الشعب التركي ينتصر لماذا.؟. وكيف.؟

أحمد العربي

في الذكرى الخامسة لاسقاط المحاولة الانقلابية التي قام بها تنظيم غولن في تركيا بتاريخ ١٥ تموز/يوليو عام ٢٠١٦م، وانتصار الشعب التركي وديمقراطيته. أعيد نشر نص كتبته بعد مضي أيام على المحاولة تلك، وأراه مازال راهنًا.

اولا. إن المتتبع للشأن التركي يعرف ان محاولة الانقلاب التي حصلت كانت محتملة كثيرا… فتركيا في عهد حزب العدالة والتنمية أخذت منحىً استراتيجيا مختلفا عن مسار الحكومات السابقة. مما أدى إلى تغيير مواقف دول اقليمية ودولية منها. فتركيا التفتت الى عمقها الإسلامي، سواء بالوقوف الى جوار القضايا العادلة لها ،بدءً من القضية الفلسطينية، الى العمق العربي بكل متغيراته، الى العمق الأفريقي كدول مهملة وواعدة. عدا عن نهضتها الاقتصادية. وتحولها الى عملاق اقتصادي صاعد له امتداده في كل مكان.

.ثانيا. تركيا تحولت لدولة لها مصالحها العليا. ولم تعد مجرد تابع لسياسات أمريكا وحلف الناتو. فها هي تتخذ موقفا من الاحتلال الأمريكي للعراق. وتمنع القوات الأمريكية من الاستفادة من مجالها الجوي والبري. وتتخذ موقفا منددا من للاعتداءات (الاسرائيلية) المتكررة على لبنان وغزة. وتتوج موقفها بحملة السفن التي تريد فك الحصار عن غزة. متحدية كل دول العالم تقريبا.

.ثالثا. تركيا التي قدمت نموذجا اسلاميا ديمقراطيا. تأقلم بها حزب العدالة والتنمية. مع علمانية الدولة. ومع تنوع احزابها وعقائدهم. ومع التنوع المجتمعي من إثني إلى مذهبي  وديني. وكان النموذج الذي نجح منذ استلامه للسلطة عام 2002 م إلى الآن. والذي تزداد شعبيته مع الزمن، ويصبح رافعة التقدم الاجتماعي. وضمانة الاستقرار ومواجهة جميع التحديات الداخلية. من ارهابيي ال ب ك ك حزب العمال الكردستاني، الى داعش ، الى الكيان الموازي جماعة غولن. الى التحديات الخارجية. بدءً من الحالة في سورية والعراق، كدول يراد تفتيتها وتحولها لبؤرة خطر وضرر في خاصرة تركيا وفي عمقها؛ خاصة عبر القضية الكردية ودعم أمريكا لل ب ي د فرع حزب العمال الكردستاني في سورية، كذلك امتداد داعش الارهابي. الى تغول روسيا وتحولها إلى دولة تتصرف بعنجهية استعمارية. كذلك إيران وتحولها الى راعية للإرهاب وموسعة نفوذها في المنطقة. سواء في دعمها للحكم الاستبدادي في سورية والعراق. ورعاية المجموعات الارهابية الطائفية. بدء من حزب الله اللبناني والمجموعات الطائفية في اغلب الدول العربية وخاصة الخليجية. الى المرتزقة الأفغان وغيرهم. وتأثير ذلك على تركيا وجعلها ضحية استقطاب يؤدي إلى الصراع على حدودها ويصل إلى عمقها. عبر المكونات الطائفية فيها. وخاصة العلويين المتسترين بالعلمانية والمنتمين للمعارضة، الذين يرى بعضهم بنظام الأسد الاستبدادي نموذجهم المحتذى.

