ليس كل تجمع بشري على أرض معينة يسمى شعبًا. الشعب هو تلك الجماعة البشرية التي استقرت على أرض محددة ردهًا طويلاً من الزمن فتفاعلت فيما بينها بحرية.. تنشأ من هذا التفاعل روابط تتجاوز حدود الإنتماءات الضيقة لأفراد تلك الجماعة ..سواء كانت حزبية او طائفية او مذهبية او مناطقية أو شخصانية او مصلحية..هذه الروابط المشتركة تشد ابناء تلك الجماعات البشرية إلى بعضهم وتشكل لحمة بينهم أرقى من تمايزاتهم الفردية أو الفئوية الخاصة…هذه الرابطة السامية التي تعلو على كل الروابط الأخرى المحلية هي تلك المسماة وطنية..أما الولاء لهذه الوطنية أو لمقتضيات الحفاظ عليها في الظروف المتغيرة المتقلبة , فهو ما يسمح بالقول أنها تبرهن على إرتقاء تلك الجماعة البشرية الى مستوى شعب؛ فيكون قادرا على مواجهة التحديات على حياته او وجوده بصفته شعبا وليس مجموعة أفراد أو تكتلات فئوية..
فهل ينطبق هذا على لبنان الحالي ؟؟ وهل يشكل اللبنانيون شعبا ؟؟
إن مراجعة موضوعية لوقائع الأحداث والحياة في لبنان خلال العقود الثلاثة الماضية يمكن أن توضح كم هي معاناة اللبنانيين عميقة لجهة إبتعادهم أو بالأحرى إبعادهم عن أن يكونوا شعبا واحدا أو حرمانهم من المقدرة الموضوعية أن يكونوا كذلك ..
واذا انطلقنا من اللحظة الراهنة حيث يعاني اللبنانيون مشكلات كثيرة متعددة متشابكة متنوعة جعلت الحياة في لبنان بائسة للغاية وقد عادت الى الوراء البعيد متحولة إلى شبه حياة أو إلى حياة بدائية مفجعة تذكر اللبنانيين بأيام المجاعات والبؤس والفقر خلال سنوات الحرب العالمية الأولى وما سمي بسفر برلك..
في لبنان فساد تجاوز كل حدود المقدرة على القبول وحتى مجرد التصور.. في لبنان سلطة بالغة السوء والفساد متعددة الأضلاع لا تحسب للوطن أي حساب كما لا تحسب للانسان أي إعتبار أو قيمة لدرجة انها سرقت مدخراته جهارا نهارا دون أي شعور بذنب.. رغم كل القوانين المحلية والدولية التي تجرم ذلك بل تجعله غير ممكن أبدا..
في لبنان البلد الذي كان محط اعجاب العالم بجماله وحياته الجذابة وطبيعته ونمطه الاجتماعي المريح ، فكان قبلة للسياحة والاصطياف ليس فقط للعرب؛ هذا اللبنان وصل به الامر أن لا كهرباء ولا دواء ولا وقود ..
هذا اللبنان الذي يتباهى مسؤولو السلطة فيه باستحمار الانسان والتفاخر بالركوب على ظهره وتسخيره وإمتطاء نواصيه وحواشيه جملة وتفصيلا بلغ حدا جعل وزير الطاقة مثلا يدعوهم لركوب الحمير، ليركب هو وسارقو لبنان واموال ناسه وأهله ؛ يركبون حقدهم ويتنعمون بالتنقل بالسيارات والطائرات الخاصة..
هذا اللبنان بكل هذا الواقع المزري المتدهور المنهار وهذه البجاحة في السلطة التي لا مثيل لها؛ لا يشهد ردات فعل شعبية ذات شأن ترفض هذا الواقع أو تحاول التصدي له..الأمر الذي يطرح ذلك التساؤل المؤلم : هل في لبنان شعب ؟؟
في لبنان بشر كثيرون ..عدة ملايين ..ولكن هل يشكلون شعبا ؟ فإذا كانوا كذلك لماذا يقبلون واقعهم المتردي فيسكتون عنه ؟؟
بالعودة إلى تأسيس دولة لبنان الكبير كما أسميت آنذاك قبل مئة عام ، نجد ان سلطات الانتداب الفرنسي على المنطقة هي التي أسست تلك الدولة بعد ان كانت عبارة عن محافظة جبل لبنان يحكمها نظام المتصرفية الطائفي القائم على ثنائية مارونية درزية وهو النظام الذي فرضته آنذاك دول النفوذ الأجنبي – المتحكمة بمصير المنطقة – الفرنسي البريطاني مع السلطة العثمانية..ومع تأسيس الدولة تم تصنيع نظام للمحاصصة الطائفية والمذهبية جرت عمليات تهيئة قواه البشرية وأدواته المحلية في فترة الاحتلال المباشر بين الحربين العالميتين ؛ فتسلمت السلطة في مرحلة ما بعد ما أسمي الاستقلال..
ومنذ ذلك التاريخ والانسان اللبناني محكوم بتلك السلطة المرتهنة للنفوذ الاجنبي الذي صنعها ويحميها حتى اليوم في مقابل مهمات محددة مطلوب منها إنجازها بأي ثمن حتى لو كان تهجير كل اللبنانيين أو غالبهم..
تولت السلطة تلك ترسيم تشريعات وقوانين وإجراءات عملانية من شأنها تثبيت فعاليتها والأهم تحويل مجتمع اللبنانيين الى مجتمع مفكك لا يرتقي ليشكل شعبا له رابطة وطنية جامعة وذلك حتى لا يشكل في يوم من الايام خطرا على السلطة والنفوذ الاجنبي الذي يشغلها ويحميها ويستفيد منها..
نجحت السلطة في تربيط كل تفاصيل حياة الانسان اللبناني بقوانينها الطائفية المذهبية فأجبرته على السير في ممراتها فقط دون أية مقدرة على مخالفتها او السير خارجها..وامتنعت أية مصلحة لاي مواطن خارج اطار تلك الممرات الطائفية والأقنية الشخصانية المذهبية التي تقودها.. هكذا تم تدجين اللبنانيين وترسيخ انقساماتهم وولاءاتهم الضيقة بعد أن شهدوا محاولات عدة للخروج عليها..
كانت المرة الوحيدة التي حاول اللبنانيون البدء بتأسيس دولة يحكمها قانون ومؤسسات لتكون بداية فعلية للخروج من نظام المحاصصة الطائفية المذهبية في اواخر خمسينيات القرن العشرين وستينياته يوم حكم لبنان اللواء النزيه الشريف فؤاد شهاب مستندا إلى رؤية عربية ايجابية مساعدة مؤهلة يوم كانت مصر عربية ذات مشروع نهضوي عربي حر وكان جمال عبدالناصر رمزا لكل احرار العرب..
تحت وهج تلك المرحلة تاسست الجامعة اللبنانية فكانت ملتقى للشباب اللبناني من كل المناطق والطوائف فكانت بداية تشكل وعي لبناني وطني يتخطى حدود الإنعزالية الطائفية والمذهبية.. ظهرت أحزاب وطنية وحركات شبابية واعية ونضالات مطلبية وطنية وإجتماعية كانت كلها تعد بتغيير في بنية المجتمع اللبناني وبداية تخطيه قيود الإنعزالية الطائفية والتقوقع المذهبي..وحين ظهرت حركة ” الوعي ” كحركة سياسية شبابية مسيحية وطنية لاقت أصداء مقابلة إيجابية وتفاعلا في إطار الجامعة اللبنانية ونضال مطلبي أكاديمي واجتماعي ، فتحت آفاقا للتغيير والإتجاه نحو تفاعل وطني يكون مقدمة لتكوين شعب لبناني ..ولكن سرعان ما قضت عليها الحرب اللبنانية سنة ١٩٧٥..لتعود الامور الى التأزم الداخلي والتقاتل البغيض..
وعندما انتهت الحرب وتهيأ اللبنانيون لبدء مرحلة جديدة وبناء سلطة وطنية مستفيدين من دروس الحرب ومآسيها الفظيعة ، كان تدخل النظام السوري بالمرصاد ليمنع بناء نظام جديد فأعاد فرض القوى الحزبية والميليشيوية التي كانت أدوات الحرب الأهلية لتتسلم السلطة وتتسيد على لبنان واللبنانيين بأقوى مما كانت ..فراحت تسفر عن وجوهها الاجرامية البشعة وهي مطمئنة الى الرعاية الدولية لها بيد النظام السوري الذي لم يكتف بذلك بل حارب كل توجه وطني شريف وانشأ أحزابا وحركات إنقسامية أكثر إنعزالية وتقوقعا من كل ما كان قائما ..ثم كانت الحريرية السياسية تفصيلا لتلك الرعاية وترسيخا لهيمنة النفوذ الاجنبي على لبنان وإبقاء كل انواع العمل المحلي في إطاره المذهبي تحديدا ومصادرة اية إمكانية لأفق وطني ممكن..
ومع الاموال الضخمة التي صرفت في ذلك المنحى ؛ تعاظمت مصالح محلية اضحت مرتبطة مذهبيا بالأمر الواقع تستفيد منه وتضخ فيه قوة تأثيرية بالغة..وتعاظم دور المال حتى صارت المقاعد النيابية والوزارية تشترى بالمال كما بعض الصفات العسكرية أيضا..وإلتحق الإعلام اللبناني بتلك الدوائر ومنظومتها المذهبية ليساهم بفعالية ونجاح في ترسيخ التقوقع والانعزالية المذهبية وتثبيت دعائم قواها وإرغام الإنسان اللبناني على الإنضباط مرغما منساقا دونما مقدرة على التمرد..
ثم ترافق خروج النظام الامني السوري من لبنان بصعود ميليشيات موالية للمشروع الإيراني تحت واجهة شعارات تعبوية مخادعة ..فأصبحت ذات نفوذ كبير بسرعة واضحة ساهمت كل فعاليات النفوذ الأجنبي في إظهارها وتمكينها فكانت إضافة نوعية جديدة أكثر حدة وخطورة مما سبقها في إتجاه ترسيخ الإنعزاليات الطائفية والمذهبية ولكن بالإضافة الى ذلك مصادرة قدرة اللبنانيين على الفعل باتجاه وطني توحيدي ومنع أية آمال بالتحول الى شعب له آمال وتطلعات مشتركة تستطيع النهوض به وتحسين مستوى ادائه ومقدرته على تحدي الواقع الفاسد والمظلم والظالم…الجديد هذه المرة ان هذا يتم تحت تهديد السلاح ووعيد الثأر والإنتقام والردع بالقوة ..وهو ما حصل أثناء تصدي ميليشيات إيران اللبنانية للشباب اللبناني الذي إنتفض بداية من ١٧ تشرين ٢٠١٩..
وهو ما أدخل لبنان في نفق جديد أكثر قساوة وظلاما وتخلفا لاسباب أهمها أن سلطة المحاصصة المأجورة الفاسدة أصبحت تحت الحماية الأمنية للمشروع الإيراني المباشر بعد أن إنحسرت حماية النظام السوري لها..
أما رعاية النفوذ الأجنبي لكلا الرعايتين السورية اولا ثم الإيرانية ( السورية ضمنا ) للسلطة اللبنانية الفاسدة فلم تتوقف في يوم من الأيام..وبدونها لم تكن لتتمكن الرعاية الظاهرة من حماية السلطة وردع اللبنانيين عن العمل وطنيا..
يزيد الأمور تفاقما هزالة ما كان يوما يسمى أحزابا وطنية ووهنها الفاقع بل وإلتحاقها بالرعايات الدولية والإقليمية ذاتها..ينطبق هذا على الاحزاب باسمائها الناصرية واليسارية والدينية…فتحولت أيضا إلى تبرير كثير من سمات الأمر الواقع المتردي..
لهذه الاسباب جميعا يبدو عجز اللبنانيين الشرفاء – وهم كثيرون – الرافضين للواقع الراهن ، عن التحرك لرفضه وتغييره فيبدو وكأنهم إستسلموا للأمر الواقع فراحوا يبحثون عن خلاص فردي بحلول ترقيعية تبسيطية تجعلهم يتأقلمون مع الفساد والتدهور والإنحلال والتبعية…ولعل إمتداد الزمن بعمر النظام الطائفي عقودا طويلة قد جعل لجوء اللبناني الى التكيف مع الواقع أو التحايل عليه بدلا من التصدي له لتغييره ، سمة لبنانية تبدو عامة..
لهذا لا يبدو في الأفق أمل واعد بتحرك شعبي لبناني فاعل يغير أمرا قائما يرفضه معظم اللبنانيين..
ولعل التفكير بالهجرة أحد أبواب الهروب من مواجهة الواقع..الهجرة أيضا خيار لبناني متميز من زمان بعيد…والسلطة تدفع اللبنانيين في هذا الإتجاه لتقليل عدد السكان تحضيرا لسيادة العدو الإسرائيلي بسهولة أكبر على كل المنطقة..
إنطلاقا من هذه التجربة اللبنانية التي نجحت بالرعاية الدولية في تفكيك مجتمع اللبنانيين بكل ما فيه من علم وذكاء وثقافة وإبداع وتميز فردي ؛ وتحويله إلى قوى إجتماعية متناحرة لتضارب ولاءاتها وتضارب مصالحها الفئوية الضيقة ؛ تحكمها جميعا سلطة محاصصة طائفية مذهبية فاسدة مأجورة ؛ فإن قوى النفوذ الاجنبي المعادية للوجود العربي، تعمل على تعميم هذه التجربة اللبنانية على باقي البلاد العربية. واحدا تلو آخر..ليتم تفكيك مكونات ولحمة كل شعب عربي في كل بلد وتحويله إلى مجموعات بشرية متضاربة..وهكذا تمتد الهيمنة الأجنبية على بلادنا عقودا متجددة .
ما لم يقم عمل عربي موحد مشترك لمواجهة هذه المشاريع وادواتها المحلية وكشف أساليبها وردها فسوف تزداد أمور البلاد تدهورا وسوءًا. خطر يطال الجميع ويهدد وجودهم. فماذا نحن فاعلون؟؟