فتحت الاعتداءات الأخيرة على اللاجئين السوريين في حي “التينداغ” في العاصمة التركية أنقرة الباب مجدداً أمام نقاش قديم جديد، تمثّل جوهره في محاولات الإجابة عن سؤال: هل غيّرت السلطة التركية الحالية من استراتيجيتها المتعلّقة باللاجئين السوريين؟
تبرر هذا الاعتقاد معطيات تفيد بأن الاعتداءات الأخيرة على اللاجئين السوريين ومعظم الهجمات التي سبقتها حصلت في مناطق وأحياء مؤيدة للائتلاف الحاكم في تركيا وعلى أيدي مناصريه، خلافاً للمفهوم التقليدي القائم على دعم سياسات السلطة للاجئين مقابل إنشاء المعارضة سياستها الداخلية في الأعوام الأخيرة خاصة على خطاب رفضهم ودعوات إعادتهم إلى بلادهم.
التينداغ مهد “داعش” في تركيا
عام 2014، غادر 6 أطفال منازلهم في التينداغ في أنقرة في ساعات الصباح الأولى للانضمام إلى “داعش” في سوريا، مدّعين لأسرهم الذهاب من أجل العمل إلى ولاية أخرى، توجّه هؤلاء بالحافلة إلى مدينة كلّس الحدودية بداية، ومن ثم تم تهريبهم إلى الداخل السوري مقابل 20 ليرة تركية للشخص الواحد، وكان في استقبالهم أحد الأشخاص مكلّفاً من مجنّديهم في تركيا أوصلهم إلى الرقة. لم يكونوا يعرفون العربية، لكن لم يكن هناك حاجة لمعرفتها، العديد من معارفهم من أبناء التينداغ كانوا يعيشون في منازل مجاورة لمسكنهم.
يروي الصحافي من أنقرة غوكتشير طحينجي أوغلو في مقالة في موقع “T24” بعنوان “المواجهة” عن “نجاح 5 أطفال في الهروب من الرقة، عائدين بعد أيام قليلة إلى التينداغ، سالكين الطرق نفسها التي أوصلتهم إلى الرقة سابقاً، فيما بقي السادس برفقة شقيقه الأكبر الذي كان قد انضمّ إلى “داعش” قبله بأجر جيد مقابل القتال في صفوفه”.
ويتابع طحينجي أوغلو روايته قائلاً: “اعتاد الطفل عبور الحدود من وقت الى آخر لزيارة التينداغ خلال الإجازات والعودة للقتال مجدداً في سوريا، في ظل معرفة الكل في الحي تلك الحقيقة”.
ووفقاً لتقرير إخباري للصحافي أومور أونفر عام 2014، أصيب الطفل البالغ من العمر 14 عاماً في سوريا بجروح خطيرة، رفض “داعش” التعامل مع إصابته وتُرك على الحدود، ليصطحبه الجنود الأتراك إلى مدينة عنتاب، وأبلغوا عائلته بإصابته، فيما تؤكد وقائع الدعوى القضائية التي رفعها مكتب المدعي العام في أنقرة ضد 20 شخصاً، من بينهم أحمد دوغان، الملقب باسم أبو إسلام، أمير “داعش” في أنقرة، بتهمة تمويل تنظيم “داعش” الإرهابي وقيام التنظيم بفتح مدارس له بهدف تجنيد مقاتلين وتدريبهم في أحياء التينداغ وسنجان واتيميسغوت وتشوبوك.
لماذا أختار السّوريون الحيّ وجهة لنزوحهم؟
يعتبر “التينداغ”، الذي زرته قبل أكثر من 10 أعوام، أحد أكبر أحياء أنقرة، بعدد سكان يفوق 400 ألف نسمة بحسب بيانات عام 2020، ويشكّل مقصداً للنازحين الأتراك والكرد من قرى شرق الأناضول، الباحثين عن حياة أفضل في العاصمة. وفيما كان البعض من سكان الحي الفقير يشارك في تدمير بلدهم، اكتشف السوريون الهاربون من الحرب منطقة “بتتال غازي” في “التينداغ”، حيث تتراوح بدلات الإيجار لمنازلها المشيّدة تشييداً غير منظّم بين 200-400 ليرة تركية، مقابل بدلات تتجاوز 1500 ليرة تركية، وصولاً إلى 2000 في أحياء أخرى من العاصمة التركية، حتى بلغ عدد سكان المنطقة المذكورة 80 ألفاً من الأتراك مقابل 10 آلاف لاجئ سوري.
