شهدت الصين خلال العقود الماضية نموّا اقتصاديا استثنائيا لم يسبق له مثيل في التاريخ أدّى إلى تضاعف متوسط دخل الفرد فيها عشرات المرّات، وكان الرابح الأكبر من هذا النمو الحكومة الصينية التي احتارت في كيفية إنفاق فائضها المالي، فوضعت أكثر من تريليون دولار في سندات الخزانة الأميركية، واستثمرت بشكل واسع في أوروبا بحيث سيطرت على شركات أوروبية كبرى، كما قامت بتنفيذ مشاريع عملاقة في مختلف القارات بأسعار ليس من السهل على أي طرف منافستها، وقدمت قروضا مع تسهيلات في السداد لدول عديدة في العالم بهدف توسيع نفوذها السياسي.
ومن ناحية أخرى، استخدمت الصين ثروتها هذه في زيادة انفاقها العسكري مما ولّد عندها إحساسا بالقوة أدّى إلى سلوك استفزازي تجاه دول الجوار لأن الصين تعتقد أن كل هذه الدول قد استولت بدون وجه حق على أراضي صينية، ولذلك دخلت الصين خلال العقود الماضية في اشتباكات حدودية مع أغلب جيرانها بما فيهم الاتحاد السوفيتي الذي خاضت معه نزاعا عسكريا عام 1969 استمر سبعة أشهر وهدد بحرب شاملة، كما نشبت الحرب الصينية الفيتنامية عام 1979 والتي خسر فيها الجانبان آلاف الجنود مع مكاسب حدودية بسيطة للصين، وهناك الخلافات الحدودية المزمنة مع الهند والتي بدأت باشتباكات متقطعة عام 1957، ثم حرب محدودة عام 1962 انتهت بأكبر هزيمة للهند منذ استقلالها استولت خلالها الصين على أراضي هندية، وكان آخرها المصادمات بالسلاح الأبيض في العام الماضي التي قتل خلالها 20 جنديا هنديا، واليوم يرسل الطرفان تعزيزات عسكرية إلى الحدود وليس من السهل التنبؤ بما قد تحمله الفترة القادمة.
وخلال السنوات الأخيرة، تركّزت استفزازات الصين على تايوان والفليبين وفيتنام وماليزيا في بحر الصين الجنوبي حيث تعتبر الصين نفسها مالكة لمعظم جزر هذا البحر، رغم أن هيئة تحكيم دولية رفضت هذه الادعاءات، كما تطالب الصين منذ قيامها بضم تايوان إليها مستندة على حقائق تاريخية، وكان هناك في تايوان نفسها من يؤيد الانضمام للصين على مبدأ شعب واحد في نظامين، ولكن فشل هذه التجربة في هونغ كونغ وعدم وفاء الصين بتعهداتها بالاستقلالية النسبية لهونغ كونغ وما نجم عنها من احتجاجات عامي 2019-2020 لم يكن في صالح من يطالبون بالانضمام إلى الصين، فتحوّلت أغلبية الشعب إلى المطالبة بالهوية التايوانية، مما يعني أن فكرة ضم تايوان للصين بالوسائل السلمية أصبح مستبعدا.
وتايوان جزيرة صغيرة مساحتها 36 ألف كلم مربع فقط، ويعيش فيها 25 مليون إنسان في واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، ورغم أنه من المستبعد أن يدافع الغرب عسكريا عن تايوان ولكن تصرفا عدوانيا صينيا سيعقّد علاقات الصين الدولية خصوصا مع الغرب حيث تتركّز أغلب الاستثمارات الصينية والذي يمثل السوق الكبيرة للبضائع الصينية، أي أن ضم تايوان للصين يعتبر انتصارا معنويا كبيرا للصين لكن دون تحقيق فوائد حقيقية، فهو بالإضافة إلى أنه ليس نزهة سهلة فجيش تايوان حديث وأسلحته متطورة بينما لم تختبر الصين أسلحتها في حروب حقيقية بعد، فإنه سيضيف إلى الصين 25 مليون إنسان اعتادوا على النظام الديمقراطي ويعرفون ما لهم من حقوق ومن الصعب أن يتخلوا عنها.
أي أن التوسع الصيني في الجنوب حيث الكثافة السكانية العالية أمر بالغ الصعوبة، ولكن في المقابل هناك قصة توسع صيني ناجحة في التيبت عام 1950 والتي تبلغ مساحتها مليونين ونصف كيلومتر مربع ولا يقطنها سوى بضعة ملايين مما ساعد الصين على احتلالها وهضمها رغم أن شعبها مختلف عن الشعب الصيني ورغم الثورات وحروب العصابات التي شهدتها من عام 1956 حتى عام 1962 بقيادة الدالاي لاما، وقد مكّن احتلال الصين للتيبت من التحكم في منابع سبعة من أكبر أنهار جنوب آسيا “السند، والغانج، وبراهمابوترا وإيراوادي وسالوين واليانغيستي والميكونغ” التي تحتوي على 718 مليار متر مكعب من المياه، هي المصدر الرئيسي للمياه عند عدة دول مجاورة خاصة الهند التي يعاني 600 مليون إنسان فيها من نقص المياه، وقامت الصين بتغيير مسار بعض الفروع إلى الصين كما بنت السدود التي تتحكم في جريان الأنهر مما أعطاها ورقة ضغط إضافية على جيرانها.
وهناك اليوم منطقة واسعة شمال الصين تشبه التيبت إلى حد كبير، وهي جمهورية منغوليا التي تحدها الصين من الشرق والجنوب والغرب بينما تحدها روسيا من الشمال وهذه الدولة كانت تحت حكم الصين من القرن السابع عشر حتى نهاية عام 1911 ومن ثم وقعت تحت النفوذ والحماية السوفييتية ثم الروسية فيما بعد، ومساحة هذا البلد قريبة من مساحة إيران ولا يعيش فيها سوى 3 ملايين إنسان فقط، وبالتالي هي هدف نموذجي للتوسع الصيني الذي يدعمه تاريخ مشترك طويل، كذلك هناك أراضي صينية في شمال شرق الصين احتلها السوفيات من اليابان عام 1945 وهي تحت حكمهم للآن ومساحتها مليون كيلومتر مربع مع أعداد قليلة من السكان ومن الطبيعي أن تنتظر الصين الفرصة المناسبة لاستعادتها.
ولكن الجائزة الكبرى التي تنظر إليها الصين هي الشرق الأقصى الروسي الذي تبلغ مساحته الإجمالية 6.2 مليون كيلومتر مربع، بما يعادل مساحة أوروبا كاملة بدون روسيا والتي يقطنها 5 ملايين إنسان فقط أي أقل من شخص واحد في كل كيلومتر مربع، وهي إحدى أغنى مناطق العالم بالثروات الطبيعية، والتي توفّر للصين ما تحتاجه من أراضي تستوعب فائض سكانها بعد تراجع رقعتها الزراعية لصالح التوسع العمراني، كما أنها تعطي الصين بوابة كبيرة على القطب الشمالي، وتمهد الطريق أمامها لتصبح القوة الأولى عالميا، وهذه المنطقة جزء من آسيا وكانت في فترات معينة تابعة للصين حتى وضعت روسيا يدها عليها باعتبارها مناطق خالية من السكان أي أن هناك أساس تاريخي وقانوني لشعور الصين بأنها صاحبة حق في السيطرة عليها.
ولذلك من الطبيعي أن تتحين الصين الفرصة المناسبة لتحقيق هذا الحلم وأن تنتظر أي علامة ضعف أو فوضى في الدولة الروسية لتحويل الحلم إلى واقع، وقد لا تكون الحرب هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك فهناك الشراء من حكومة روسية مفلسة عجزت عن سداد ديونها، فالولايات المتحدة مثلا اشترت 54 في المائة من مساحتها الحالية من الفرنسيين والإسبان والروس والمكسيكيين والسكان الأصليين، وكذلك هناك التغلغل الصيني عبر البوابة الاقتصادية وتوطين أعداد متزايدة من الصينيين في تلك المناطق بحيث تتغير التركيبة الديموغرافية تدريجيا لمصلحة الصين.
أي أن مجال التوسع الحقيقي للصين هو على حساب روسيا الاتحادية ومن الصعب أن يفوت الخبراء الاستراتيجيين الصينيين والروس هذا الواقع، لذلك تبدو سياسة الرئيس بوتين في التحالف مع الصين تحت ذريعة مواجهة الولايات المتحدة التي ليس لها أي أطماع في الأراضي الروسية سياسة مصطنعة لأنها لا تتماشى مع حقائق التاريخ والجغرافيا وقد يكون الهدف منها استرضاء الصين وسد الذرائع أمام أي خلاف معها، خصوصا مع وجود حقيقة تدركها الصين وهي أن النخبة الثقافية والاقتصادية الروسية ترى نفسها أوروبية ومسيحية أي لا يوجد ما يجمعها مع الصين.
وفي العام الماضي 2020، أصبح لدى الصين سبعة آلاف دبابة متجاوزة الولايات المتحدة وروسيا في عدد الدبابات دون وجود مجال حقيقي لاستعمال هذا العدد الكبير سوى في الحدود الشمالية، بما يدل على جهوزية الصين للاستفادة من الفرصة المناسبة وتحقيق حلمها الحقيقي المرتبط بالتحولات التي ستطرأ على الوضع الداخلي الروسي في مرحلة ما بعد بوتين، وبما يدل على أن ما يقوله الإعلام عن خلافات وتحالفات على المدى القصير قد لا يتطابق تماما مع الواقع والحسابات الاستراتيجية.
المصدر: الحرة. نت