.رابعا. الموقف الأمريكي والغربي عموما و(الاسرائيلي). من الربيع العربي الذي وجدوه خطرا استراتيجيا على مصالحهم في المنطقة. حيث رعوا حالة الصراع البيني في بلاد ربيعنا العربي. مما أدى لإجهاضها وعودة بلداننا إلى أسوأ مما كانت عليه، في ليبيا في حرب أهلية مدعومة إقليميا ودوليا، في طريقها إلى الحل، ولكن بصعوبة. وكذلك اليمن التي دخلت استقطابات دولية بين دول الخليج وإيران، وهناك حرب ممتدة وازمة حياتية على كل المستويات. اما مصر فقد عاد استبداد الجيش لأسوأ مما كان. و معمدا بدم الشعب المصري. واما سورية فقد تركت لتكون مقتلة للشعب السوري. وبؤرة صراع دولي واقليمي مستمر، تُركت روسيا تعود لواجهة القوى الفاعلة دوليا فيها. وأعيد تأهيل ايران بعد ان تنازلت عن مشروعها النووي. وتركت تعمل لخلق امتداد استراتيجي لها. عبر دعمها لحزب الله والنظامين المستبدين في سورية والعراق. وعبر قتل الشعبين وتشريدهم وتدمير بلادهم. كل ذلك كان برعاية امريكية حسب نظرية ادارة الأزمات وليس حلها. ومنع كل الأطراف من النصر أو الانهزام.  كل ذلك وانعكاسه السلبي على دول وشعوب المنطقة. ومنها تركيا. التي تأثرت اقتصاديا وسياسيا. فعادت مشكلة حزب العمال الكردستاني الـ ب ك ك للواجهة. رغم أنها كانت في طريق الحل. وكذلك امتداد داعش وفكرها لبعض الأوساط التركية. كل ذلك وضع تركيا واستقرارها في قلب الحالة. مما جعل الحكومة التركية تتخذ المواقف التي تراها لمصلحة تركيا وشعبها. سواء لدعم الثورة السورية. او دعم الشرعية المصرية ورفض الانقلاب في ذلك الوقت. او رفض الصمت عن النظام السوري وجرائمه. ومحاربة الأكراد الانفصاليين في تركيا وسورية. كل ذلك يتناقض مع السياسة الأمريكية والروسية. مع ظهور بوادر الصراع مع روسيا. خاصة بعد إسقاط طائرتها. و توتر العلاقات معها ووصولها لاحتمال الصراع المسلح. الذي تم معالجته بعد ذلك وحصل توافق إقليمي بين روسيا وتركيا وإيران في الملف السوري.

.خامسا. كل ذلك خارجيا بالنسبة لتركيا. اما داخليا. فتركيا تمور في تغيرات عميقة. عودة الشعب التركي لهويته الإسلامية الحضارية الديمقراطية. لم يعجب أعداءها. وحاولت عبر قنوات تأثيرها في الداخل التركي. فعادت تنفخ في نار ال ب ك ك كحزب إرهابي انفصالي يعمل لتقسيم تركيا. وعملياته الإرهابية ضد المواطنين الأتراك. وما خلق من بلبله داخليه. وكذلك التأثير المباشر لداعش التي صنعت في ظروف الصراع ومظلوميته في منطقتنا وتأثيره وامتداده داخل تركيا. فحاربهم الاتراك. وقامت هي في أعمال ارهابية كبيرة ضد تركيا وشعبها. وكذلك الكيان الموازي ببنيته المتأصله عميقا في الواقع التركي. فهو يلبس لبوس الدين الاسلامي. ويتغلغل عبر التعليم والجامعات والجمعيات الخيرية ويمتد سريّا بمفاصل الدولة من الجيش للقضاء للإعلام للشرطة للأمن الخ، منتظرا فرصته ليستولي على السلطة بأي وسيلة كانت. وكان شهر عسله قد انتهى مع حزب العدالة والتنمية. عندما ظهر أنه مجرد واجهة لمصالح غربية أمريكية في تركيا. وان الأسلمة والتدين والخدمة الاجتماعية، التي يدعيها، مجرد ستار يخفي به حقيقته كتابع وانتهازي وعميل للغرب. وخاصة أن اختلاف الكيان الموازي مع حزب العدالة والتنمية ومع حكومته التركية. كان على مواقفها من (اسرائيل) و أمريكا والربيع العربي. وتغيير الدستور. وتحجيم الجيش وإعطائه دورة الصحيح؛ حام للوطن، وليس وصيا على الشعب والدولة التركية. كل ذلك جعل الكيان الموازي كيانا سريا معاديا كامنا يخطط ضد الدولة والحكومة التركية. واعتبرته الحكومة التركية اخطر عدو متغلغل في الدولة والمجتمع التركي، وينتظر فرصته ليصل للسلطة ويعيد تركيا لتكون تابعة واداة للغرب وامريكا وعلى حساب الشعب التركي وتركيا كدوله.

