كان لافتاً جداً للمراقبين المقال الذي كتبه الثلاثاء الماضي (20 يوليو/ تموز الجاري) ديفيد أغناتيوس، أحد أهم المحللين الأميركيين في صحيفة واشنطن بوست في قضايا الشرق الأوسط، إذ كتب بوضوح شديد أنّ ملك الأردن عبدالله الثاني، عاد ليكون الزعيم المفضّل لدى البيت الأبيض في التعامل معه، وأنّه يحظى بمصداقية وثقة عاليتين اليوم لدى إدارة الرئيس الأميركي جوزيف بايدن. والمفارقة أنّ مقالة أغناتيوس جاءت بعد أسابيع قليلة من مقالة قاسية للكاتب نفسه استخدم فيها لغة نقدية غير مسبوقة تجاه الملك عبدالله الثاني، تزامنت أيضاً مع مقالات عدة، منها مقالة نشرت في مجلة “فورين بوليسي” وصفت الأردن بـ”مملكة الموز”.
إذاً، من الواضح أنّ هنالك مكاسب عدة جناها الملك عبدالله الثاني من زيارته واشنطن، أخيراً، ولقائه الرئيس الأميركي (19 يوليو/ تموز الجاري) واجتماعاته مع كبار المسؤولين هناك، وفي مقدمة ذلك، كما يشي مقال أغناتيوس وتصريحات بايدن، أنّ مرحلة محاولة تهميش الأردن التي وصلت إلى ذروتها في العامين الأخيرين من إدارة ترامب، انتهت، ولم تعد قائمة، فمن المرجّح أنّ الدور الإقليمي الأردني سيجد مساحةً مهمةً في المرحلة المقبلة، لكنّ ذلك مشروط بإعادة ترسيمه وتصميمه في ضوء المتغيرات الإقليمية الكبيرة التي حدثت خلال الأعوام الماضية.
معروف أنّ إدارة الرئيس بايدن وجدت في السياسات الأردنية مشكلة وعائقاً أمام تنفيذ مشروع تصفية القضية الفلسطينية؛ بداية من نقل السفارة الأميركية إلى القدس، مروراً بإعلان صفقة القرن، ثم عملية التطبيع الإقليمية التي جرت على قدم وساق تحت بند “السلام الإقليمي” وهو الاسم الحركي لإعلان إنهاء الملف الفلسطيني وتصفية إرثه؛ من حدود ولاجئين وقدس وسيادة وجميع بنود الحلّ النهائي.
شهد الأردن، كما يقول سياسيون مقرّبون جداً من مطبخ القرار في عمّان، ضغوطاً غير مسبوقة، وتهميشاً قاسياً ورسائل غير ودّية أميركياً ومن دول عربية لطالما كانت حليفة للأردن، وكان المحكّ الأخير من هذه التجاذبات والخلافات ما تمّ تسريبه في قضية الأمير حمزة.
تنفس السياسيون الأردنيون الصعداء بهزيمة ترامب، فلو استمرّ الرجل في حكم البيت الأبيض لكان ذلك يعني أعواماً سيئة جداً للأردن، ومزيداً من التهميش والضغوط، للتنازل عن “لاءات الملك الثلاث” (لا للتوطين، لا الوطن البديل ولا للتنازل عن القدس)، فبمجرد خروجه من البيت الأبيض، انتهى الضغط الأميركي. لكن ماذا بقي؟ نقل السفارة إلى القدس صار أمراً واقعاً، اتفاقيات التطبيع العربية التي تتجاوز الفلسطينيين أصبحت سفارات وعلاقات قائمة، والأمر الواقع في الأراضي المحتلة وموازين القوى لمصلحة إسرائيل، وخروج نتنياهو من المشهد لا يعني أنّ هنالك شريكاً إسرائيلياً، فاليمين الإسرائيلي أصبح خيار الشارع أفقياً وعمودياً، ولم يعد هنالك وجود ليسار إسرائيلي كان يحلم بعض الحكام العرب أن يكون شريكاً في التسوية!
ما معنى ذلك؟ أنّ هنالك ضرورة ماسّة لإعادة تعريف دور الأردن الإقليمي وترسيمه، وهو الدور الذي شكّل رافعة لأهميته الجيو استراتيجية، ومورداً رئيسياً للاقتصاد الوطني، خلال العقود الماضية، في موضوع القضية الفلسطينية، سواء باعتبار الأردن رأس الحربة في دول الطوق والصراع العربي – الإسرائيلي، أو ممرّاً رئيسياً في التسوية السلمية، فما هي معالم الدور الأردني الجديد في القضية الفلسطينية؟ سؤال مهم من المفترض أن يخضع لنقاشات واسعة في أوساط النخب الأكاديمية ودوائر القرار.
حتى ملف الحرب على الإرهاب الذي مثّل الأردن فيه شريكاً استراتيجياً مع الإدارة الأميركية أيضاً لم يعد بالأهمية السابقة خصوصا في ذروة صعود “القاعدة” و”داعش” قبل أعوام. في المقابل، هنالك إشكالية كبيرة في علاقة الأردن بالجارين الرئيسين، العراق وسورية، فمن المعروف أنّ أي تحسين في العلاقة معهما (بخاصة العراق) مرتبط بالعلاقات الأردنية – الإيرانية، وقد استدعى الأردن سفيره هنالك قبل أعوام، على خلفية الأزمة بين الرياض وطهران.
كيف، إذاً، سيرسّم الأردن في المرحلة المقبلة علاقاته مع إيران والعراق وسورية (وما يرتبط بها من عقوبات قانون قيصر الأميركي) وتركيا ودول الخليج العربي؟ وما هي معالم الدور الأردني المطلوب في الملف الفلسطيني؟ وهذا وذاك يطرح سؤالاً جوهرياً (أشار إليه خبراء في ورشة عمل عقدها قبل أشهر معهد السياسة والمجتمع في عمان) حول ما إذا كان هنالك تصوّر واضح لدى أوساط القرار للأمن القومي الأردني: أولوياته، محدّداته، التهديدات، التحدّيات، المتغيرات، الثوابت، عوامل القوة والضعف، جدلية العلاقة بين الداخل والخارج… إلخ؟
المصدر: العربي الجديد