كان عناصر فرع الخطيب يأخذون جثث المعتقلين إلى جهة مجهولة ولا يخبرون الأهالي.
لم يسمحوا لنا بمعاجة حقيقية للمصايبين.
كانوا يضربون المعتقل المريض عندما يخبرنا أن إصابته من التعذيب أو إذا طلب ماء للشرب
شهادة طبيب مشفى الهلال الأحمر أمام المحكمة بتاريخ 23.6.2021 من أهم الشهادات المحايدة التي تعطي الصورة الواضحة عما جرى ومازال يجري في أقبية المعتقلات وخاصة الفرع 251 القريب من المشفى.
منذ أن بدأت محاكمة المتهم أنور رسلان في شهر نيسان لعام 2020، أتى إلى المحكمة الكثير من الشهود والمدعين معظمهم من المعتقلين السابقين، أو المنشقين، بيد أنه وللمرة الأولى يأتي شاهدٌ بصفته طبيبٌ سابقٌ عمل لمدة عامين في مشفى الهلال الأحمر المجاور لفرع 251/ الخطيب.
حضرالطبيب أ.د بتاريخ 23/06/2021 كشاهدٍ إلى المحكمة، وقد أخبره القضاة باحتمالية أن تؤخذ شهادته كخبير أيضاً، وهذا يعتمد على ما سيقوله.
الدكتور أ.د أدلى بشهادته للمحكمة باللغة الألمانية وليس بالعربية، وبدأ بقوله أنه طبيب جراحة أطفال، إلا أنه عمل في الجراحة العامة كمساعد طبيب في مشفى الهلال الأحمر بدمشق بدءًا من 24/02/2012 وحتى نهاية عام 2013، كما هو الحال مع بقية تخصصات الجراحات الفرعية في سوريا.
وعن بداية خبرته مع فرع الخطيب قال الشاهد إنه وفي شهر حزيران تقريباً من عام 2012 جاء إلى مشفى الهلال عدة عناصر مسلحين من فرع الخطيب، تحدثوا مع رئيس قسم الإسعاف وتم الاتفاق فيما بينهم على أن يقوم مشفى الهلال الأحمر بإرسال فريق طبي إلى الفرع كلما دعت الحاجة لتطبيب المرضى هناك، وذلك لأن طبيب الفرع لم يعد موجوداً بعد ذلك التاريخ ولا يعرف الشاهد سبب ذلك. وبالفعل بدأ الأطباء بالذهاب إلى فرع الخطيب منتصف شهر آب تقريباً، الموافق لشهر رمضان من ذلك العام، مرة أو مرتين أسبوعياً.
تعرَّف الطبيب الشاهد على ما يحدث في قبو فرع الخطيب، إذ وصف المرة الأولى التي ذهب فيها إلى هناك بالصادمة. كانوا فريقاً من ثلاثة إلى أربعة أطباء عالجوا خلال ساعتين ما يزيد عن مئة معتقل. ” كنا بحالة ذهول تام، ما رأيناه يومها تجاوز كل ما درسناه يوماً كأطباء، كان لا يُصدق” قال الطبيب الشاهد.
كان الوفد الطبي يذهب إلى فرع الخطيب تحت إشراف عناصره الذين يرشدون الأطباء من أين يدخلون وكيف يتصرفون؛ مثلاً كيف يجب ألَّا يخافوا مما سيرونه، وألا يتحدثوا مع المعتقلين بأكثر مما يتعلق بمرضهم. فإذا سأل الطبيب معتقلاً عن سبب عدم مقدرته على تحريك يده مثلاً وأجاب الأخير أن ذلك جراء التعذيب، كان يضرب فوراً من أحد العناصر.
سمع الطبيب كثيراً من أصوات التعذيب ولكنه لم يرَ عملية تعذيب بتفاصيلها أمامه. وفي معرض وصفه لما رآه وعالجه شخصياً في قبو فرع الخطيب قال: “كانت الإصابات بالغالب دمامل وخرَّاجات وجروح على اليدين والقدمين وأيضاً آثار على بعض أجزاء الجسد نتيجة التعذيب، معظم المعتقلين كان لديهم تورُّم يصل أحياناً إلى خمس أضعاف حجم اليد أو القدم الحقيقي، بعض الجروح كانت مفتوحة في القدمين ، كما شوهدت بعض حالات الكسور. ظننَّا كأطباء في البداية أن ما حدث لهؤلاء المعتقلين كان نتيجة معارك أو مواجهات عسكرية سابقة، أو لربما حدث في فرعٍ آخر، إلا أن بعضهم بدأ يتحدث معنا قائلاً: “تعذبنا هنا كثيراً أرجوكم ساعدونا!” وهكذا تأكدنا أن هذا حدث معهم في فرع الخطيب. الحالات التي رأيناها هناك كنا لا نراها بالمطلق في مشفانا. رأيتُ أيضاً أمراضاً مزمنة مثل السكر والضغط، الغريب أنه كان منتشراً في السجن بين الشباب وصُدمت كيف أن أشخاصاً بأعمارهم لديهم هذه الأمراض، ثم بدأت أنتبه للظروف التي وُضعوا بها هناك: أعدادٌ كبيرةٌ جداً، لا شمس ولا هواء صحي، اعتقال لفترات طويلة، وأيضاً تعذيب، وهو ما رأيت آثاره بنفسي. في إحدى المرات كانت يد أحدهم متورمة خمسة أضعاف، عالجناها بشقٍ اليد وإخراج القيح الذي بلغ ما مقداره تقريباً 10 ليتر. لقد رأينا أشخاصاً تشبه ما رآه العالم في ملف قيصر!”.
لم يكن لدى الأطباء كما قال الشاهد حريةً في تقرير من يجب نقله إلى المشفى بسبب حالته الحرجة أو لا، العناصر هم من يوافق أو يرفض. كما أنه لم يكن مسموحاً للطبيب تحديد كمية الدواء حيث يقول الطبيب مثلاً أن المريض يحتاج علبة كاملة من الدواء، فيرد العنصر بأن يصف له شريطاً واحداً، أو حتى حبة واحدة فقط.
سُئل الطبيب ما إن كان هناك حالات ذبحات صدرية -بما أن معظم التقارير الطبية التي أصدرها النظام للوفيات في معتقلاته كانت نتيجة ذبحة قلبية- فأجاب الشاهد بأنه لم يكن هناك عوامل ذبحات قلبية، مثل التقدم بالعمر أو البدانة ، إنما كان سبب الوفيات هو سوء الحالة العامة والتي بدورها قد تؤدي الى قصور قلب ومن ثم توقفه.
وعن الوفيات التي حدثت أمامه قال الطبيب بأن أسبابها مختلفة، بعضهم كان لديه أمراض مزمنة قبل دخولهم السجن مثل القصور الكلوي والربو والضغط والسكري ولكن هذه الحالات كانت نادرة، ولم يكن الأغلبية على دراية بأمراضهم، ما أكد للطبيب أنهم أصيبوا بها داخل السجن مثل القصور الكلوي أو القلبي بسبب الظروف الصحية السيئة للغاية. وأضاف أن هناك حالات كثيرة لتسمم الدم أيضاً. سُئل بعد ذلك عن نسبة الوفيات من ضمن الذين عالجوهم فأجاب أنها 50%!.
فيما يخص الجثث، كانت مهمة الطبيب الشاهد إجراء الكشف عليها ورصد حالات الوفاة، دون السماح له بتحديد سببها كما يفعل الطبيب الشرعي، لذلك لم تخوله وظيفته بالتصريح عن أن سبب الوفاة الرئيسي كان التعذيب.
رغم أنه لم يكن مسموحاً لهم التجول داخل قبو فرع الخطيب كما يشاؤون أو رؤية غرف التعذيب، إلا أن الطبيب استطاع رؤية بعض أدوات التعذيب مثل صواعق الكهرباء والماء الساخن والعصي أو الإجبار على التعري، كما سمع أشخاصاً تتعذب بهذه الطرق.
قال الشاهد بأنه رأى وحده، في أول شهرٍ من عملهم مع الخطيب، ما يقارب عشرة جثث، توزعت بين من توفي لاحقاً في المشفى وبين من توفي في السجن. ذكر أن أول حالة وفاة شهدها كانت داخل السجن نتيجة قصور كلوي، وبعد ذلك تعددت الوفيات بين أمراضٍ مزمنة أو تسمم بالدم أو نتيجة سوء تغذية.
لم يعرف الطبيب ماذا يحدث للجثث بعد ذلك ولكنه قال أنهم لا يوضعون في براد مشفى الهلال الأحمر إطلاقاً بل تأخذهم عناصر فرع الخطيب ولا يعلم إلى أين، ولكن بعض زملائه لمَّح إلى أنهم يُنقَلون ربما إلى مشفى عسكري.
سُئل الطبيب إن كانوا يكتبون أسماء المعتقلين المرضى على إضباراتهم عند تشخيص الحالة، فأجاب: عندما يتم نقلهم إلى المشفى، يكتبون في إضباراتهم الحالة وما تعاني منه وعندما يسألون عناصر الفرع عن الاسم ليكتبوه يجيبونهم: “مجهول” وبالتالي لا تُكتب أسماء المعتقلين، وإنما يعطونهم في فرع الخطيب رقماً إن حدث وماتوا.
وعندما سأله القضاة عن مظاهر المعتقلين الذين عالجهم وأشكالهم، قال أن ثيابهم ممزقة وأنهم كانوا متسخين، رائحتهم كريهة، جلودهم مليئة بآثار التعذيب، لِحاهم طويلة لأنهم كما يظن ممنوعون من الحلاقة والاستحمام. علامات سوء التغذية تنعكس في ضآلة أجسادهم ونُحولهم غير الطبيعي، حتى أن أحداً منهم لم يأكل شيئاً أمامه أو حتى يشرب ماء. “رأيتُ معتقلين طلبوا ماءً ليشربوا فضربوهم وأهانوهم”. أضاف الدكتور الشاهد للقضاة.
سأل الادعاء العام الشاهد عن الأعداد التقريبية للأشخاص الذين تم علاجهم خلال الفترة ما بين شهر تموز/يوليو – وشهر إيلول/سبتمبر لعام 2012 فأجاب” لا أستطيع إعطاء عدد صحيح وإنما تقريبي، أنا شخصياً عالجت خلال هذه الأشهر حوالي 1000 حالة، بعضهم كان حالات متكررة للعلاج، وإن استثنينا حالات التكرار فقد كانوا قرابة الـ 200 معتقل، توفي منهم 100 شخص”. وأكد أن لا أحد من ذوي المعتقلين استلم جثة من يخصه من المعتقلين.
لم يكن علاج المعتقلين حصراً في قبو السجن أو المشفى كما أفاد الطبيب، بل كان يتم تجميعهم أيضاً في الحديقة التابعة لفرع الخطيب بما في ذلك الجثث .
سُئل الشاهد عن دورهم كأطباء في حال اختلف تقييمهم للحالة عن تقييم الفرع :أي الرأيين يؤخذ به؟فأجاب بأن ذلك حدث ودائماً يؤخذ برأي فرع الخطيب. كما تحدث عن احتمالية أن بعض الوفيات حدثت لأنهم لم يتلقوا العلاج الصحيح من العناصر.
بعد ذلك سأله محامي المتهم رسلان إن كان لديه فرصة أن يترك عمله ولا يتعاون مع النظام، فأجاب الشاهد: “عندما بدأت العمل مع الهلال الأحمر كان كل شيء يسير على ما يرام، إلى أن بدأت العلاقة مع فرع الخطيب. ما يحدث في هذا الفرع لم يكن صحيحاً، لا بالنسبة للبشر العاديين ولا للمرضى. هذا هو الوضع في سوريا منذ خمسين سنة، لا أحد يستطيع الكلام، كل الناس يخافون. نحن حاولنا أن نساعد المرضى بقدر ما نستطيع ولكننا لم نجرؤ أن نخبر ذويهم مثلاً. في إحدى المرات سألنا الطبيب المسؤول في الهلال الأحمر: ماذا نستطيع أن نغيِّر! فأجاب: “لقد رأيتم بأعينكم، ما لم يتغير لن يتغير الآن!”. مسؤوليتنا كانت أن نساعد المرضى وهذا ما كنا نفعله. أحد أساتذتي في كلية الطب بجامعة حلب اعتقل من قبل أحد الأفرع الأمنية الذي طلب فدية لإطلاق سراحه، وعندما لم يدفع أهله الفدية قُتل ورميت جثته منفصلة عن رأسه في الشارع. في إحدى المرات رفض طبيب الطوارئ في مشفى الهلال أن يذهب مع العناصر لفرع الخطيب لأنه كان الطبيب الوحيد بالطوارئ ولا يمكنه مغادرة مكان عمله، استدعي لاحقاً وتم توبيخه من ملازم وأخبره أنه ملزمٌ بالحضور عندما يتم استدعائه. أي طبيب في المشافي الحكومية في سوريا قد يتعرض للفصل أو النقل في حال تقاعس عن المهام الموكلة اليه، هذا هو الوضع هناك، لا يوجد فرصة أبداً!”.
انتهت شهادة الشاهد الطبيب بعد حوالي خمس ساعات، روى خلالها كل ما شاهده بعينه في فرع الخطيب، مؤكداً بها حالات الوفاة والتعذيب والظروف اللا إنسانية فيه، والتي سبق لكل الشهود أن رووا تجاربهم الخاصة عنها.
أكد محامي الادعاء بالحق المدني السيد سيباستيان شارمر بعد انتهاء الشهادة على مدى أهميتها وخصوصيتها وتقاطعها مع ما قاله كثيرٌ من الشهود في المدة المحددة أعلاه “من تموز وحتى أيلول 2012″، وأضاف المحامي أن شهادة الطبيب هي فقط ما رآه وليس كل ما حدث خلال هذه الفترة، ولكنها شهادة كفيلة بأن تعطينا صورة واضحة عمّا جرى في قبو فرع الخطيب.
المصدر: المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية