منظمات الاستخبارات الإيرانية وحملات القمع العابرة للحدود الوطنية

سعيد جولكار

في أواخر تموز/يوليو، انتشرت أنباء مفادها أن وكالات الاستخبارات الإيرانية قد خططت لخطف صحفيين مغتربين وإجراء تجسس إلكتروني على علماء في الخارج من خلال انتحال صفة جامعة بريطانية. وتعتبر الحادثتان مؤشرات على استمرار الجمهورية الإسلامية في قمعها العابر للحدود الوطنية – والمتوسع – ضد الإيرانيين الذين يعربون عن معارضتهم للنظام.

وعند مناقشة عمليات الاستخبارات الإيرانية الأخيرة، يميل المراقبون الدوليون إلى التركيز على «الحرس الثوري الإسلامي». وبقيامهم بذلك، غالباً ما يتجاهلون الأنشطة الخبيثة العديدة التي ينفذها جهاز الاستخبارات الرئيسي التابع للنظام، الذي كان يعرف أساساً باسم “وزارة الاستخبارات والأمن القومي” (“الوزارة”).

تطور المخابرات الإيرانية

تمّ إنشاء “وزارة الاستخبارات والأمن القومي” في عام 1983 كوسيلة لدمج بعض الوحدات الاستخباراتية من حقبة الثورة. وفي عام 1989، أصبحت مسؤولة عن تنسيق مجتمع الاستخبارات بأكمله، والذي يتكون من 16 جهازاً يعمل في مجال الاستخبارات ومكافحة التجسس.

وإسمياً، تعمل “وزارة الاستخبارات والأمن القومي” تحت إمرة الرئيس، ولكن يجب اختيار الوزير المسؤول عنها بموافقة المرشد الأعلى. وبحكم القانون، يجب أن يكون الوزير أيضاً “مجتهداً” من دون أي انتماءات سياسية.

وتختار “الوزارة” موظفيها في المقام الأول من طلاب المعاهد الدينية. فقد درس العديد من أبرز عناصرها في “مدرسة حقاني”، وهي معهد ديني في مدينة قُم تُخرّج جماعات موثوقة من المتشددين. وفي عام 1984، أسست “الوزارة” “جامعة الإمام محمد باقر” لتدريب وكلاء ومحللين في شؤون الأمن. وتقوم عملية الاختيار الصارمة على المؤهلات الدينية والأيديولوجية.

اغتيال المعارضين من قبل “وزارة الاستخبارات والأمن القومي” 1979 – 1997

في البداية، وبتوجيه من وزير الاستخبارات محمد ريشهري، ركزت “الوزارة” على القضاء على عناصر المعارضة الإيرانية، ولا سيما حركة “مجاهدي خلق”، التي كانت تنشط داخل إيران وخارجها. وبعد عام 1989، هيمن الإسلاميون اليمينيون الذي كانوا أكثر ولاءً للمرشد الأعلى علي خامنئي على “الوزارة” بدعم منه. وبعد ذلك ركزت “الوزارة” اهتمامها على اغتيال المنشقين الإيرانيين في ظل إدارة علي فلاحيان، الذي هو بدوره خريج “مدرسة حقاني”.

ووقعت أول حادثة بارزة في تموز/يوليو 1989، عندما قُتل عبد الرحمن قاسملو في فيينا. وفي آب/أغسطس 1991، اغتيل رئيس الوزراء السابق في عهد الشاه شابور بختيار في باريس. وبعد عام، وقعت إحدى الحوادث الأكثر شهرةً في برلين، حيث اغتال عملاء تابعون لـ “وزارة الاستخبارات والأمن القومي” ومسلحون من «حزب الله» اللبناني منشقين أكراد إيرانيين في مطعم “ميكونوس”. وفي عام 1994، أفادت بعض التقارير أن “الوزارة” تعاونت مع «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» لتفجير مركز “الجمعية التعاضدية الاسرائيلية الأرجنتينية” (“آميا”) في بوينس آيرس، مما أسفر عن مقتل 85 شخصاً وإصابة 300 آخرين بجروح. واستمرت هذه الموجة من العنف المستهدف حتى نهاية رئاسة أكبر هاشمي رفسنجاني في عام 1997.

وخلال هذه الفترة نفسها، اعتقلت “الوزارة” أيضاً وقتلت العديد من الناشطين والكُتاب داخل البلاد، بمن فيهم وزير الصحة السابق كاظم سامي، والكاتب سعيدي سرجاني، والعديد من القساوسة المسيحيين. وفي حادثة مشينة ارتُكبت عام 1996، حاولت “الوزارة” قتل 21 مفكراً إيرانياً كانوا على متن حافلة في طريقهم إلى مؤتمر شعري في أرمينيا عبر جعل الحافلة تسقط من على منحدر. إلّا أنهم نجوا لحسن الحظ.

وتم تبرير هذه الأفعال من خلال وصفها بأنها جزء من المعركة ضد “الغزو الثقافي”. فمن وجهة نظر النظام، كانت الدول الغربية عازمة على تقويض الثقافة الإسلامية وإفساد أخلاق الإيرانيين من خلال الترويج لثقافتها وأنماط حياتها المادية.

“وزارة الإستخبارات والأمن القومي” في عهد الإصلاحيين، 1997-2004

على الرغم من دعم قيادة “وزارة الاستخبارات والأمن القومي” للمرشح المحافظ خلال الانتخابات الرئاسية عام 1997، إلا أن السياسي الإصلاحي محمد خاتمي فاز بالانتخابات. وفي إطار التوصل إلى حل وسط مع المرشد الأعلى، قام خاتمي بتعيين قربانعلی دری نجف‌آبادی – خريج “مدرسة حقاني” دون خلفية استخباراتية – وزيراً للاستخبارات.

وفي البداية، واصل المتشددون في “الوزارة” القضاء على المفكرين الإيرانيين ضمن سلسلة من الاغتيالات السياسية التي أُطلق عليها اسم “جرائم القتل المتسلسلة”. وفي عام 1998، قتلت “الوزارة” ما لا يقل عن 6 ناشطين، بمن فيهم داريوش فروهر وزوجته بروانه اسكندري.

وفي ظل الضغوط التي مارستها الحكومة الإصلاحية، أقرّت “الوزارة” أخيراً أن أعضاءها ارتكبوا هذه الجرائم. غير أنه بأمر من خامنئي، حاول النظام تصوير هذا النشاط على أنه مؤامرة أجنبية – تم اعتقال بعض أعضاء “وزارة الإستخبارات والأمن القومي” وعائلاتهم وتعذيبهم للاعتراف بأنهم عملاء إسرائيليون. وكان أعلى رتبة من بين المعتقلين هو نائب وزير الأمن الداخلي سعيد إمامي؛ وعندما توفي في الحجز، زعمت السلطات أنه انتحر.

وعندما استقال دری نجف‌آبادی في كانون الثاني/يناير 1999، تمّ تعيين علي يونسي وزيراً جديداً للاستخبارات. وعلى غرار أسلافه، كان يونسي أحد خريجي “مدرسة حقاني” وتولى رئاسة “محكمة الثورة الإسلامية”. وخلال عهده، همشت “الوزارة” المتشددين اليمينيين، وسيطر الإصلاحيون عليها. وسرعان ما وسعت “الوزارة” من استخدامها لتكنولوجيا المراقبة، وقدرات التشويش على الأقمار الصناعية، والأنشطة ذات الصلة.

العودة تحت حكم المتشددين 2005-2012

في عام 2005، عيّن الرئيس الجديد محمود أحمدي نجاد خريج “مدرسة حقاني” ورجل الدين المتشدد غلام حسين محسني إجئي كأول وزير للاستخبارات في عهده. وكان هدفه إعادة “وزارة الإستخبارات والأمن القومي” إلى كنف سلطة المرشد الأعلى.

وعلى الصعيد الداخلي، ركزت “الوزارة” على إبطال المخططات المزعومة لـ”الثورة الملونة”، والتي اعتبرتها استراتيجية خارجية جديدة لإسقاط النظام. وفي إطار هذه الجهود، قمعت “الوزارة” منظمات المجتمع المدني واعتقلت العديد من الناشطين المدنيين والسياسيين. كما واصلت “الوزارة” اختطاف المنشقين في الخارج، بمن فيهم فرود فولادفاند، مؤسس الجماعة المعارضة الملكية “جمعية مملكة إيران”، الذي اختُطف في تركيا عام 2007.

وأدت الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها عام 2009 إلى إثارة احتجاجات جماعية في جميع أنحاء البلاد في إطار انتفاضة حملت اسم “الحركة الخضراء”. واتَهم أحمدي نجاد عناصر معينة في “الوزارة” بتدبير الاضطرابات لتقويض إدارته. وفي 26 تموز/يوليو من ذلك العام، أقال محسني إجئي بسبب عدم قدرته على إيقاف نشاط الحركة.

وكان خلفه، حيدر مصلحي، أول وزير للإستخبارات والأمن القومي الذي لم يتخرج من “مدرسة حقاني”. وأشرف مصلحي، الذي كان ممثلاً سابقاً لخامنئي في «الحرس الثوري الإسلامي» وميليشيات “الباسيج”، على جولة إضافية من عمليات التطهير داخل “الوزارة”، مما أدى إلى طرد العديد من أنصار المرشح الإصلاحي إلى الرئاسة مير حسين موسوي. وفي النهاية، ساعدت “الوزارة” أجهزة أمنية أخرى في قمع “الحركة الخضراء”. كما ساعدت في القبض على عبد الملك الريغي، قائد “جند الله”، الجماعة الإرهابية السنية التي تنفذ عملياتها جنوبي شرقي إيران.

ومع ذلك، فشلت “الوزارة” باستمرار في العديد من مهامها الأخرى. على سبيل المثال، بين عامي 2010 و 2012، اغتيل العديد من العلماء النوويين الإيرانيين، من قبل إسرائيل على ما يُزعم. وسعت الأجهزة الأمنية الإيرانية إلى الانتقام من خلال إرسال عملاء لقتل دبلوماسيين إسرائيليين في بانكوك في شباط/فبراير 2012، لكن المهمة فشلت بشكل مذهل. وفي فضيحة أخرى، قامت “وزارة الاستخبارات والأمن القومي” بتعذيب إيرانيين أبرياء لإرغامهم على الاعتراف زوراً بأنهم سهّلوا اغتيال العلماء.

ومع مرور الوقت، نشأ الصراع واشتد بين أحمدي نجاد ومصلحي. واشتكى الرئيس من عدم تلقيه إحاطات استخباراتية؛ وبالفعل غالباً ما تجاهلته “الوزارة” وأرسلت التقارير السرية للغاية مباشرة إلى خامنئي. ولاحقاً دافع مصلحي عن سلوكه بالقول إن “الوزارة” تابعة للمرشد الأعلى وليس للرئيس. ورد أحمدي نجاد عليه باتهام مسؤولين في “الوزارة” بتهريب سلع قيّمة، على أمل القضاء عليها لكي يتمكن من تعيين مؤيدين له بدلاً منهم. ومع ذلك، عندما حاول أحمدي نجاد إقالة مصلحي في نيسان/أبريل 2011، رفض خامنئي أمر الرئيس وأعاد مصلحي إلى منصبه، وبالتالي ضرب سلطة أحمدي نجاد وصلاحياته عرض الحائط.

القمع في ظل البراغماتيين، 2013-2020

عندما أصبح حسن روحاني رئيساً في عام 2013، اختار محمود علوي، رجل دين لا يتمتع بأي خلفية استخباراتية، وزيراً للاستخبارات والأمن القومي. وكانت هذه الخطوة بمثابة حل وسط أيده خامنئي، الذي كان يعزز دعمه لـ “منظمة استخبارات «الحرس الثوري الإسلامي»”، وهي وكالة أكثر حداثةً تأسست في عام 2009. وإلى جانب عدم كفاءة علوي، أدى هذا التغيير إلى تهميش “الوزارة “في الشؤون الأمنية الداخلية وإعادة التركيز على الاستخبارات الخارجية.

وفي شباط/فبراير 2017، تمّ توسيع صلاحيات ومسؤوليات فرع الاستخبارات الخارجية ضمن “الوزارة” بشكل رسمي. وشملت الزيادة الناتجة في أنشطة “الوزارة” في الخارج مراقبة واستهداف المنشقين والمرتدين بشكل أوسع. ففي كانون الأول/ديسمبر 2015، قَتل عملاء “الوزارة” محمد رضا كلاهي صمدي، عنصر في “مجاهدي خلق” اشتبه بتفجيره مقر “الحزب الجمهوري الإسلامي” في عام 1981. وفي نيسان/أبريل 2017، زُعم أن عملاء “الوزارة” في اسطنبول قتلوا سعيد كريميان، صاحب قناة تلفزيونية فضائية. وفي عام 2018، ألقى “مكتب التحقيقات الفدرالي” الأمريكي القبض على مجموعة من المواطنين الذين يحملون الجنسية الأمريكية والإيرانية المنتسبين إلى “الوزارة”، واتهمهم بمراقبة مراكز يهودية وأعضاء في حركة “مجاههدي خلق” بصورة سرية. وفي نفس العام، حاول عميل تابع لـ “الوزارة” تحت ستار دبلوماسي إيراني زرع قنبلة في تجمّع لمنظمة “مجاهدي خلق” في باريس. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2019، قتلت “الوزارة” مسعود مولوي وردنجاني، وهو مسؤول سابق في “الوزارة” كان قد انشق عنها وهرب إلى تركيا. وكانت عمليات الخطف متفشية أيضاً – ففي تموز/يوليو 2020، اختطفت “الوزارة” المنشق جمشيد شارحد في دبي؛ وبعد ثلاثة أشهر، اختطفت حبيب شعب، وهو زعيم انفصالي من أصل عربي إيراني في تركيا.

وبدورها، نفذت “منظمة استخبارات «الحرس الثوري الإسلامي»” عمليات اختطاف مماثلة. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2019، اختطفت روح الله زام، وهو صحافي إيراني يعمل في العراق، وأعدمته لاحقاً. وبالفعل، على الرغم من التنافس على الموارد والامتيازات، تعاونت “الوزارة” مع “منظمة استخبارات «الحرس الثوري الإسلامي»” بشكل عام في مهمة أوسع نطاقاً تتمثل في الحفاظ على النظام وقمع المنشقين.

الخاتمة

لا يُعتبر القمع العابر للحدود الوطنية ظاهرة جديدة في الجمهورية الإسلامية. فمنذ قيامها في عام 1979، لم يكفّ النظام بمراقبة واختطاف وقتل أفراد المعارضة والمنشقين بصرف النظر عن الحكومة التي في السلطة. واعتقد العديد من المراقبين أن سلوك طهران سيصبح طبيعياً بعض الشيء مع توقيع الاتفاق النووي لعام 2015؛ لكن بدلاً من ذلك، زادت “الوزارة” من أنشطتها العابرة للحدود الوطنية خلال عهد حكومة روحاني “البراغماتية”.

وعلى الرغم من تطوّر منظمات الاستخبارات الإيرانية واكتسابها بعض الكفاءة خلال أربعة عقود من الخبرة، إلا أن مستوى نجاحها قد اختلف. وبشكل عام، تحقق عملياتها ضد المنشقين نجاحاً أكبر في البلدان التي تعاني من الفساد، أو حيث لدى إيران المزيد من الحلفاء والموارد. فعلى سبيل المثال، في حزيران/يونيو 2020، قتلت “الوزارة” القاضي الهارب غلام رضا منصوري في المجر (هنغاريا) بعد استدراجه من ألمانيا. ومع ذلك، فإن سجل “الوزارة” سيئ في أمريكا الشمالية وأوروبا بفضل الأجهزة الأمنية الكفوءة لهذه الدول وسيادة القانون.

باختصار، تُعتبر المخططات التي تصدرت الصفحات الأولى لاختطاف صحفيين والتغلغل في مجال الجامعات من خلال انتحال صفة مزيفة أحدث الجهود في إطار سلسلة طويلة من القمع العابر للحدود الوطنية الذي اتسمت به الجمهورية الإسلامية. على القوى الغربية إدانة هذه الأنشطة بشكل مباشر أكثر ومعاقبتها كلما أمكن ذلك.

سعيد جولكار هو أستاذ مساعد في “قسم العلوم السياسية والخدمة العامة” في “جامعة تينيسي”، تشاتانوغا.

المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى