى بالنسبة إلى الأجيال المقبلة. ولكن هذه الرغبة لن تكون منتجة ما لم تدعم بإرادة صلبة، مستعدّة لمواجهة التحدّيات، ومعالجة حكيمة لجملة من القضايا الخلافية.
مشكلات المنطقة إجمالاً ليست مستعصيةً على الحل، إذا ما تم تغليب المصالح الوطنية على المصالح الشخصية والفئوية؛ ولنا في تجارب المجتمعات الأخرى الأمثلة الكثيرة، ولعل أقرب هذه التجارب، واكثرها نفعاً بالنسبة إلى منطقتنا، هي التجربة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945. فمن كان يصدّق أن فرنسا وألمانيا ستصبحان من أكثر الحلفاء قرباً بعد حروب طويلة دامية بينهما؟
دولنا ومجتمعاتنا في حاجة إلى حوارات صريحة، تشخّص المشكلات والهواجس والمطلوب بعمق؛ كما نحتاج إلى عقول قادرة على الإتيان بحلولٍ ابداعيةٍ مبتكرة خارج الصندوق إذا صحّ التعبير، فالتصنيفات النمطية، والشعارات الشعبوية التعبوية، لن تؤدّي سوى إلى مزيد من الخراب بكل معانيه. ولن تكون هذه الحوارات مجدية مفيدة، إذا ما اقتصرت على اللقاءات السياسية بين الدول، بل هناك حاجة ضرورية إلى حوارات جادّة هادئة بين ممثلي مختلف الأديان والمذاهب في المنطقة، بين مختلف مكوناتها المجتمعية؛ بين المفكرين والأكاديميين والإعلاميين؛ بين رجال الاقتصاد؛ وبين مختلف القوى المجتمعية الفاعلة.
هناك مشكلات وقضايا كثيرة قائمة، لا يمكن معالجتها بالإنكار والتحوير والاتهامات المتبادلة؛ وإنما بجهود واعية صبورة، تُبذل عبر التعاون بين الجميع وعلى مختلف المستويات… شعوب منطقتنا تعاني من الاستبداد والتطرف والفساد، وهناك قضايا تخص المكونات الدينية والمذهبية والقومية في مختلف دول المنطقة، ما زالت تنتظر الحلول العادلة ضمن الحدود الوطنية. ومثل هذه الحلول ستكون لمصلحة الجميع، لكنّ ذلك لن يتحقق من دون التفاهم والتعاون بين الجميع من موقع القناعة التامة بأنّ العدالة، لا الظلم، هي التي تبني الإنسان والعمران والأمم. أما أن تستغل تلك القضايا والمظلوميات لصالح مشاريع إقليمية، وربما دولية، فهذا معناه مزيد من الصراعات والحروب والنتائج السلبية التي ستنعكس آثارها الضارّة على الجميع وفي سائر الميادين وعلى مختلف الصعد.
هل سيكون اجتماع العراق فاتحة خير على شعوب منطقتنا؛ ويكون مقدّمة لاجتماعات متنقّلة دورية لمنظمة إقليمية شرق أوسطية، تركّز اهتمامها على معالجة مشكلات المنطقة، وتعمل على تهيئة الأرضية والشروط لتعاون بنّاء مثمر، خصوصا في المجالات الاقتصادية والعلمية – التقنية والصحية والبيئية بين مختلف الدول، وذلك بما يطمئن شعوبنا بعد تجاوز أسباب الخلاف والشقاق والحروب التي تسببت في مآسٍ وتصدّعات مؤلمة؟… هذا ما نتمناه وننتظره.
المصدر: العربي الجديد