في الذكرى العاشرة لاغتيال المنشد السوري، إبراهيم القاشوش، والذي اقتلع زبانية النظام حنجرته تغليظاً بالعقاب لمن تحدّى الطاغية بصوته، تبقى الحاجة مستمرة لمراجعة أسباب فشل الثورة.
المسؤوليات عديدة، على مستوى سوريا، والمنطقة، والعالم. السوريون الذين انتفضوا، وجميعهم نشأ تحت قمع نظام قاتل لا اعتبار لديه لحقوقهم إلا بقدر خدمتها لأغراضه، لم يكونوا مستعدين موضوعياً لمواجهة آلة الطغيان المتحكمة بهم وببلادهم. ولكنهم فعلوا بناءً على وعد ظنّ جيل العولمة منهم أنه قد حصل عليه، وهو أن العالم سوف ينصر أصحاب الحق، ليتبين أن الظنّ كان وهماً.
النظام ومن سانده قالوا إنها مؤامرة كونية. ليتها كانت. ليت من قاتلهم خَدَمة النظام والمنتصرون له بأمر الولي الفقيه، ومن بعدهم الروس، كانوا على تنسيق وانسجام وتوافق مع إسرائيل والولايات المتحدة وغيرها. لربما، لو أن العالم، بما فيه إسرائيل هذه والولايات المتحدة تلك، قد مدّوا اليد لأصحاب القضية المحقّة في سوريا، لكان مئات الألوف لا يزالوان اليوم بين أحبائهم، ولكانت سوريا قد انتصرت على مسلسل الموت، لتتبوأ المكانة الرفيعة التي تستحقها في المنطقة والعالم.
ولكن العالم خذل أحرار سوريا وأهملهم. بل الأسوأ أن من أراد أن يتدخل فعل ذلك من باب المزاحمة والنكاية والمزايدة حيناً، كما كان حال بعض دول الخليج وتركيا، ومن باب رفع العتب وزعم الفضل أحياناً، كما فعل باراك أوباما الرئيس الأميركي الأسبق. فكانت حصيلة التدخلات المتضاربة فساداً وإفساداً وقتلاً واقتتالاً، استفاد منها محور “المقاومة”، إيران ومن والاها، دون أن يتمكن من الغلبة، إلى أن جاءت روسيا، فانتصرت في سوريا، وانتصرت من سوريا.
من تحصيل الحاصل القول إن الثورة السورية قد انتهت، بمعنى أنها لم تسقط النظام، ولن تسقطه. من سوف يسقطه ليس هذه الثورة، وليس في الغد المنظور. النظام لم ينتصر، ولكنه تمكن من النجاة. في عرفه وتقييمه، هذا هو الانتصار. أن يدمّر البلد، لا بأس، شرط أن يبقى رأس النظام في موقعه يتمنطق بما لا يفقه. أن يقتل مئات الآلاف ويرحل نصف أهل البلد، فليكن. على أن يصطّف من بقي حياً يهتف ويصفّق للابن كما هتف وصفّق للأب، في استذلال جلي، مؤسف إن كان إكراهاً، وملوّع إن كان طوعاً.
الولايات المتحدة أخطأت بحقّ سوريا، تركاً ثم فعلاً، وبقي اهتمامها بالشأن السوري عَرَضياً على الدوام، سطحياً في العديد من الأحيان، استدراكياً استلحاقياً ارتجالياً بطبيعته، ولم يرتقِ يوماً إلى مستوى الرؤية المتكاملة التي تتيح رسم سياسة ثابتة واضحة فاعلة، خلافاً لمزاعم من يتمسك باستشفاف بصمات للولايات المتحدة ومخطط لها ومؤامرة ترعاها في كل حدث.
الخطأ ابتدأ مع استسهال الرئيس الأسبق أوباما سقوط النظام، وإسراعه، من باب اللحاق بالركب دون فعل ودون مساهمة، بمطالبة رأس النظام بالرحيل. لم يكن باراك أوباما مختلفاً عن خلفه دونالد ترامب في عدم التعويل على رأي الخبراء في الملفات الحساسة، فهذا وذاك، وكلاهما وصل إلى الرئاسة مفتقداً للتجربة السياسية التنفيذية، كان على قناعة بقدرته على اجتراح المواقف القيادية من بنات أفكاره عند الضرورة. وهذا وذاك لم يرَ في سوريا أولوية.
توصيف أوباما للحالة السورية كان أنها تتطلب استثماراً كبيراً وليس من شأنها أن تأتي إلا بعائدات صغيرة، أي أنها لا تستحق الاندفاع بشأنها. وعلى ذمة الناقل، يُروى أن أوباما كثيراً ما كان ينشغل بهاتفه الجوّال خلال اجتماعات البيت الأبيض ساعة يصل الموضوع إلى الشأن السوري.
