فشل ملتقى الحوار السياسي الليبي في التوصل إلى اتفاقٍ بشأن القاعدة الدستورية التي ستجري على أساسها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل. ولم يكن مفاجئا أن لا يصل الفرقاء الليبيون إلى اتفاق حاسم، على الرغم من حرص الأمم راعية الحوار للخروج بنتيجة، وهو ما جعل منسق بعثتها إلى ليبيا رايزدون زينينغا يصرّح “فشلنا في التوصل إلى اتفاقٍ بشأن القاعدة الدستورية، وهذا لا يبشر بخير”، فالمشاركون في الحوار جاؤوا يحملون معهم أجنداتهم السياسية الجاهزة من أجل فرضها أمرا واقعا، ولم تكن هناك رغبة حقيقية في الوصول إلى توافقٍ من أجل مصلحة الشعب الليبي، وهو ما يعني تنازل جميع الأطراف عن الحد الأقصى من مطالبها، للوصول إلى الحد الأدنى الذي يرضي الجميع، ويفضي إلى الخروج من الأزمة السياسية التي تعاني منها البلاد منذ سنوات.
عندما تم الإعلان، في 16 مارس/ آذار الماضي، عن سلطة انتقالية تضم حكومة وحدة وطنية ومجلسا رئاسيا، بدا وكأن انفراجا سياسيا قد تحقق في المشهد الليبي، بما يسمح بالمرور من حالة الفوضى التي خلّفتها الحرب الأهلية للوصول إلى نظام سياسي مستقر، يحترم التعدد، ويعتمد النهج الديمقراطي أسلوبا لإدارة البلاد، وتم وضع سقف زمني للسلطة الانتقالية لا يزيد عن سنة، يتم فيها تنظيم الانتخابات، وتوحيد أجهزة السلطة المفكّكة، وإعادة بناء القوات العسكرية والأمنية، بالإضافة إلى إدارة الشأن العام وحل أزمات الكهرباء والتموين ومواجهة وباء كورونا المتصاعد. من الناحية النظرية، يبدو تنفيذ هذا كله أمرا سهلا، ولكن من حيث الحسابات الواقعية، فإن الكثير من هذه الأهداف يعسُر تحقيقها، وأمامها من العوائق ما يصعب على حكومة الوحدة الوطنية تذليلها.
من الواضح أن السلطة الانتقالية في ليبيا، على الرغم من أنها تحظى باعتراف دولي يمنحها شرعية الحكم وإصدار القرارات، إلا أنها واقعيا ما زالت في مواجهة مواقع نفوذ خارجة عن سيطرتها، بداية من وجود مليشيات قوية، تتصرف خارج إرادة الدولة، وليس انتهاء بانتحال بعض هذه المليشيات الصفة الرسمية، مثلما تفعل المجموعات التابعة لخليفة حفتر تحت مسمّى الجيش الوطني، وصل بها الحال إلى توتير العلاقات مع الدول المجاورة، والتصرّف برعونة في خطاب قادتها إزاء الجزائر وتونس، وهو بالتأكيد أمر يناقض توجهات حكومة الوحدة الوطنية. وإذا أضفنا إلى وجود المليشيات المنفلتة استمرار حضور المرتزقة، بمختلف انتماءاتهم الدولية، فهذا يؤشّر إلى حاجة الحكومة الليبية الحالية إلى مزيد من الوقت لحل المشكلات العالقة، على الأقل من أجل إجراء انتخاباتٍ نزيهة، فلا شيء يضمن سلامة المواطن الليبي في أثناء إدلائه بصوته في ظل سلاح المليشيات المصوّب إلى رؤوس الناخبين.
فشل أطراف الحوار الليبي في الاتفاق على القاعدة الدستورية لإجراء الانتخابات، وهذا مرجعه أساسا عدم الاتفاق على ترتيب الأولويات والقضايا، من أجل وضع التصميم المؤسسي للنظام الجديد. ومن هنا، حاول كل طرفٍ فرض تصوّره للمرحلة المقبلة، ليس من خلال التفكير في بناء مؤسساتٍ تستمر وتدوم لخدمة الشعب، وإنما من أجل تمكين أشخاصٍ معينين من الوصول إلى السلطة من دون أدنى ضماناتٍ قانونيةٍ في غياب الدستور المنظّم للحياة السياسية، وإلّا ما معنى إصرار بعض أطراف الحوار على حق ترشح العسكريين للانتخابات، من دون أن يستقيلوا من مناصبهم، أو التأكيد على حق مزدوجي الجنسية في الترشّح لمنصب الرئاسة. .. أليس هذا تمريرا معلنا لأجندة شخصٍ محدّد هو خليفة حفتر، المصرّ على صفته العسكرية المفترضة، وهو في الوقت نفسه يحمل الجنسية الأميركية. قد يكون هناك نوع من التفهّم للحرص الأممي على إنجاح الحوار وإجراء الانتخابات بأي ثمن، ولكن تمرير خياراتٍ دستوريةٍ معينةٍ لإجراء الانتخابات، قد يحمل معه ألغاما كثيرة، قد تنسف المسار برمّته، وهو بالتأكيد ما لا ترغب فيه المنظومة الأممية. ولهذا، سيكون من الخلل ترك ملفاتٍ كثيرة عالقة، والمسارعة إلى الانتخابات، لأنها ستكون محاطةً بعوامل فشل كثيرة.
الأكيد أن تواصل الحوار بين الفرقاء الليبيين سيكون أمرا جيدا، ويخدم العملية السياسية، غير أن ضبطها بوقت محدد أصبح ضاغطا على الجميع، وقد يهدّد أجواء الانفراج السياسي الحالية. ومن غير الممكن أن تكون الانتخابات في ذاتها حلا، وهي مجرّد ممارسة إجرائية إذا لم يسبقها قبول كل القوى الرئيسية بقواعد العملية الديمقراطية، وعدم وجود قوى فاعلة تعمل خارجها أو بغير أساليبها وأدواتها، وأن يكون هذا القبول عاما ولا يستثني أحدا. قد يبدو هذا الشرط صعبا لدى بعضهم، ولكن بناء نظام سياسي مستقر وقابل للبقاء أفضل من الاستعجال في نقل السلطة في وضعٍ متفجر، وهو ما يتطلّب مزيدا من التريّث، حتى وإن اقتضى الأمر مزيدا من التمديد لحكومة الوحدة الوطنية.
المصدر: العربي الجديد