لم أدرك عندما غادرت دمشق قبل تسعة أعوام أن غيبتي ستطول، وأنني سأعبر إلى بلاد أخرى، اختبر فيها قدرتي على التكيف مع عالمٍ غريب عني. لم أفكر يوماً في مغادرة دمشق، على الرغم من أني ولدت فيها من دون أن أنتمي إليها. ولم أفهم حتى الآن، كيف يولد المرء في مدينة ويكبر فيها من دون أن ينتمي إليها، ويبقى غريباً؟ ولم أفهم كيف تكونت هويتي غريبا عن المكان، “أنت من هناك”، وهناك تشير إلى بلد آخر (فلسطين) عليك أنت تنتمي إليه، لأن والديك أتيا من هناك، وسينتمي أبناؤك إلى هناك، وتنجب سلالة من الغرباء؟
أكذب إذا قلت إني أحببت دمشق. وأكون منافقاً إذا قلت إني عشقت المدينة. لم اختبر مشاعري تجاهها قبل مغادرتها. وقبل هذا الرحيل الطويل، لم أغادر المدينة سوى لعدة أيام، لا تكفي لتأمل العلاقة معها وتأمل حياتي التي عشتها هناك. كما أنه من الصعب أن تختبر مشاعرك تجاه دمشق، وأنت تعيش فيها. لم يكن السؤال مطروحاً، فلم أُجهد نفسي في الإجابة عليه، وجدت نفسي، بحكم المصادفة، في هذا المدينة، فعشت فيها.
ولدت في المدينة غريباً، لأبوين غريبين تقاذفتهما نكبة فلسطين، ليجدا نفسيهما مع خمسة أطفال في دمشق. لم يتعلم أبي درس النكبة، ويتوقف عن الإنجاب، فأضاف إلى العائلة أربعة أولاد، كنت آخرهم في الترتيب. لم أشعر يوما أن دمشق مدينتي، ولطالما شعرتُ أن هناك جدارا يفصلني عنها. كان حسد أصدقائي السوريين يُهوّن عليّ غربتي، فأعرف أنهم غرباء في بلدهم أكثر مني. كانت ذروة الحسد، في الأيام الكابوسية لاستفتاءات الرئاسة، حيث يقاد الجميع كقطيع لإعلان الإذعان للرجل الأول الذي امتهن إذلال البلد بكل الطرق التي يتصوّرها عقلٌ مريض. أما في مسيرات التأييد للرجل “المعجزة” فكنا (غرباء ومواطنين) جزءا من القطيع. بعيداً عن السياسة، كان أصدقائي السوريون يشفقون عليّ بوصفي الغريب الدائم في بلدٍ يدّعي أنه يُبقيني غريباً من أجل مصلحتي الشخصية والوطنية، حفاظاً على حقي بعودةٍ يعرف أنها مستحيلة، لكنها تصلح شعارا ليتوغل النظام في سحق البلد.
“إذا خربت حياتك في هذه الزاوية من العالم.. أينما حللت فهي خراب”، منذ غادرت دمشق، وكلمات كافافي هذه تدقّ رأسي كجرس كنيسة. نعم، كانت حياتي خربة من قبل أن أولد، وليس قبل مغادرة دمشق فحسب. لذلك يتراكم الخراب على الخراب. لم أعرف الطبيعي، حتى أقيس عليه، كيف يعيش الإنسان العادي في وطنه في ظل شروط عادية؟ هذا ترفٌ لم أعرفه. كنت واهماً عندما اعتقدت أن الآخرين (السوريين) يعرفون ما هو الطبيعي. كان الطبيعي في ظل حكم “البعث” أن يكون الاستثناء هو القاعدة، وكانت غربة السوريين في وطنهم أكثر قسوةً من غربتي فيه. أنا والسوري الذي يجايلني ولدنا بعد حكم “البعث”، وإعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية في مارس/ آذار 1963. لم نعرف الطبيعي، عشنا حياتنا كلها في ظل الاستثنائي، إلى درجةٍ لم يعد أحد يذكر ما كان عليه البلد قبل “البعث” وقبل عائلة الأسد التي حوّلت البلد إلى مزرعة عائلية لا أكثر. لا تاريخ لسورية قبلها، يبدأ التاريخ وينتهي بها. وحّد القمع الجميع في سورية “مواطنين” وغرباء. لم ينل السوريون والفلسطينيون وحدهم حصتهم من القمع، فقد وسّع النظام قمعه، وشمل آلاف اللبنانيين وعراقيين وأردنيين كثيرين وغيرهم أيضا.
لا أعرف أحدا في البلد لم يراجع فروع الأمن المتعدّدة، لسببٍ أو لآخر، وكانت هذه المراجعات تسبّب الرعب للمراجعين، ماذا إذا لم يعودوا من هذه الزيارة لفرع المخابرات؟ كما جرى لآلاف السوريين غيرهم، إنها وصفة لدمار العائلات. لا أعتقد أن هناك عائلة في سورية لم يختبر أحدٌ أفرادها الاعتقال الاعتباطي. إنها تجربة مرعبة، أنت تعرف متى تبدأ، لكنك لا تعرف متى تنتهي، إنه توقيفٌ عرفيٌّ مفتوحٌ بلا محاكمة وبلا قوانين وبلا مرجعية. وليس هناك مدة تعدّها وتنقص منها الأيام المقصوفة من عمرك، إنها تجربة تحديق في الفراغ. وأنا مثل غيري، عندما راجعت فروع الأمن، أصابني الرعب من إمكانية أن تلفّق تهمة ما لي. نعم، أصابني الرعب، وسألت نفسي، كم من الأشخاص الذين لُفقت لهم التهم، يقبعون ظلماً وراء جدران الفروع الأمنية، خسروا كل شيء، ليس أعمارهم فحسب، بل وسمعتهم أيضا؟!
نعم، لقد وحّد الرعب الجميع في سورية، لم ينج أحدٌ من مساءلة المخابرات، ومئات آلاف المعتقلين في زمن الأسد الأب، ومجزرة بشعة في مدينة حماه العام 1982، لقد نجح الأسد الأب بإخراس البلد وبتعميم الخوف على الجميع. أي وطنٍ هذا الذي أولد فيه خائفاً؟ ما معنى أن أكون سوريّاً في زمن “البعث” والأسد، سوى أن أكون خائفاً من كل شيء؟ أفكر أحياناً، كم من العائلات ستُهدم، إضافة إلى تلك التي هدمتها وحشية الأسد الابن، إذا سقط النظام وفُتحت ملفات المخابرات للعموم؟ كم من الأبناء والآباء والزوجات والأزواج والإخوة، الذين أجبرهم النظام على الوشاية بعضهم ببعض؟! ستبقى الآثار المدمرة للنظام وجرائمه المدمرة فعّالة حتى بعد سقوطه، إنه الخيال الإجرامي في أوسع حدوده.
هذه السورية التي شوّهتني وشوّهت كل السوريين، وحوّلتنا معطوبين ومخصيين. كثير فيها مدمّر قبل سقوط البراميل المتفجرة التي أرسلها الأسد الابن لتسقط على رؤوس السوريين في المدن والقرى السورية، متمماً مهمة والده في سفك دم السوريين. هذه السورية لا يضربني الحنين إليها على الإطلاق، ذِكرها يشعرني بالخوف والرعب يوقظ كل الكوابيس.
في ظل الليل الطويل الذي عاشته سورية، كان علينا اختراع حياتنا في الهامش، حياتنا الخاصة، بين السر والعلن، نحن والذين يشبهوننا أوجدنا عالماً ضيقاً في ليل سورية الطويل، عالما ساعدنا على احتمال ثقل الحياة في ظل “البعث”، حاولنا أن يكون له معنى في ظل اللامعنى الذي عاشته سورية. مجموعة من الأصدقاء الذين يتم اختيارهم بعناية وخوف، ليشكلوا عالماً سفلياً مضيئاً في ظل ظلمة سورية “البعث”. هذا العالم هو، أصدقائي، أحبتي الذين عملنا معاً على إيجاد حياةٍ ما من العدم. عالم هامشي هشّ، مهدّد في كل لحظة بأن يهدمه نظام قمعي اعتباطي. هذا العالم هو ما أحنّ إليه في دمشق. لا أحنّ إلى الحجارة والطرقات، ولا أحنّ إلى تاريخ البلد، ولا إلى عمارة البلد القبيحة. أحنّ إلى الأصدقاء الذين كانوا أجمل ما في تجربتي السورية. واليوم تكاد سورية تفرغ منهم تماماً، فهم ينقصون كل يوم، وتزداد سماء دمشق ظلمة، وأعرف أن منفاي نهائي، وأن المؤقت هو الحقيقة الوحيدة في حياتي، والتي سترافقني إلى القبر.
المصدر: العربي الجديد