الأسد يحظر المستقبل على السوريين

غازي دحمان

عزّ على بشار الأسد أن يقدم لمحكوميه، في خطاب قسم رئاسته الرابعة، ولو حتى بصيص أمل يعينهم على تحمّل ما لم يعانِه بشر في العصر الحديث من جوع وعطش وخوف، لكنه كان سخياً في شرح مفاهيم الشفافية والعقائد والقيم والوطنية والقومية. وبالطبع، بالقدر الذي يمكنه من توظيف هذه المصطلحات في خدمة روايته عن حربه على السوريين.

بالنسبة له، الشعب هم النخبة المنتقاة لحضور خطاب القسم، فهؤلاء إما أصحاب مناصب عليا في جمهوريته صاروا على تلك الحال نتيجة قدراتهم الفائقة على المشاركة في قتل السوريين، أو أصحاب ثرواتٍ صنعهم هو بنفسه في أثناء فترة الحرب. ويشكّل هؤلاء متن المشهد الذي يحتاج ديكورا يزينه من الممثلين وبعض مصابي الحرب وشخصيات عامة.

أما من هم خارج القاعة، فلم يكونوا في ذهن الأسد أو اعتباره. كانوا ينتظرون حلولا عاجلة لحل مشكلاتٍ من نوع تأمين العشاء لأولادهم، وتأمين وصول التيار الكهربائي بما يكفي لتشغيل مروحة تخفّف عنهم وهج الحر في بيوت غير مصمّّمة أصلاً للسكن الآدمي. وكان ملايين منهم، النازحون في الداخل، ينتظرون ولو وعدا بإمكانية رجوعهم إلى مناطقهم المدمّرة، والخلاص من سكن الجوامع والمدارس والحدائق العامة.

من أين يجد هؤلاء مكانة لهم في عقل “رئيس” همومه بحجم مواجهة حربٍ كونية، وطموحاته لا تقبل بأقل من تعديل ميزان القوى العالمي، ولا يقبل النزول إلى مستوى تفاصيل صغيرة لا تليق إلا بالصغار، هؤلاء هم الذين ذكرهم بخطابه على أنهم لا لون ولا طعم لهم، من السهل على القوى الإمبريالية اختراقهم وحرفهم.

فالسوريون إذاً حسب بشار الأسد طبقات، ليس بالمعنى الماركسي الكلاسيكي، بل يمكن القول إنهم طوابق، وأغلب هذه الطوابق هم مجرّد فوائض، ضررهم أكثر من نفعهم، لأنهم بلا أساسات، ولا يمتلكون المناعة الوطنية الأسدية، وهم مرشّحون للسقوط دائماً في بئر الخيانة، حينما تتهيأ الفرصة لذلك.

وحدهم، النخبة المختارة، هم الناجون، هؤلاء من يتوجّه بخطابه إليهم، ومن يحدّثهم عن الاستثمارات والقوانين والتسهيلات التي يؤمنها لهم، وهؤلاء أصلاً من يفهمون معاني المصطلحات الثقيلة واللغة الرخيمة، ومن لديهم القدرة على تذوّق السيمفونية التي تم عزفها على مدخل القاعة، وهم من يقدّرون الصورة المبهرة لمراسم استقبال الأسد، وقبلها سيارته الفارهة والسجاد الأحمر والأروقة الأسطورية لقصر الشعب. أما الباحثون عن الخبز والكهرباء والسكن وكل هذه التفاصيل التافهة، فلسان الرئيس لن يخاطبهم، وعواطف ماري أنطوانيت العصر لن تشملهم.

أين المستقبل في خطاب بشار الذي يدشّن سبع سنوات مقبلة لحكم هذه البلاد التي عاش شعبها أقسى ما يمكن أن يعرفه البشر من ألم في العصر الحديث، وكأنه تمت إعارتهم إلى أزمان غابرة، لترى البشرية كيف كانت الحياة في تلك الأزمان، وتستوعب ماذا يعني الموت جوعاً وعطشاً وغرقاً في البحار وتحت ردم البيوت؟ هل ما حصل للسوريين، على يد بشار وحلفائه، كان مجرّد فاصل ترى عبره الشعوب أفلام سينما الرعب تتجسّد في الواقع؟

المستقبل الذي قدّمه بشار لهؤلاء المنكوبين يتمثل بفكرة إصلاح البنية المركزية للدولة، التي لديها قطاع عام واسع، لكنه اشترط عليهم أن يكونوا صبورين بحجم تعقيدات القطاع العام واتساعه. وهنا لا بد لهؤلاء أن يسألوا، إذا كنت، يا قائد الحرب الكونية، بعد أكثر من عشرين عاماً في الحكم، لم تستطع إصلاح البنية المركزية، وهي من أولى أولويات أي نظام سياسي لتسيير شؤون المجتمع الذي يحكمه، ومن المسلمات التي استفضت بشرحها في خطابك العرمرمي، فكم مطلوبٌ منا أن ننتظر حتى تنجز هذه المهمة، ونحن الذين نحتاج لحلول إسعافية لأوضاعنا الكارثية؟

الحل بسيط عند بشار، المشكلة في الشعب، ذلك أن الخلل في قيمه بعد انزياحه عن قيم الدولة الأسدية ودستورها، وبحثه عن معاني الحرية في قواميس الغرب. المشكلة في الشعب الذي وقف على الحياد، ولم يشارك في قتل من تجرّأوا وطالبوا بالعدل. والمشكلة في هؤلاء لأنهم شكّكوا برواية النظام عن الأحداث، أو ربما لم يستطيعوا أن يكذبوا عيونهم وآذانهم. وما يحصل من مصاعب وأزمات أمر طبيعي لهؤلاء، ولا توجد لدى بشار حلول سحرية لهؤلاء. عليهم أولاً تسليم عقولهم وضمائرهم لسدنة الدولة الأسدية وحماتها، وأن يفعلوا ذلك وهم مقتنعون، ومن ثم يبدأون في تطبيق الوصفة التي تشتمل على احترام الكبير قدراً وسناً، بمعنى لا يلعنوا روح حافظ الأسد ولا يستهترون بوريثه بشار، بالإضافة إلى احترام القوانين التي يسنّها الأسد، بما فيها الدستور الذي ينصّبه حاكماً بأمر الله.

طار المستقبل في خطاب بشار، تاه بين زواريب البنى المركزية للدولة، وتبدّد في مشروع البحث عن معان لمصطلحات ولادة لبدائل عديدة. والخلاصة أن المستقبل صار من المحظورات في سورية، أو على الأقل، بات محصوراً ضمن شعب الرئيس والرئيس نفسه. ولهؤلاء تتم صناعة أدوات المستقبل من قوانين تشجّع على الاستثمار، وصولاً إلى طبقة عاملة لها فم يأكل، إن وجد الطعام، ولا يعترض أو يطلب. أما البقية، فلا داعي للحديث عن مستقبلهم الذي بات محصوراً ضمن خيارين: النزوح عن سورية أو الموت جوعاً وعطشاً.

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى