من المتوقع أن يسجل فصل الصيف الحالي في نهايته أعلى مواسم الصيف حرارة على الأرض، بعدما وصلت درجات الحرارة إلى معدلات قياسية في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا وروسيا وغيرها من الدول، لكن الحرارة المرتفعة لا تحرق فقط الغابات، وإنما يمتد تأثيرها السلبي على الاقتصاد من نواح عديدة، فما هي مجالات التأثير وقوتها؟
شواهد الحرارة القياسية
خلال الأسابيع الأخيرة، كان لدرجات الحرارة التي ارتفعت إلى مستويات قياسية والفيضانات والجفاف، عواقب وخيمة على الأفراد والمجتمعات، فقد اندلعت حرائق غابات ضخمة في أجزاء عدة من اليونان، فدمرت مساحات شاسعة من الغابات وأجبرت آلاف الأشخاص على مغادرة منازلهم وأدت إلى هجر المقاصد السياحية على شاطئ البحر، في وقت لا تزال حرائق الغابات مشتعلة في تركيا المجاورة وفي روسيا أيضاً، وتعاني أجزاء أخرى من أوروبا والشرق الأوسط، من موجات حر وجفاف طويلة أدت إلى نشوء ظروف استثنائية.
وفي الولايات المتحدة، لا تزال عشرات الحرائق الضخمة مستعرة في ولايات الغرب الأميركي بما فيها حريق “ديكسي” الذي أصبح ثالث أكبر حريق هائل تم تسجيله في تاريخ كاليفورنيا، وقبل شهر تقريباً، سجلت كندا وأجزاء من روسيا وبعض بلدان شمال أوروبا درجات حرارة غير مسبوقة أدت لتغيير نمط حياة ملايين السكان. وفي حين لم يتمكن العلماء حتى الآن من تقييم العلاقة بين موجات الحرارة القصوى الحالية والاحتباس الحراري، إلا أن أبحاثاً سابقة أظهرت أن التغير الملحوظ في المناخ يسبب تفاقم هذا الطقس المتطرف.
موجات مستمرة
لم يعد الارتفاع في درجات الحرارة على كوكب الأرض مفاجئاً لأحد، فخلال الأعوام الثلاثة الماضية سجلت درجات الحرارة مستويات قياسية كل عام ، ففي شهر يوليو (تموز) عام 2018، سُجلت أرقام قياسية للحرارة في كل أنحاء العالم، وشهد “وادي الموت” في الولايات المتحدة أكثر الأشهر سخونة على الإطلاق على وجه الأرض، وسجلت مدن أميركية وأوروبية وصينية أن هذا الشهر كان أكثر الأشهر دفئاً على الإطلاق، لكن في العام التالي، وصفت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية شهر يوليو 2019، بأنه الأكثر سخونة في التاريخ، وشهدت غرينلاند واحدة من أهم أحداث الذوبان المسجلة على الإطلاق، حينما صبت 197 مليار طن من المياه في شمال المحيط الأطلسي، وهو ما كان كافياً لرفع مستوى سطح البحر حول العالم بمقدار 0.02 بوصة.
ومنذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، ارتفع متوسط درجة حرارة الأرض بما يزيد قليلاً على درجتين فهرنهايت أو درجة واحدة مئوية، ما يؤكد أن الاحتباس الحراري يحدث بمعدل أسرع من أي وقت آخر في تاريخ الأرض، بخاصة في العقود الأخيرة.
خمسة أضرار
تحدث موجات الحر أضراراً مباشرة قاتلة، فعلى مدار الثلاثين عاماً الماضية، قتلت أشخاصاً أكثر من كل الكوارث الطبيعية الأخرى المرتبطة بالطقس مجتمعة، مثل الفيضانات والحرائق. وفي الولايات المتحدة على سبيل المثال، تقتل الحرارة والرطوبة بالفعل ما معدله 600 شخص كل عام، بينما كشفت دراسات علمية، أن موجات الحرارة المتصلة التي تستمر 20 يوماً في الأقل، تؤثر على 30 في المئة من سكان الأرض، ومن المتوقع أن يرتفع ذلك التأثير إلى 74 في المئة بحلول عام 2100، إذا لم يوقف الاحتباس الحراري.
غير أن الحرارة الشديدة تؤثر على الاقتصاد ككل، ويشير خبراء الاقتصاد في الولايات المتحدة إلى خمسة أنواع من الضرر الاقتصادي الذي يترتب على ارتفاع درجات الحرارة أولها الضرر المباشر بالنمو الاقتصادي.
تراجع النمو
وجدت الأبحاث أن الحرارة الشديدة يمكن أن تضر بشكل مباشر بالنمو الاقتصادي، وأشارت دراسة أجريت عام 2018 إلى أن اقتصادات الولايات الأميركية تميل إلى النمو بوتيرة أبطأ خلال فصول الصيف الحارة، وكشفت البيانات أن النمو السنوي ينخفض من 0.15 إلى 0.25 نقطة مئوية لكل درجة فهرنهايت واحدة يكون فيها متوسط درجة حرارة الصيف في الولاية أعلى من المعدل الطبيعي.
ويعود ذلك التراجع في النمو إلى أسباب عدة منها أن العمال في الصناعات المعرضة للطقس، يعملون ساعات أقل وبإنتاجية أدنى عندما يكون الجو أكثر سخونة، ويقدر مكتب إحصاءات العمل أن نصف العمال الأميركيين لديهم وظائف تتطلب منهم التواجد في الهواء الطلق، ومنهم 6.1 مليون في البناء والتشييد، و4.6 مليون في الخدمات اللوجستية، و1.2 مليون في الزراعة، كما أشارت البيانات إلى أنه حتى في الصناعات التي تميل إلى العمل في الأماكن المغلقة، بما في ذلك البيع بالتجزئة والخدمات والتمويل، تقل إنتاجية العمال عندما يكون الجو أكثر سخونة وقد يصل ذلك إلى اثنين في المئة.
انخفاض الإنتاجية الزراعية
ولأن المحاصيل الزراعية تنمو في الهواء الطلق، فإنها تتأثر بالطقس السيئ، بخاصة ارتفاع درجات الحرارة، فعلى الرغم من أن درجات الحرارة التي تتراوح بين 29-32 درجة مئوية، يمكن أن تفيد نمو المحاصيل، فإن الغلة تنخفض بشكل حاد عندما ترتفع مستويات الحرارة بشكل أكبر، إذ تتضرر بعض المحاصيل بشدة من الحرارة الشديدة مثل الذرة وفول الصويا والقطن.
ووجدت دراسة حديثة أن ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار درجتين مئويتين إضافيتين عن المعدلات الحالية للحرارة، سيخفض من الأرباح التي تجنيها الأراضي الزراعية في شرق الولايات المتحدة، ومن الأمثلة البارزة أيضاً على التأثير السلبي للحرارة، انهيار محصول القمح الروسي بسبب موجة الحر التي ضربت الأراضي الروسية عام 2010، ما أدى إلى ارتفاع أسعار القمح في كل أنحاء العالم.
وعلى المستوى العالمي، أدت موجات الحر إلى انخفاض إنتاج الغذاء بين 1964 و2007، حيث دمرت موجات الجفاف والحرارة عُشر إنتاج العالم من الحبوب.
ارتفاع فاتورة الطاقة
من الطبيعي أنه عندما يكون الجو حاراً، يرتفع استهلاك الطاقة، حيث يشغل الأفراد والشركات مكيفات الهواء وغيرها من معدات التبريد بكامل طاقتها، ووجدت دراسة أجريت عام 2011، أن كل يوم إضافي واحد تزيد فيه درجات الحرارة إلى أعلى من 32.5 درجة مئوية، يزيد معها استهلاك الطاقة المنزلية السنوية بنسبة 0.4 في المئة، وفي الموجات المستمرة للحرارة، يشكل ذلك عبئاً إضافياً على الشبكات الكهربائية عندما يعتمد عليها الناس أكثر من غيرها، وهو ما حدث في ولايتي كاليفورنيا وتكساس خلال موجات الحرارة الأخيرة.
ويمكن أن يكون انقطاع التيار الكهربائي مكلفاً للغاية بالنسبة للاقتصاد، إذ قد تفسد مخزونات المواد الغذائية والسلع الأخرى، ويتعين على عديد من الشركات إما تشغيل المولدات أو الإغلاق، وعلى سبيل المثال، كلفت حالات انقطاع التيار الكهربائي في كاليفورنيا قبل عامين ما يقدر بنحو 10 مليارات دولار.
تأثير على التعليم
يؤثر الطقس الأكثر سخونة على المدى الطويل على قدرة الأطفال على التعلم، بالتالي على حياتهم ووظائفهم المستقبلية، وأظهرت الأبحاث أن الطقس الحار خلال العام الدراسي يقلل من مستوى تقدم الطلاب الدراسي، إذ تنخفض درجات الرياضيات أكثر فأكثر مع ارتفاع درجة الحرارة عن مستوى 21 درجة مئوية في الولايات المتحدة، لكن درجات القراءة بدت أكثر مقاومة لدرجات الحرارة العالية، ما يعني أن مناطق مختلفة من الدماغ تستجيب وتتفاعل بشكل مختلف مع مستويات الحرارة المرتفعة.
وأكدت دراسة أجراها عدد من الخبراء في الرابطة الأميركية للاقتصاد ونشرها موقع الرابطة أن الطلاب في المدارس التي تفتقر إلى أجهزة تكييف الهواء، يتراجع مستوى تعلمهم بنسبة واحد في المئة مع كل نصف درجة مئوية تزيد على متوسط درجة حرارة العام الدراسي، الأمر الذي يؤدي مع فقدان التعلم بشكل متكرر إلى انخفاض المكاسب التي يجنيها الطلاب على مدى الحياة، ويضر بالنمو الاقتصادي للبلاد في المستقبل.
فوائد مكيفات الهواء
لا شك أن مكيفات الهواء تساعد على تعويض بعض التأثيرات السلبية لارتفاع مستويات الحرارة، فعلى سبيل المثال، وجدت الدراسات أن وجود مكيفات الهواء، تعني موت عدد أقل من الأشخاص، كما أن تعلم الطلاب لا يتأثر بالسلب.
ومع ذلك، لا يتوفر لدى كل شخص مكيف هواء، بخاصة في المناطق الأكثر برودة مثل ولايتي أوريغون وواشنطن بالولايات المتحدة، وفي كندا وشمال أوروبا التي شهدت درجات حرارة شديدة الارتفاع بشكل غير معتاد هذا العام. وعلاوة على ذلك، فإن كثيرين من الناس لا يستطيعون امتلاك أجهزة أو تشغيلها، فقد وجدت دراسة أجريت عام 2017، أن حوالى نصف المنازل في شمال غربي المحيط الهادئ تفتقر إلى تكييف الهواء، وأن 42 في المئة من الفصول الدراسية في الولايات المتحدة تفتقر إلى مكيفات الهواء.
وعلى الرغم من أن موجات الحرارة تحث مزيداً من الأسر حول العالم على تركيب مكيفات الهواء، إلا أنها ليست دواء سحرياً، فبحلول عام 2100، يمكن أن يؤدي استخدام أجهزة تكييف الهواء إلى زيادة استهلاك الطاقة بنسبة 83 في المئة على مستوى العالم، وإذا ظلت هذه الطاقة تستخدم الوقود الأحفوري، فقد ينتهي الأمر إلى مضاعفة موجات الحرارة التي تسببت في الأساس إلى ارتفاع الطلب على الطاقة.
تكاليف صحية
يسبب الإجهاد الناتج من ارتفاع حرارة الجسم إلى الجفاف وفقدان ملح الجسم، ما يضر كيمياء الجسد ويرهق القلب، بل يمكن أن يؤدي إلى وفاة الأشخاص المصابين بأمراض القلب في بعض الأحيان، وعندما ترتفع درجة حرارة الجسم الأساسية إلى أكثر من 40 درجة مئوية، تتسرب السموم من الأمعاء إلى الجسم، ما يخلق استجابة التهابية مميتة تسمى ضربة الشمس.
كل ذلك يتسبب في زيادة التكاليف الصحية في البلدان المختلفة، وفي الولايات المتحدة على سبيل المثال، بلغت التكاليف المترتبة على موجات الحرارة المرتفعة من عام 2002 وحتى عام 2009، 5.3 مليار دولار، وفي عام 2019 بلغت تكاليف الرعاية الصحية 3.8 تريليون دولار ما يوازي 18 في المئة من إجمالي الاقتصاد الأميركي، ويمثل هذا ارتفاعاً كبيراً عن عام 1960، عندما كانت التكاليف 27.2 مليار دولار فقط، أو خمسة في المئة فقط من إجمالي الناتج المحلي.
وبحلول عام 2028، ستضيف موجات الحر وتأثيرات تغير المناخ الأخرى 360 مليار دولار كتكلفة سنوية، يرجع كثير منها إلى التكاليف الصحية.
خسائر المستقبل
تتوقع دراسة أجراها هوزماي لوبيز من المعهد التعاوني لدراسات الطقس في جامعة ميامي نشرتها مجلة “نيتشر” في الولايات المتحدة كنموذج لما سيحدث في العالم من تغييرات خلال العقود القليلة القادمة، أن تزداد موجات الحر في مناطق الغرب، والغرب الأوسط والبحيرات الكبرى، كما أشار موقع “ولايات في خطر” الأميركي نقلاً عن إدارة الطقس المركزي في ولاية مونتانا أن ولايتي مونتانا ووايومنغ ستشهدان ما يقرب من 30 يوماً من موجات الحر بحلول عام 2030، بعدما كانت 10 أيام فقط عام 2000.
وتتوقع دراسات أجرتها منظمة العمل الدولية عن تأثيرات التغير المناخي على إنتاجية العمل ونشرها موقع “ذي بالانس” الأميركي أن تؤدي موجات الحر إلى خسارة تريليوني دولار في إنتاجية العمل بحلول عام 2030، كما ينتظر أن تقتل موجات الحرارة الشديدة خمسة أضعاف عدد الأشخاص الذين يتوفون للسبب نفسه الآن وعددهم 600 شخص في الولايات المتحدة.
أما بحلول عام 2100، قد يكلف تغير المناخ الحكومة الأميركية 112 مليار دولار سنوياً، كما ستؤدي موجات الحرّ وحدها إلى خفض إنتاجية القوى العاملة بمقدار 1.2 مليار ساعة، وهو ما يوازي 170 مليار دولار.
المصدر: اندبندنت عربية