أستانا ومفاوضات خفي حنين

يونس العيسى

رجع بخفي حنين، يعرف الجميع هذا المثل جيدا يذكرونه دائما عندما يذهب أحد إلى مكان ما ويعود كأنه لم يذهب من الأساس، هذا حال المعارضة السورية التي تذهب إلى أستانا وتعود منها ولسان حالها يردد المثل العربي “استحذيته فحذاني” أي طلبتُ منه حذاء فأعطاني.

مفاوضات أستانا منذ إطلاقها في بداية 2017، بين روسيا وإيران، أبرز حلفاء نظام الأسد، وتركيا الداعمة للمعارضة السورية إلى مصدر المفاوضات السياسية حيال الثورة السورية، التي ألقت الضوء على التقارب الروسي التركي بعد اختلاف طويل حول سوريا، كبديل قوي لمفاوضات جنيف، ومنذ أربع سنوات، عقدت 16 جولة من أستانا تبادلت فيها شخصيات المعارضة أدوار التمثيل، مع ثبات هيكل وفد نظام الأسد، والدول الضامنة الثلاث روسيا وإيران وتركيا.

وتولت تلك الدول الضامنة خوض المفاوضات بشكل أساسي من خلال الاتفاق على البنود في كل بيان ختامي يصدر في نهاية المفاوضات، ويطلب من طرفي النظام والمعارضة بتنفيذ ما يملى عليهم فقط.

تبادل الأسرى والمعتقلين

وقد أصبح متعارفا أن هذه المفاوضات يسبقها دائما تبادل للأسرى والمعتقلين، يبرر لروسيا قولها إن مسار أستانا أوجد آلية لمعالجة مشكلة الأسرى والمعتقلين، وأيضا تصعيد بالقصف من جانب روسيا وقوات الأسد على محافظة إدلب التي تتصدر منذ سنوات جدول محادثات الدول الضامنة والمعارضة ونظام الأسد، حتى أنها باتت الملف الأبرز في البيانات الختامية لمفاوضات أستانا، وفي الجلسة الأخيرة لأستانا وفد المعارضة السورية بالشراكة مع نظام الأسد وقع على إدانة قصف المواقع الإيرانية من قبل إسرائيل في سوريا، واعتبر الإرهاب المتواجد على الأراضي السورية عبارة عن تنظيمات الدولة الإسلامية والقاعدة وقسد دون ذكر الميليشيات الشيعية الطائفية العابرة للحدود ولا مرتزقة فاغنر الروسية، وكذلك استنكرت المعارضة ونظام الأسد مع الدول الضامنة الأنشطة الإرهابية التي تتسبب في سقوط ضحايا من المدنيين ولم دون ذكر الجهة!

وأعرب البيان عن ارتياحه للخطوات المتخذة لبناء الثقة وإيجاد مناخ لعودة اللاجئين.

هذا الكلام كله بحضور وفد المعارضة السورية الذي توسل من روسيا إبقاء معبر باب الهوى مفتوحا أمام المساعدات الإنسانية.

منذ سنوات والمعارضة السورية تفاوض نظام الأسد، وفي كل جولة من هذه المفاوضات، وخلال هذه الأعوام تخرج المعارضة السورية من تلك المفاوضات “بخفي حنين” بل إنها تخرج من النافذة ليدخل نظام الأسد من باب هذه المفاوضات لتحصيل مكاسب وزيادة رقعة سيطرته، ويستمر عدوانه وإرهابه على الشعب السوري وتهجير الآلاف وتدمير مساكنهم، ولم تتمكن المعارضة السورية من وقف القتل والإرهاب الذي يمارسه نظام الأسد، مما يؤكد أن هذه الأعوام من المفاوضات كانت عونا لنظام الأسد في المضي بسياسة الحديد والنار تجاه الشعب السوري الثائر.

بعد انتهاء الجولة 16 من المفاوضات نسأل ونتساءل: لماذا لم تحرز هذه المفاوضات أي هدف من أهداف الثورة السورية، أو لماذا لم تحقق هذه المفاوضات سوى هزيمة وخسارة المعارضة السورية؟

والجواب أعتقد لا يحتاج إلى كثير من العناء والبحث، لأن تلك المفاوضات كانت بلا أسنان وبلا أنياب وبلا قوة، وبديهي أن أي مفاوضات لا تملك القوة فإنها لن تحقق هدفا أو نتيجة، بل إن الطرف المفاوض الذي لا يملك القوة سيخرج مهزوما لأن المفاوضات السياسية وجه آخر من الحرب ولا تختلف عن المعركة العسكرية، كلاهما يكملان بعضهما، وكلاهما يحتاجان إلى قوة، فلو سألنا ما هي قوة المعارضة السورية في حرب المفاوضات التي استمرت حوالي خمسة أعوام لوجدنا أنها لا تملك من القوة إلا سراب الوعود الروسية وسراب الدول الضامنة والراعية لتلك المفاوضات التي تدفع المعارضة السورية إلى المزيد من هذه المفاوضات.

الخطورة في مفاوضات أستانا أنها تحت رعاية روسيا والتي تسعى لفرض حلول سياسية للسوريين على حساب مبادئ ثورتهم ونيل حريتهم، حيث تعمل روسيا جاهدة على تعويم نظام الأسد فوق بحر متلاطم من المبادرات والاتفاقات والمؤتمرات والمؤامرات والهدن والمصالحات، من سوتشي إلى أستانا، ولم يعد مطروحا على جدول أعمال مفاوضات أستانا قضية مصير نظام الأسد في وقت بدأت بعض الدول “الصديقة” للثورة تتراجع عن مطلب رحيل بشار الأسد ونظامه والقبول بحلول الأمر الواقع وفتح سفاراتها بدمشق.

وأدركت روسيا مبكرا طبيعة المعارضة السورية، وأن مواقفها أقرب لمواقف من تعارض، وليس بيدها عصا موسى فأخذتها من جنيف إلى سوتشي ومن ثم إلى أستانا ودعتها لمفاوضة فرعون، ومن ثم سلبت منها الإرادة الحرة، ومنحتها أرخص أدوات الثورة والنضال وهي المفاوضات والتنديد بالبيانات واستجداء العطف عبر الإعلام.

وعبر التاريخ نجد أن الحل السحري بيد الطغاة لإخماد ثورة شعب دعوة من يدعي تمثيله للمفاوضات.

ومن خلال المقاربة بين الثورة الفلسطينية والثورة السورية وما ترتب عليها ثم ما لحق بها على مدار سنوات من تصفية ومتاجرة بتضحيات الفلسطينيين، وبين ما يحدث الآن من محاولات لتصفية الثورة السورية وإفراغها من مضمونها وتجريدها من ثوابتها التي خرج من أجلها الشعب السوري الثائر، ولو قارنا بين بنود إتفاقية أوسلو ومخرجات مفاوضات أستانا سنجد تشابها كبيرا، فالذين تصدروا تمثيل الثورة السورية سياسيا يسلكون الطريق ذاته الذي سلكها المفاوض الفلسطيني، وبالنظر إلى مفاوضات أستانا نجد من أهم مخرجاتها هو الاعتراف بنظام الأسد من خلال محاولة الوصول لحل سياسي معه بإشراف روسي وإيراني وهو ما يقابله في أوسلو بند الاعتراف بإسرائيل، ويدعم ذلك تصريح الراعي الروسي أنه سيقضي على أي قوة عسكرية تسعى لضرب نظام الأسد دون أي اعتراض أو تعليق من الفصائل المشاركة في أستانا، وهذا التصريح يقابله في أوسلو بند “نبذ العنف ومحاربة الإرهاب” والإرهابيين بالتأكيد هم كل من يحاربون النظام ويسعون لإسقاطه، وهذا منصوص عليه في بنود أستانا تحت عنوان محاربة التنظيمات الإرهابية.

وأيضا مما تم التوافق عليه في أستانا هو تجميد قتال نظام الأسد من خلال القبول بعقد هدنة وإنشاء مناطق خفض تصعيد ساهمت في منح جيش الأسد استراحة محارب وخفضت استنزاف كتلته البشرية مقابل القوى العسكرية للثورة، مقابل ذلك كله سيتم إعطاء المعارضة السورية حصتها في الكعكة المتمثلة في حكومة وطنية وجيش وطني ستكون مهمتهم المحافظة على البنود المتفق عليها في أستانا، ولم تتعظ المعارضة السورية من أوسلو وتلهث خلف أوهام أستانا التي حتما لن تعطيها سوى السراب.

أصبحت الثورة السورية مشابهة إلى حد كبير للثورة الفلسطينية التي انطلقت في منتصف الستينيات، كثورة نضال تهدف إلى تحرير البلاد، لكن في بداية التسعينيات أصبحت رهينة بيد “كيان نفعي” يحوي المنتفعين الذين يمسكون بزمام الأمور، ويتعاونون مع المحتل الإسرائيلي على حساب القضية الفلسطينية، وهذا ما آلت إليه، الثورة السورية بعد عام 2013، وعامل الزمن في الثورة الفلسطينية والسورية وطول مدتها أسهما في تحول عدد كبير من الثائرين إلى معارضة وظيفية وانتفاعية براتب توفره لهم دول فاعلة تحركهم لتحقيق أجنداتها.

مسلسل التفاوض

حلقات متعددة من مسلسل التفاوض، فحلقات القضية الفلسطينية بدأت في أوسلو، واتفاق غزة- أريحا، وصولا إلى اتفاق طابا، ثم واي ريفر الأول والثاني، وصولا إلى خريطة الطريق، وختاما اتفاق أنابوليس، فيما حلقات مسلسل التفاوض السوري في جنيف 1 و2 و3 و4 و5 و6 وربما جنيف اللانهائية، مرورا باجتماعات مجموعة دول أصدقاء سوريا، ومن ثم محادثات كيري ـ لافروف، وختاما محادثات أستانا التي لم نعد نعلم هل ستصبح لانهائية كجنيف أم ماذا؟

وفي ختام حلقات مسلسل التفاوض حظي الشعبان، الفلسطيني والسوري، على خفي حنين، ففلسطين لا زالت تقاسي من ألم الاحتلال، والسوريون ليسوا بأحسن حال، وأصبح ممثلو القضيتين يتسابقون لملاقاة سفير وممثل دولة ما ويستجدونه لقبول أوراق اعتمادهم كممثل وظيفي لدى دولهم، مما أدى إلى ظهور منصات معارضة عديدة فشلت جميعها في حماية أهداف الثورة ومتطلبات جمهورها وتحويلها إلى ملفات ثانوية مقسمة بين المعابر واللاجئين والإغاثة والمياه والتجارة والرواتب، وبذلك تحولت الثورة السورية كما القضية الفلسطينية إلى محتوى من الملفات الثانوية على حساب القضية الأساسية فملفات الحرية والكرامة والمعتقلين، تحولت إلى ملف محاربة الإرهاب ولجنة دستورية ومناطق الهدنة ومؤسسات المجتمع المحلي والمنظمات المدنية، وهذه الملفات الثانوية حولت الكثير من الثوار إلى “مسترزق وظيفي” براتب توفره له الدول الفاعلة لتحقيق مأربها بمعزل عن أهداف الثورة، وبدوره هذا الثائر المنتفع تحول إلى جلادا لمنتقدي سلوكه والذين يطالبونه بالرجوع إلى أهداف الثورة الأساسية.

منذ حوالي سنة رحل صائب عريقات الشخصية التي برزت على الساحة الفلسطينية مند عام 1991، والذي يمكن تلخيص نجوميته أنه كبير المفاوضين الفلسطينيين وكتابه الشهير “الحياة مفاوضات”، ظهر عريقات رسميا في مسلسل التفاوض كنائب لرئيس الوفد الفلسطيني إلى مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 وما تلاه ، والأسئلة الملحة التي تفرض نفسها، كبير المفاوضين ومن يدعمه يفاوضون من؟ وحول ماذا؟ وباسم من يفاوضون ؟ فنجدهم يفاوضون المحتل على أرضهم باسم الشعب الفلسطيني والأدهى والأمر يحصرون الحل في التفاوض العبثي الذي يمارسونه مند حوالي 30 سنة.

فالتفاوض كما هو معلوم :

1- لا يتعلق فقط بقدرة الطرفين على الجدال السياسي بل يرتبط أكثر بالمكاسب على الأرض.

2- ومن العبث التفاوض دون قوة ضاغطة تكسبها.

3- ومن الغباء التفاوض تحت إشراف وسيط منحاز.

ولو نظرنا نظرة خاطفة وقمنا بمقارنة مسلسل التفاوض الفلسطيني الذي تفوق عدد حلقاته مسلسل مفاوضات المعارضة السورية

سنجد السلطة الفلسطينية والمعارضة السورية ومفاوضيها تحت رحمة المحتل ولا يملكون أي ورقة للضغط، أمريكا الراعي الأساسي للمفاوضات الفلسطينية تؤكد ولم تخف دعمها المطلق لإسرائيل.

روسيا في سوريا تمارس دور الجلاد والقاتل واللص وكذلك الراعي الرسمي للمفاوضات السورية ويوجد لجيشها قواعد في سوريا وتدعم نظام الأسد بشتى الوسائل العسكرية والسياسية.

مات عريقات وتأكد عبثية مفاوضاته وساهم في تضليل شعبه وإفساد وعيه بعدالة قضيته وحقهم في النضال لاسترداد أرضه المغتصبة، فعمل مع كيانه النفعي على إفهام الأجيال أن بإمكانهم استرداد الحقوق بالجلوس إلى العدو في حظيرته وتحت حراسته ورعايته واحتساء شرابه ثم مطالبته بأدب أن يسلمهم أرضهم ويحمل أولاده ويذهب إلى التيه مرة أخرى.

فالمفاوضات في ظل اختلال موازين القوى إنما تعني تقديم التنازلات الواحد تلو الآخر دون الحصول على شيء وتزييف لوعي الثورة وتضييع لأهدافها.

كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى