لم يحدث في تاريخ ايران ما بعد عام 1979 أن كانت كل مفاصل السلطة في يد وسيطرة طرف واحد من القوى السياسية بمختلف تنوعاتها، كما هي منذ عام 2018 وانتخاب البرلمان الثوري بنسبة مشاركة شعبية كانت الادنى في تاريخ الانتخابات البرلمانية في النظام الاسلامي ولم تصل الى عتبة الثلاثين في المئة.
بناء على المعايير التي ميزت العقود الاربعة من تاريخ النظام الاسلامي، كانت الحياة السياسية الايرانية حتى العام 2018 تحفل بالحيوية والتعددية السياسية والحزبية والاجتماعية بنسبة متفاوتة. وبغض النظر عن الاسباب الموضوعية والحقائق السياسية والاجتماعية الذي فرضت وجود هذا التنوع والتعدد، فان الغاءه او عدم الاعتراف به لصالح طرف على حساب الاخير، قد لا يؤسس لحياة سياسية تعبر عن حيوية الاجتماع الايراني وتعدديته وصعوبة تحويله الى احادي البعد والاتجاه والتعبير، ما لم يكن سعي النظام الى انتاج تعددية خاصة به من داخله وتنتمي للتوجه نفسه الذي يسعى لتكريسه كهوية لايران والمجتمع الايراني.
المحطة الابرز في هذا التنوع والتعددية، هي المرحلة التأسيسية في ظل زعامة المؤسس الامام روح الله الخميني، الذي فتح العملية السياسية على شراكة واضحة بين المؤسسة الدينية والمجتمع المدني او العلماني او حتى الديني الليبرالي، فكانت التوليفة التي خرجت فيها الحكومة المؤقتة التي اسندت رئاستها الى المهندس مهدي بازركان زعيم حركة تحرير ايران والقريب من الحركة الوطنية ايام مصدق، الذي شكل وزارة غلب عليها الطابع الليبرالي وشخصيات وطنية ليبرالية ليس لها موقف عدائي من الدين والمؤسسة الدينية. الا ان هذه التجربة لم يكتب لها الاستمرار في ظل تحفز القوى الثورية الدينية للسيطرة على السلطة خوفا من تكريس مسار قد يقطع الطريق عليها مستقبلا في تحقيق اهدافها. وعلى الرغم من المراجعة النقدية التي اجرتها هذه القوى لموقفها من بارزكان وحكومته ومرحلته واعترافها بالخطأ الذي ارتكبته، الا انها في تلك المرحلة استطاعت اخراج هذا التيار من دائرة القرار من بوابة اتهامه بالتعامل مع امريكا خصوصا بعد ازمة احتلال السفارة الامريكية والمفاوضات التي اجرتها الحكومة المؤقتة مع الادارة الامريكية، وتحديدا اللقاء الذي جمع وزير الخارجية حينها ابراهيم يزدي مع مستشار الامن القومي الامريكي زبغنيو برجنسكي في الجزائر.
لعل مرحلة الرئيس الاول المنتخب ابو الحسن بني صدر بعد الحكومة المؤقتة، كانت المحطة الاخيرة للشراكة بين الشريحة الليبرالية والمدنية والشريحة التي تمثل المؤسسة الدينية. فالرئيس المدني والليبرالي اختار توقيتا غير مناسب لفتح معركة السلطة مع المؤسسة الدينية التي كانت تتعامل معه من منطلق التهديد لمصالحها وتضحياته ويعمل على اقصائها وابعادها عن الشراكة في القرار والسلطة. خصوصا وان توقيت المعركة جاء في الوقت غير المناسب مع الهجوم العراقي على الاراضي الايراني واحتلاله لاجزاء كبيرة من محافظات الجنوب والغرب. ولم يأت تدخل الزعيم المؤسس لصالح بني صدر، بل ذهب الى خيار التضحية به، ما اعتبرته المؤسسة الدينية انتصارا له وتأسيسا لسيطرتها وفرض هيمنتها وتحكمها بمفاصل الدولة والنظام.
واذا ما كانت التعددية والتنوع قد ميزا السلطة التنفيذية في تلك الحقبة، فان المؤسسة التشريعية او البرلمان لم تكن بعيدة عن هذا الاتجاه، فالمجالس من الاول الى الثالث، يمكن القول انها عكست الصورة الحقيقية للمجتمع الايراني بكل تنوعاته السياسية والثقافية والفكرية من الاسلاميين وصولا الى الليبراليين مرورا بالمقربين من الماركسيين. ولعل ابرز مؤشر على هذه الحيوية الخلاف الذي كان قائما بين رئيس الجمهورية حينها السيد علي خامنئي مع رئيس الوزراء مير حسين موسوي. في حين ان البرلمانات اللاحقة ما قبل البرلمان الحالي، انتقلت الى تعددية من نوع اخر، هي تعددية القوى الاسلامية، وصولا الى الانقسام بين يمين موال ويسار معارض، قبل الانتقال الى انقسام بين محافظين وتنوعاتهم من متشددين وتقليديين جدد من جهة، واصلاحيين ومعتدلين من جهة ثانية.
مع وصول هاشمي رفسنجاني الى رئاسة الجمهورية، كان المتوقع ان يسود الانسجام بينه وبين السيد علي خامنئي الذي انتقل من رئاسة الجمهورية الى موقع مرشد النظام، وهو ما حصل بالفعل في الدورة الرئاسية الاولى لرفسنجاني، بينما في الدورة الثانية بدأت مظاهر الاختلاف تظهر بين الرجلين، الى ان وصلت الامور بان يتبنى رفسنجاني ويدعم وصول محمد خاتمي الى رئاسة الجمهورية بمشروعه الاصلاحي على حساب علي اكبر ناطق نوري مرشح المرشد والتيار المحافظ، في وقت كان البرلمان في دورته الخامسة منقسما بين معتدلين اقرب الى تيار رفسنجاني وحزب كوادر البناء ومتشددين موالين لقيادة النظام.
وجود خاتمي في رئاسة الجمهورية سمح بفتح الاجواء وتعزيز التعددية الفكرية والسياسية ليس فقط بين اصلاحي ومحافظ، او بين موال وغير موال، او بين يمين ويسار، بل عادت القوى الليبرالية لنشاطها وباتت شريكة في ابداء الاراء والاعتراض على سياسات النظام والدولة.
هذا الانفتاح سرعان ما اثار القوى المحافظة والموالية للنظام، فبدأت العمل على اسقاط التجربة الاصلاحية اداريا وشعبيا واجتماعيا وسياسيا وفكريا، ويمكن القول بانها انتهت الى النتيجة التي تريدها مستخدمة كل الوسائل والسلطات التي تسيطر عليها، ما ساعدها على ايصال محمود احمدي نجاد الى رئاسة الجمهورية والسيطرة على البرلمان، معتقدة بان المرحلة باتت مهيأة للانتقال الى توحيد السلطات والانتهاء من الاصوات المعارضة. الا ان حساباتها لم تأت متوافقة مع طموحات احمدي نجاد الذي تمرد على قيادة النظام لصالح بناء مشروعه السياسي والفكري الخاص. فضلا عن ان وجوده على رأس السلطة التنفيذية والتخريب الذي قام به، كلف النظام والتيار المحافظ اثمانا سياسية واقتصادية داخلية باهظة وقاسية، فضلا عن الاثمان الدولية، ما اجبر النظام على الذهاب الى خيار المرحلة الانتقالية في محاولة لترميم الاوضاع مع حسن روحاني، الذي فشل في استثمار الانجاز الذي حققه في الاتفاق النووي ورفع العقوبات الدولية، وبات رهينة الصراعات الداخلية التي قادتها ضده مواقع ومراكز القرار في النظام لمنعه من تكريس هذا الانجاز سياسيا على حسابها. وانتهت الى استسلامه امام هذه المراكز التي حرمته من العودة لاستثمار اللحظة الدولية التي سنحت امامه باعادة احياء الاتفاق، وبات ينتظر اللحظات التي يعلن فيها عن الرئيس الجديد ليقدم له ما انجزه على طبق من ذهب ليبدأ بتوظيفه واستثماره وتحقيق الانجاز وتسجيله في خانة النظام.
منذ عام 2018، بدأت مؤسسات النظام بالعمل بشكل حثيث على استعادة المبادرة، فاستنفرت كل مؤسساتها وقدراتها لخوض الانتخابات النيابية واستعادة السيطرة على البرلمان، وهو ما تحقق لها، بحيث لم تسمح لاي مرشح مشكوك في ولائه للنظام من الفوز، وجاءت ببرلمان من لون واحد وبنسبة مشاركة شعبية هي الاقل في تاريخ الثورة، وعلى الرغم من ذلك فان المرشد الاعلى وصف هذا البرلمان “بالثوري”. ثم بدأت هذه القوى التمهيد للانتخابات الرئاسية والتي كانت اقرب الى عملية “تعيين” باداة انتخابية، واعلن عن فوز ابراهيم رئيسي الاتي من السلطة القضائية بنسبة مشاركة متدنية وعزوف شعبي واضح لم تتعد 30 في المئة في حين كانت الاصوات الملغاة او الباطلة في المرتبة الثانية. وبذلك اصبحت السلطات الدستورية الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) في قبضة النظام وادارته العميقة.
ان يعلن رئيسي في خطاب القسم او اليمين الدستورية انه سيشكل حكومة وحدة وطنية من التيارات السياسية، يدفع لطرح سؤال حول طبيعة ومفهوم والتعريف الذي يعتمده رئيسي لهذه “الوحدة الوطنية”. فهل سيلجأ الى اشراك شخصيات من القوى الاصلاحية او المعروفة بمواقفها المنتقدة لسياسات النظام الداخلية والخارجية، ام ان المفهوم لهذه الوحدة الوطنية يقتصر على مشاركة الاطراف والشخصيات والقوى الموالية للنظام، أي من اجنحة التيار المحافظة المختلفة والمتخالفة في سعيها للسيطرة على مؤسسات الدولة والقرار. يبدو ان المفهوم الثاني لحكومة الوحدة الوطنية الذي يريده رئيسي لا يخرج عن اطار المحددات المحصورة في القوى الموالية والمحافظة، ولعل الاسماء المطروحة لتولي المواقع الوزارية تشكل مؤشرا واضحا على ذلك. وحتى لا يكون حكما متسرعا، فان الايام القليلة المقبلة ستعزز هذا المفهوم او تنقضه مع الكشف عن تشكيلته الوزارية!
المصدر: المدن