ويشرح الصحافي أوزغور أوزديمير من أنقرة لـ”النهار العربي” أسباب تفضيل السوريين الحي المذكور أكثر من غيره، بالإضافة لرخص بيوته، قائلاً: “سكّان الحي عموماً من أبناء الطبقة الفقيرة، وبما أن اللاجئين السوريين هم أفقر شرائح المجتمع التركي، فإن الفوارق الطبقية والمعيشية تختفي في مثل هذه المناطق، كما أن أنقرة ليست مدينة حرفية كاسطنبول وبورصة، وبالتالي فإن فرص العمل قليلة فيها باستثناء مهنة الموبيليا، في منطقة “سيتالار” التابعة للحي وهي منطقة ورش حرفية، وهنا يتم استغلال اللاجئين السوريين كقوة عمل مجانية بتشغيلهم بأجور زهيدة جداً تنخفض أحياناً إلى مستوى 35% من الأجر الذي يتقاضاه التركي”.
وبحسب أوزديمير، العامل في وكالة “ميدياسكوب” الإعلامية، فإن “سكان التينداغ كحال معظم المناطق الفقيرة هم من أنصار التيار المحافظ دينياً والمتشدد قومياً”.
وتدعّم البيانات الرقمية للانتخابات الأخيرة معلومات أوزديمير، إذ حصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2018 على 66% من أصوات سكان الحي، كما حصل تحالف السلطة في الانتخابات المحلية الأخيرة عام 2019 على 70% من الأصوات، مقابل 30% ذهبت إلى “الحزب الجيد” في تحالف المعارضة، وهو حزب قومي محافظ أيضاً، فيما لم تحصل الأحزاب اليسارية على عدد أصوات يُذكر، وهو ما يؤكد انتماء الحي الى التيار اليميني المتطرف بنسبة كبيرة، مقابل نسبة أقل داعمة لليمين الوسط.
من خطاب “الأنصار والمهاجرين” لدى الشارع الديني التركي إلى “مؤمنين وكفّار”، اختار الرئيس رجب طيب أردوغان عنتاب لزيارته الداخلية الأولى بعد انتخابه عام 2014، حيث زار أيضاً مخيم اللاجئين السوريين فيها وخاطبهم حينها باللغة الدينية المعتادة قائلاً: “نحن سعداء وفخورون باستضافتكم هنا منذ نحو أربع سنوات. لقد أصبحتم لاجئين. تركتم وطنكم مجبرين، وأصبحنا نحن أنصاراً وحشدنا كل إمكاناتنا من أجلكم، بغض النظر عما يقوله البعض، أنتم لستم عبئاً علينا أبداً”.
بعد هذا الخطاب الشهير، أصبحت وسائل إعلام السلطة والناطقون باسمها من أتباع التيار اليميني في تركيا يفسّرون المسائل المتعلّقة باللاجئين السوريين في إطار مصطلح “المهاجرين والأنصار” الديني، إلا أن تغيّراً في مزاج الفئة الشعبية في التيار اليميني فرض نفسه بقوة في السنوات الأخيرة، ليتحوّل “الأنصار والمهاجرون” إلى “مؤمنين وكفار”.
يفسّر أوزديمير الذي واكب حوادث “التينداغ” الأخيرة إعلامياً هذا التغيّر بالقول: “تشهد حسابات التواصل الاجتماعي منذ أسابيع ضخاً كبيراً لمشاهد توافد اللاجئين الأفغان إلى تركيا عبر ولاية فان، ناهيك بالمشاهد المعتادة لمضايقات يتعرض لها الأتراك أو غيرهم من قبل لاجئين سوريين، أضف إلى ذلك ادعاءات قيام لاجئ أفغاني برفع علم “طالبان” في أحد المنتجعات السياحية الساحلية، كل هذه المقاطع مضافة إليها الأخبار الكاذبة تستفزّ الناس”.
ويضيف الصحافي المعروف بتغطيته الملفات الخاصة باللاجئين في تركيا: “هناك حساب على “تويتر” مثلاً ينشر خبراً عن قيام لاجئ بفعل معين، ليتبين بعد التدقيق أن الفاعل مواطن تركي ذو إعاقة ذهنية، هذا على سبيل المثال لا الحصر”.
وشدد على أن “إجراءات مكافحة كورونا والأزمة الاقتصادية أثرت بالدرجة الأولى في الطبقة الفقيرة. بقيت الكثير من المحال مغلقة لأشهر، كل هذه الأسباب مع انهيار الاقتصاد أدت إلى ردود فعل ضد اللاجئين، لكن يجب ألا نستهين بحملات الكراهية ضدهم عبر حسابات التواصل الاجتماعي، هذه الحملات مؤثرة جداً”.
“في اليوم التالي من الحوادث خلا شارع “باتتال غازي” البالغ طوله نحو كم تقريباً من أي محل تجاري مفتوح”، والحديث لأوزديمير، “ما يشير ألى أن معظم محالّه مملوكة لسوريين، حتى أن بعض الأتراك باتوا يطلقون عليه اسم شارع حلب، وهذا أيضاً يثير حفيظة الأتراك في ظل الانكسار الاقتصادي وتراجع قيمة الليرة وارتفاع التضخم”.
ويروي أوزديمير لـ”النهار العربي” تأكيد أحد عناصر قوات مكافحة الشغب في “التينداغ” خلال حوار معه ليل الحوادث بأن “فيديوات التواصل الاجتماعي تدفع بالناس هنا إلى الشوارع، الناس يتحركون بتحريض شائعات كاذبة”، مضيفاً: “تحدثت ليلة الحوادث مع أتراك وسوريين قاطنين في الحي. أخبرتني إحدى النساء التركيات كيف منعت رشق منازل بعض السوريين بالحجارة، مدّعية كذباً أنها تعود لسكان أتراك، والدافع بحسب ما قالت المرأة أن هؤلاء الناس مساكين وما يحدث لهم حرام”.
ويصف أوزديمير الليلة المأسوية بالقول: “السوريون كانوا في حالة من الدهشة والصدمة، بيوت تعرّضت لأضرار متفاوتة، النساء والأطفال جالسون في داخلها يبكون من دون حيلة”.
ويستطرد أوزديمير راوياً: “قالت المرأة التي حاولت حماية منازل السوريين: كانوا يأتون على شكل مجموعات إلى الحي، ولدى استفساري عن سر نجاح كذبتها رغم كون المهاجمين من سكان المنطقة أيضاً، وبالتالي من المفترض معرفتهم بسكان المنازل معرفةً كبيرة كان جوابها: كلا، البعض كان يأتي من خارج الحي، وهذه نقطة مهمة”.
ويروي أوزديمير شهادة أخرى من “أحد الشبان الذين تحدثت معهم وقال لي لا نريد السوريين هنا. إن لم يغادورا فإن مثل هذه الحوادث ستتكرر، لكنه كشف عن معلومة أكثر أهمية عندما سألته عن الذين تم توقيفهم لدى الشرطة، فقال إن الشرطة اعتقلت القادمين من مناطق وأحياء أخرى، وكانت تسأل الشباب الغاضبين لماذا أتيتم إلى هنا؟ وتقوم باعتقال من لا يعرف اسم الشاب الذي تعرّض للطعن”.
ويؤكد أوزديمير أنه “في الحديث مع الشرطة التي انتشرت خلال الحوادث قال لي أحد المعنيين منهم: لا يمكننا التدخل عبر الغاز المسيل للدموع من دون ورود أوامر، من خلال حواراتي معهم (الشرطة) وصلت إلى قناعة بأن الأوامر الصادرة من السلطات كانت تتركز على تجنب الشرطة إثارة الشارع واستياءه، بمعنى آخر، كانت الأوامر على شكل لا تتدخلوا، كما أن تعبير أحد رجال الشرطة كان مثيراً عندما قال لي نحن أيضاً حزينون من أجل الشاب الذي قضى طعناً، هؤلاء المحتجون ليسوا مثل غيرهم لنستعمل الغاز المسيل للدموع، وهنا يقصد المعارضين أو اليساريين، وبالتالي هناك تعاطف مع الشارع الغاضب من الشرطة أيضاً”.
المصدر: النهار العربي