.سادسا. تحالف أعداء تركيا ضد حكومتها ورئيسها أردوغان بصفته رمزا شعبيا ورئيسا منتخبا وقائدا تاريخيا. تحالف أعداؤها الخارجيين والداخليين. أمريكا تدعي أنها حليفة، لكنها تتصرف عكس ذلك . ففي الازمة مع روسيا وقفت امريكا وحلف الناتو موقفا سلبيا من تركيا، وتركت تركيا لمصيرها، وكذلك من خلال الدعم السري لل ب ك ك، والعلني لانفصالي سورية الأكراد ال ب ي د فرع ال ب ك ك في سورية. وكذلك في النفخ الاعلامي المسيء لأردوغان وحكومته. واتهامه بإعادة تركيا للمرحلة العثمانية. وأنه يحارب العلمنة في تركيا.. الخ. كل ذلك كان يتقاطع مع الدس في مؤسسة الجيش التركي عبر الكيان الموازي بشكل أساسي. فالجيش التركي وبالدستور الذي كتبه انقلابيون سابقون، له صلاحيات واسعة بالسلطة على الدولة والمجتمع. تصل لدرجة الهيمنة المطلقة. على اساس انه راعي و حامي العلمانية التركية. يضاف إلى ذلك تحوله إلى طبقة من المتنفذين وإلى شبكة من المصالح الداخلية المتقاطعة مع أمريكا والدول الغربية. والذي كان له تاريخا من الانقلابات التي تحاصر حركة الشعب التركي وحكوماته المتعاقبة. وكان تدخله دوما ضد الشعب ومصلحته، وضد العملية الديمقراطية.  كان مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم ورصده لحال الجيش غير الصحيحة وغير الديمقراطية والضارة بمصلحة تركيا وشعبها. فعمل على بناء دستور ديمقراطي جديد. يتجاوز سلبيات الدستور السابق. ومنها إعادة الجيش لحجمه الطبيعي. ودوره الوطني كحامي للدولة التركية وشعبها. وعملت حكومة العدالة والتنمية على موضوع الجيش بتؤدة وصبر لتتمكن من الوصول للمطلوب. لكن مصالح بعض قياداته التابعة للكيان الموازي. والتابعه للمصالح الغربية وعلى رأسها أمريكا. كانت تنتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على الحكم. وصناعة انقلاب وتثبيت حضور الجيش ومصلحته. ومصلحة رعاته الدوليين ولو على حساب الشعب التركي. وكانت تنتظر الفرصة المناسبة.

.سابعا. كانت القوى الدولية راعية الكيان الموازي وداعمة الارهابيين ال ب ك ك. تعتمد على تصيد أخطاء حكومة العدالة والتنمية. لاسقاطه داخليا، لكنها لم تستطع، فأغلب الشعب التركي وجد ذاته ومصالحه مع حزب العدالة والتنمية وحكوماته المتعاقبة. فكان في كل دورة انتخابية جديدة يحظى بالتأييد الأكبر. وتوج ذلك بانتخاب رمز الحزب ومؤسسه اردوغان رئيسا للدولة التركية. بالاقتراع المباشر ومن اول مرة بنسبة تزيد على النصف في مواجهة منافسيه. وكانت ترصد مواقف الحكومة الخارجية واحراجها سواء بالصراع مع ال ب ك ك أو داعش، أو بدفعها للتورط في المشكلة السورية او العراقية. أو صراع مفتوح مع روسيا بعد إسقاط الطائرة. لكن كل ذلك لم يحصل. الحكومة التركية استطاعت أن تحافظ على مصلحة تركيا ولم تتورط. واستمرت بمواقفها المبدئية داعمة للثورة السورية. وضد الانقلاب في مصر. ورافضة التطبيع مع (اسرائيل) في ذلك الوقت بعد الاعتداء على سفينة مرمرة التي ذهبت لتمنع الحصار عن غزة وهاجمها الجيش (الاسرائيلي) وسقط فيها شهداء أتراك. وفي مواجهة روسيا وسياستها. ومتحالفة مع السعودية (وقتها) وقطر ضد التمدد الايراني و داعمة للثورة السورية بشكل أساسي. وواقفة في وجه السياسة الأمريكية وفاضحة لها. وكان لاعادة تدوير الزوايا وحل المشاكل العالقة مع كل من روسيا و(اسرائيل). عبر سياسة المسير لنصف الطريق. جعل تركيا وحكومتها تتجاوز مشاكلها الدوليه والاقليميه. وتستدير لترسيخ وضعها الداخلي وتدعم وضعها الخارجي. كل ذلك جعل القوى المتربصة بتركيا دولة وشعبا لتحريك ادواتها داخل تركيا. عبر محاولة الانقلاب الفاشلة.

.ثامنا. الجيش التركي جيش كبير فهو الأكبر اوربيا. وله عراقته وكارزميته عند الشعب التركي. وهو بالدستور يمثل حاميا للدولة التركية و علمانيتها. فهو فوق الدستور وفوق السلطات الشرعية. وهو عبر عشرات السنين شكل طبقة مصالح داخلية وخارجية. مرتبطة بشكل أساسي مع أمريكا والغرب وحلف الناتو. وقد قام بانقلابات عدّه. في مواجهة الحكومات الشرعية الديمقراطية، وكان في بعضها دموي. وهو منذ تسلم حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا يترصد أي متغير. وكانت حكومات العدالة والتنمية تتعامل معه بحذر وصبر. وتسعى لتغيير بنيته الداخلية. وتعديل الدستور لتنزع عنه صفته الفوق دستورية وأنه فوق الدولة والمجتمع. وكان الجيش وغيره من دوائر الدولة مخترقا من الكيان الموازي، و يتحين الفرص ليقوم بانقلابه وينهي حكومة العدالة والتنمية ويسقط الرئيس أردوغان. وعندما استطاعت الحكومة ان تعيد صياغة مواقفها الاقليمية والدولية. خاصة مع روسيا و(اسرائيل). كانت هناك ضرورة للقيام بالانقلاب، يخدم المصالح الغربية، مستغلة ادعاء انها تحمي العلمانية والديمقراطية. وسرعان ما تحرك بعض الجيش، الذي لم تستطع حكومة أردوغان تطويعه كله. وهذا ساعد على إفشال المحاولة لاحقا. وركزوا على بعض مفاصل الدولة والبرلمان وأركان الجيش وجسور اسطنبول و ساحة تقسيم ومراكز المخابرات والامنيات والتلفزيون الرسمي والمطار.. الخ. ولكنهم لم يستطيعوا الوصول إلى الرئيس اردوغان او احد من الحكومة. وعجزوا أن ينتزعوا من رئيس الأركان بيانا باسم الجيش ضد الحكومة والرئاسة. وسرعان ما تم استيعاب الموقف. وتصرفت الحكومه والرئيس أردوغان بسرعة وأعادوا الموضوع للشعب صاحب البلد وحامي الديمقراطية. الذي نزل للشارع وواجه الانقلابيين. يدا بيد مع قوات الأمن والشرطة. مما جعل الانقلابيين ينهزمون بعد ساعات من بداية الانقلاب. القوات المسلحة المنقلبة تستسلم، و الضباط المتآمرين يهربوا. و الطائرات المعتدية يسقط بعضها ويلقى القبض على الطيارين الباقين. لقد ساعد في اسقاط الانقلاب تكامل أدوار الشعب مع قواه السياسية. فكل أحزاب تركيا رفضت الانقلاب ونزلت الى الشارع. والبرلمان توحّد مجموعه لأول مرة ضد الانقلاب. وفي لحظة تاريخية فارقة سقطت قوة كبيرة متآمرة على تركيا أمام قوة الشعب التركي وحكومته وأمنه وشرطته وأحزابه. ومع الشرفاء من جيشه. والآن هناك آلاف من المتورطين بيد العدالة وفي كل القطاعات. وهاهي تركيا تنفض عنها أمراضها. و تستأصل أعدائها الداخليين في لحظة حقيقة تاريخية.

.تاسعا: تركيا تعيد إنتاج ديمقراطيتها وقوتها ومنعتها من جديد، مستندة لشرعية الشعب وحكومته المنتخبة وبرلمانه ورئيسه الشرعي. وتنظف تركيا من أدرانها. وهناك من يقول إن أردوغان وحكومة العدالة والتنمية استغلت الفرصة حتى تصفي خصومها. وهو ادّعاء كاذب وللاستخدام السياسي. فمن يعتقل ومن يبعد عن مركزه الوظيفي. ومن يحاسب ويحاكم فله ارتباط ما سواء بالكيان الموازي أو بالانقلاب. كل ذلك لن يثني تركيا عن استعادة عافيتها. فالضربة التي لاتكسر الظهر تقويه.

.اخيرا: ونحن في الثورة السورية وخاصة الشعب السوري وملايينه التي تعيش في كنف تركيا، كنا نرى بالانقلاب ضربة قاصمة لظهر ثورتنا و تواجدنا في تركيا. وينعكس بالمباشر على شعبنا اللاجئ اليها، وبالتالي كان انتصار الشرعية التركية ورمزها الشعب التركي والرئيس أردوغان انتصارا لثورتنا ولشعبنا. وان ظهرنا التركي ما زال قويا، وما زلنا نستمد منه العون والصلابة والاصرار على ثورتنا وانتصار شعبنا وتقدمنا نحو إسقاط الاستبداد والارهاب الداعشي وتحرير سورية من كل الاحتلالات. واسقاط المحاولات الانفصالية لـ ب ك ك وبناء دولتنا الوطنية الديمقراطية. دولة الحرية والكرامة والعدالة والحياة الأفضل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى