في مقال للراحل الكبير ميشيل كيلو عن ثورة ٢٣ يوليو/ تموز، في ذكراها، منشورًا بتاريخ 3_ 8_ 2010 يختصر عنوانه: (دروس باقية) مانريد قوله، والتأكيد عليه، في هذه الذكرى المجيدة، فهي انقضت وانتهت بالانقلاب عليها في منتصف مايو/ آيار 1971، أو قبل ذلك برحيل قائدها جمال عبد الناصر في 28 أيلول/ سبتمبر 1970، ولكننا بالرغم من ذلك، ورغم انقضاء ما يزيد على نصف قرن على رحيل زعيمها، فمازلنا “نرى اليوم واقعنا بدلالاتها”، بحسب ميشيل كيلو في مقاله نفسه المشار إليه، وهي بهذا المعنى حاضرة ومستمرة، مؤثرة وفاعلة، خصوصًا ونحن نتطلع الى مستقبلنا وليس ماضينا.
ولو شئنا التفصيل قليلاً، وإجراء عمليات إسقاط على واقعنا، ومن مصر نفسها، فليس لنا إلا أن نقف عند حالها اليوم أمام التحديات والمخاطر التي تواجهها، وأبرزها تحدي بناء وملء سد النهضة الأثيوبي الذي يهددها بالموت عطشًا، وبانعدام فرص الحياة فيها تدريجيًا، ليس في مجال الشرب والصحة العامة، لأكثر من 100 مليون مواطن، بل في مجالات الزراعة والطاقة والتنمية والاستثمار، وهي التي وصفها المؤرخ الإغريقي هيرودوت بهبة النيل، وعدها الراحل الكبير جمال حمدان هي النيل نفسه في كتابه الضخم مصر: عبقرية الزمان والمكان.
ما يحصل دلالة واضحة على انحسار دور مصر وتراجعه في القارة السمراء، وفقدان مكانتها وهيبتها، بل والاستخفاف بها، وجزءًا من حصارها، غير بعيدة عنه دولة الكيان الصهيوني، الداعم الأول لأثيوبيا، وهي التي كانت تقود منظمة الوحدة الإفريقية، قبل أن تغير اسمها ليصبح الاتحاد الإفريقي، وكان لها دورًا مؤثرًا وكبيرًا في دعم حركات التحرر والاستقلال فيها، ومعظم دولها تدين لمصر بالولاء والوفاء، وربطتها بها علاقات وثيقة ومتينة، استراتيجية، على مختلف الصعد والمستويات، قبل هذا الاختراق في جدار أمنها، ذلك أن ثورة يوليو عدت القارة السمراء إحدى دوائر تحركها وفعلها، عدا عن كونها عمقها وأمانها.
منذ قيامها اعتبرت ثورة يوليو الاستقلال، بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والثقافية، أحد أهدافها الرئيسة، وأحد ركائز مشروعها، وطيلة سنواتها خاضت معاركها شرقًا وغربًا دفاعًا عن قرارها وكرامتها وسيادتها وأمنها، فشلت ونجحت، انتصرت وانكسرت، وكل ذلك تقديرًا من قيادتها لأهمية مصر ومكانتها ودورها التاريخي، الذي أعاد اكتشافه جمال عبد الناصر بحسب جمال حمدان المشار إليه آنفًا، وهو ما يغيب اليوم، وغاب عن كل من حكموها بعد عبد الناصر، ونفتقده من الكنانة، ليس على مستوى كيانها وداخل حدودها، بل على مستوى الدائرتين العربية والاسلامية، وهي التي شكلت على الدوام قاطرة المنطقة في صعودها وهبوطها، مايجعلنا نقف مع دلالاتها الكبرى ونسترشد بها، في واقع مصر وأمتنا العربية.
مصر، اليوم، التي تمر بأزمة كبرى وتختنق بمشاكلها الداخلية، ومهددة في حاضرها كما مستقبلها، تجعلنا نستذكر هذه الثورة ونقف مع إنجازاتها العظيمة وإخفاقاتها الكبيرة، بالنظر إلى الفراغ الذي أحدثه التراجع عن سياساتها ومشروعها النهضوي التحرري المستقل.
إن انحيازنا لثورة يوليو ليس انحيازًا عاطفيًا، إنه إيمان بما مثلته من قيم عليا وسامية، وما حاولت تجسيده من مشروع طموح ومستقبلي في قضايا التحرر والوحدة والعدالة والديمقراطية والتقدم والتنمية والاستقلال والتجدد الحضاري، بغيابه تتبارى وتتصارع المشاريع الطامعة
بالمنطقة، في محاولة لاحتلال الفراغ الذي أحدثه غيابها، وتراجعها عن القيام بواجباتها ومسؤولياتها.
ولايحتاج الأمر لجهد خارق لاكتشاف الفوارق الكبرى في التعاطي مع ملفات المنطقة وتحدياتها في ظل التغول عليها من مشاريع مختلفة أهمها، اليوم، الإيراني بمخالبه الطائفية والمذهبية، في ظل حالة البؤس السياسي لرجالات المرحلة وزعاماتها الصغيرة والضحلة، على مستويات الخطاب والتعاطي والأداء.
ليس لعاقل منصف حتى لو اختلف مع ثورة يوليو وقائدها إلا أن يقول لو أن هذه الثورة استمرت بشخص قائدها، أو نهجه، لما حل بمصر وأمتنا كل هذا الخراب، ولقد قال ذلك بعض السوريين، في ظل كارثتنا الكبرى وتكالب كل شذاد الآفاق علينا، ممن اختلفوا مع عبد الناصر، حيًا وميتًا، بتوجهاته ونهجه، ولم يكونوا يومًا من المدافعين عنه، أو من أنصاره، قناعة منهم أن للمنطقة ثوابتها القومية التي لا يجوز المس بها، وللشعوب حرماتها التي لايجوز التعدي عليها، حفظتها وحمتها ثورة 23 يوليو/ تموز.
كان قبل السوريين بعض المصريين، من خصوم عبد الناصر، والذين ذاقوا حتى مرارات سجن دولته، قد قالوا شيئا شبيهًا بذلك أمام حالات الانفتاح الاقتصادي والخراب المعمم الذي نهش مصر وزلزل بنيانها الاجتماعي وسار بها إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني وما ألحقه ذلك بها من هزائم ذاتية.
مابينهما، أي مابين السوريين والمصريين، قال الفلسطينيون واليمنيون واللبنانيون والعراقيون، وكل شعوب المنطقة التي منيت بالخيبات وتعرضت لكوارث موجعة، وأحست باليتم والاستفراد بها، والتغول عليها، شيئًا شبيها من ذلك إحساسًا بالفراغ والغياب الذي أحدثته.
نحن نؤمن بأن ثورة يوليو هي ثورة المستقبل بأبعادها ومضامينها، وقد قلنا ذلك من قبل ونؤكد عليه اليوم، غير غافلين عن جوانب القصور والخلل في ممارساتها وبعيدًا عن القداسة لشخص زعيمها.
بالعودة إلى الإسقاطات على واقعنا التي أردناها نموذجًا فالتعاطي مع مسألة سد النهضة وغيرها من القضايا وثيقة الصلة بالاستقلال ومعانيه، والأمن القومي ومقتضياته توصلنا إلى ذات النتائج والخلاصات، سواء كان ذلك في قضايا التنمية الشاملة والمستدامة، أو قضايا التحرر من الهيمنة العالمية التي تمسك برقاب الشعوب الضعيفة، في ظل العولمة والقطبية الأحادية، أو غيرها من القضايا الحيوية والاستراتيجية.
وفق منطق التاريخ وحركته الصاعدة يختم ميشيل كيلو الغائب الحاضر مقاله المشار إليه بجملة قصيرة ومعبرة: “إنها وعدنا الآتي” وهي حقًا كذلك متى أردنا النهوض من كبوتنا، واستعادة دورنا، وانتزاع حريتنا.