ربما لم يسمع كثيرون بالنكتة الروسية التي راجت إبّان الحقبة السوفييتية، عن إنشاء جسر فوق نهر غير موجود. ما يعنينا فيها أن عقد “مؤتمر قمة لدول جوار العراق” الذي تحوّل لاحقاً إلى “حوار بغداد”، وصولاً إلى “مؤتمر بغداد الدولي”، وآخر تسمية رسمية له قبل كتابة هذه السطور هي “مؤتمر بغداد الإقليمي”، يشبه إنشاء جسر على نهر غير موجود، إذ ليس ثمّة جامع يربط بين الدول التي قيل إنها ستشارك فيه، والتي ضمّت دول الجوار القريب (السعودية والأردن والكويت وإيران وتركيا، واستبعدت سورية لسبب أو لآخر) ودول الجوار البعيد (الإمارات وقطر ومصر)، إضافة إلى دولة الجوار الافتراضي (فرنسا)، والأخيرة هي التي كان رئيسها، إيمانويل ماكرون، أول من رحب بعقد المؤتمر، متوقعاً أن يسفر عن نتائج طيبة. ويكشف تفاؤل ماكرون سرّاً مكتوماً، يعزّز ما قاله بعضهم إن فكرة عقد مؤتمر كهذا، وفي بغداد بالذات، ليست شطحة من شطحات رئيس الحكومة، مصطفى الكاظمي، إنما هو “تكليف” مبرمجٌ حمله في حقائبه عند عودته أخيراً من واشنطن، وما قاله بعضٌ آخر إن المؤتمر يحوي لغماً لم يتم تفجيره بعد، هو في “فرملة” عملية التطبيع مع إسرائيل التي بدأتها عواصم عربية عديدة.
والكاظمي الذي مذ جاء الى السلطة، وهو يتنقل بين سفر وسفر وبينهما سفر ثالث، وبين مؤتمر ومؤتمر وبينهما مؤتمر ثالث، منصرفاً إلى ترميم علاقات بلاده الخارجية، بعدما هجر مشكلاتها الداخلية إثر فشله في معالجة أي منها، إذ ترك السلاح منفلتاً من دون أن يعمل على حصره بيد الدولة كما وعد، وأبقى على المليشيات والمافيات التي شكّلت دولةً موازيةً تحكم البلاد، ولها إداراتها وسجونها و”قوانينها” الخاصة، من دون أن يجرؤ على الاقتراب منها وتفكيكها. وظل “حيتان” الفساد وسرّاق المال العام يصولون ويجولون في كل مرفق وناحية، من دون أن تصل إليهم يد القضاء. وفي حال كهذه، ماذا يمكن لزعماء الجوارين، القريب والبعيد، أن يصنعوا لنا، ونحن لم نفعل شيئاً على طريق خلاصنا، واستعادة وطننا الذي لم يعد وطننا، وماذا ينفع العراق لو ربح كل هؤلاء الزعماء وخسر نفسه؟
وإذا صدّقنا حسن النية لدى الكاظمي، وحماسه لإقامة مؤتمر كهذا، فانه يكون قد حاول إلقاء حجر في مياه راكدة بأمل تحريكها، وحتى لو تحرّكت هذه المياه، فإنها لا يمكن، وفي ظل الأوضاع المحلية والإقليمية الحاضرة، أن تعيد العراق مركزاً إقليمياً ودولياً ذا تأثير ونفوذ، كما كان من قبل.
والمشكلة الأخرى هي في هوية المؤتمر، إذ لإن أحداً من الزعماء المدعوّين لم يكن قد عرف بهدف المؤتمر أو بالقضايا التي ستطرح فيه، والتي يفترض أن تكون واضحةً قبل أن تصل دعوات المشاركة، والكلام الرسمي العام عن مناقشة القضايا الإقليمية لا يغني ولا يسمن، إلى درجة أن مسؤولاً إيرانياً قال إن بلاده ستقرّر موقفها في ضوء ما يتضح لهم. وقد تدارك الأمر الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، عند تسلمه رسالة الكاظمي، مكتفياً بعبارة باردة “خطوة مباركة”، ويُفهم من العبارة أن طهران لا تأمل من المؤتمر اختراقاً ذا قيمة في المشهد الإقليمي الماثل.
ليس الزعماء المدعوون وحدهم الذين لم تتضح لهم الصورة، فقد رفع أكثر من عضو برلماني صوته بأن البرلمان لم يُبلّغ من الكاظمي بشيء، إنما استقى البرلمانيون أخبارهم من وسائل الإعلام ومواقع التواصل. وهكذا ظلت هوية المؤتمر غامضة وملتبسة، لكل من تابع الإعلان عنه الذي أطلق على نجو مفاجئ، وفي ظرفٍ لا يبدو طبيعياً بالنسبة للجميع. وزاد الأمر غموضاً والتباساً أن الدول التي تريد بغداد جمعها ليست على سويةٍ واحدة في المواقف والسياسات ووجهات النظر، وبينها ما صنع الحدّاد (طهران والرياض مثلاً، وإن قيل إن هناك محاولة لرأب الصدع بين العاصمتين، من دون أن تكون هناك دلائل على نجاح خطةٍ كهذه). وقياساً على ذلك، ليس ثمّة توقع أن يشكل المؤتمر إنجازاً حقيقياً ما. المتوقع فقط أن يتحوّل إلى مؤتمر “علاقات عامة” يجمع “الأخوة الأعداء”، حتى من دون قُبل أو “تبويس لحى” كما جرت العادة، إذ ستتم مصافحات من بعيد، وهو ما تفرضه قيود جائحة كورونا على الحضور.
المصدر: العربي الجديد