على أي حال، فإن أوباما رضي بتخصيص أرصدة لمساهمة للولايات المتحدة، إنسانية وتأهيلية لا قتالية ابتداءً، بما هو أقل بكثير من تقييم الخبراء للحاجة، انطلاقاً من قراراه بأنه، لمواجهة الدعم الإيراني والروسي للنظام، فلتأتِ المساهمة من الحلفاء والشركاء، وليتوقف التعويل على الولايات المتحدة كالمصدر الأوحد.
وفي المراجعات الدورية التالية، تشكّلت لازمة كرّرها الرجل باطمئنان “بالفعل، لربما كان من الأجدى في المرحلة الماضية أن تكون المخصصات أكبر والانخراط أوضح، إلا أن الأوان قد فات الآن. نوافق على بعض الرفع للدعم، بما في ذلك بعض التدريب للمقاتلين، إنما بأقدار أقل بكثير من التي يقترحها الخبراء”، فكانت المشاركة الأميركية في “دعم” الثورة السورية منقوصة، عقيمة، عاجزة عن أن تأتي بالنتائج.
على أن خطيئة أوباما، والتي كشفت للصف الداعم للنظام وللعالم أجمع أنه لا اعتبار لكلامه، فقد كانت أداءه المعيب بعد ارتكاب النظام لجريمة استعمال السلاح الكيماوي بحق المواطنين السوريين. يذكر هنا أن أوباما، ومن باب التنصل من مسؤولية التدخل بعد ارتفاع وتيرة القمع والقتل من جانب النظام بحق المتظاهرين والمدنيين، بما في ذلك المذابح الترويعية، كان قد رسم خطاً أحمر، وربما هو على اطمئنان بأن النظام لن يقطعه، إذ لن يحتاج إلى قطعه، وهو تحذيره من أن استعمال سلاح التدمير الشامل، الكيماوي تحديداً، هو ما سوف يدفع الولايات المتحدة إلى التدخل العسكري.
ولكن النظام، والعاجز يومئذٍ رغم تكثيفه القتل والتعذيب والتنكيل، عن استعادة هيبته وسلطته، فعلها. وأمام مشهد جثث الأطفال المصطفة بالعشرات، أتحف باراك أوباما العالم بخطبة رنانة حول “الاستثنائية الأميركية” والتي تستوجب الرد على هذا التجاوز الفاضح لحقوق الإنسان، قبل أن يعلن الانتصار، الكاذب المنافق الفارغ، ساعة توسطت روسيا لإقناع النظام بالتخلي عن مخزونه من السلاح الكيماوي، بما تنتفي معه الحاجة إلى الرد.
رضي القاتل بتسليم أداة القتل، فتحققت العدالة. لا عقاب، ولا عواقب، بل تقدير من ذاك الحائز على جائزة نوبل للسلام، للفعل الراشد للنظام القاتل.
أما “الشركاء والحلفاء” فقد نشطوا بالفعل في دعم الثورة، ليس دون رؤية موحّدة وحسب، بل وفق رؤى قاصرة متضاربة منشغلة بالخصومات المتبادلة، وإن أدّى الأمر إلى تحبيذ الطروحات الجهادية وتعميق تطفلها على الثورة، وصولاً إلى أن تنقلها إلى مكان آخر، تقطع فيه الأيادي وتضرب الأعناق ويرمى الناس من الشواهق.
الصف العالمي المؤيد للثورة كان واسعاً شاسعاً ذا إمكانيات فائقة. موارد الجهات الداعمة للنظام، روسيا وإيران تحديداً، كانت أقل بكثير. على أن التنسيق واتضاح الرؤية لدى هذه أتاح لها التعويض عن انعدام التكافؤ في الطاقات، ودفعها باتجاه الإنجاز.
يشهد لنظام دمشق أن له ماضٍ عريق بممارسة أصناف القمع والأذى بما فيها بتوظيف الخصوم لأغراضه. لا حاجة لافتراض تواطئه مع تنظيم القاعدة، والذي اعتمد سوريا معبراً إلى العراق لإرباك الغزو الأميركي بعيد سقوط بغداد عام ٢٠٠٣، أو إلى تنسيق مباشر له مع “فتح الإسلام”، والتي أطلق سراح قائدها بعد أعوام ليلتحق بجماعته في مخيم نهر البارد في الشمال اللبناني ويهدد الاستقرار والأمن في مواقع وجد نظام دمشق نفسه مرغماً على الخروج منها قبلها بعامين. في الحالتين، والكثير غيرهما، تمرّس النظام بفن إتاحة المجال لجهات تضمر له كل الشرّ لتحقق أهدافاً لها منسجمة مع ما يريده.
بل أن خطة النظام لمواجهة الثورة، وليس عرض الخطة هنا من باب الاستقراء وحسب بل جاء الإفصاح عنها على لسان أحد أهم المنظّرين له، كانت بأولوية استهداف المعارضة المدنية السلمية الناشطة بالمظاهرات والعمل الاجتماعي السياسي، من التنسيقيات والشخصيات المستقلة ذات التوجهات المنفتحة، اختراقها، تشتيتها، التنكيل بها، قتلها، وصولاً إلى انتفاء دورها، ثم العمل على هزيمة القوى المسلحة ذات التوجه الوطني الصريح، من المنشقين عن الجيش والملتحقين بهم، ومن بعدهم التركيز على المجموعات ذات الصبغة الإسلامية غير المتشددة. أما الجماعات الجهادية ذات الرؤية العالمية، وصولاً إلى تنظيم “الدولة الإسلامية” برغباته الإبادية، فمصلحة النظام كانت تقتضي ترك مواجهتها للدول الخارجية التي تخشاها.
وبالفعل، إزاء تمدد “الدولة الإسلامية” ميدانياً، ما جعل منها “خلافة” تحضّر للملاحم ولفتح “رومية”، وتخيير الكفار كافة بين الإسلام والجزية والسيف، وانتقالها من منهج الفتوحات إلى منهج الغزوات في بلاد الكفر، ذبحاً ودهساً وشناعة، اضطر باراك أوباما إلى الخروج من تلكئه، والدخول الجزئي في المعترك السوري، وإن بارتجال شراكات مع الطرف القادر محلياً على أن يقوم مقام الجنود الأميركيين، فيقيهم وقوع الضحايا في صفوفهم، مجدداً دون اعتبار للنتائج العرضية المتعلقة بالسلم الأهلي والاجتماعي.
غياب الرؤية لحل في سوريا لدى أوباما تلتها غياب رؤية لدى دونالد ترامب. ارتجالات أوباما وهفواته واستعراضاته تلتها ارتجالات وهفوات واستعراضات لترامب. التفريط بعواقب الحرب في سوريا من جانب أوباما استمر أيضاً من ترامب.
قيام “الدولة الإسلامية” كان بفعل عوامل عدة، بما فيها أولويات المواجهة الميدانية التي اعتمدها النظام، وبما فيها إهمال الولايات المتحدة. أي أن الولايات المتحدة كانت قادرة على إخماد هذه النار عند شراراتها الأولى، وفي الولايات المتحدة من نبّه وحذّر، دون جدوى. فالاعتبارات الآنية هي الحاسمة.
الكارثة الإنسانية التي ألمّت بالمواطنين السوريين لم تبلغ الوعي الاجتماعي في الولايات المتحدة. ولكن نزوح السوريين بلغ أوروبا وساهم في صعود اليمين، بأصداء بلغت الولايات المتحدة ولا تزال تتفاقم.
كان في التحدي الغنائي الذي صدح به إبراهيم القاشوش في مواجهة نظام الطغيان فعل تحرر من الخوف، من التبجيل الكاذب، من الاستذلال. طافت سوريا بأكملها بأغنيات إبراهيم، والتي استعارت ألحان الغناء الشعبي، وطاف معها العالم العربي من كويته إلى مغربه.
بعد أسابيع قليلة من اغتيال القاشوش، جلس رأس النظام لمقابلة صحفية أريد لها تلميع صورته المتردية. سألته الصحافية عن القاشوش. أجاب، كاذباً، بأنه لا يعلم من هو، وليس على اطلاع على قضيته، بل ربما أن موته قد يكون عائداً إلى اقتتال داخلي في صفوف المعارضين.
بعد أعوام من البراميل المتفجرة، المنخفضة الكلفة بما يستدعي التهنئة لهذا الإنجاز الفني، والتي استهدفت المراكز الطبية والأسواق التجارية المكتظة وكل مرافق الحياة العادية لإقناع سكان المناطق خارج سيطرة النظام بحتمية العودة إلى قبضته، وبعد فصول متكررة من الهجمات الكيماوية، لتذكير القاصي والداني بأن النظام يفعل ما يشاء ولا يخشى أحد، والأهم، بعد تدخل ميداني واسع النطاق لروسيا، جنت منه روسيا العودة إلى موقع التأثير العالمي الكبير، انتهت فعلياً المواجهة الداخلية التي ابتدأت ثورة حق لتمسي حرباً عالمية.
للولايات المتحدة اليوم رئيس مختلف، قد أقرّ للتوّ بفشل بلاده وهزيمتها في أفغانستان، بعد عشرين عاماً من محاولة إقامة نظام موالٍ للغرب منسجم مع قيمه. ربما أن في انسحاب جو بايدن من أفغانستان قدراً من الواقعية، وقدراً من المجازفة المطلوبة من موقع القيادة والتي يقتضيها الإبهام في المعطيات.
الإقرار الآخر المطلوب من بايدن قد يكون بأن الولايات المتحدة لم تولِ الشأن السوري ما يستحقه، ونتائج هذا الإهمال كانت كارثية لسوريا والعالم. إصرار إدارة بايدن على قانون قيصر، أضعف الإيمان في معاقبة النظام، وتحذيرها الدول من مغبة التطبيع مع النظام القاتل خطوات تنبئ ببعض الخير. عسى أن تؤسس لرؤية. طابت ذكرى إبراهيم القاشوش.
المصدر: الحرة. نت