في الحديث الصحيح ( أنَّ أَبَا سُفْيَانَ، أَتَى علَى سَلْمَانَ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ في نَفَرٍ، فَقالوا: وَاللَّهِ ما أَخَذَتْ سُيُوفُ اللهِ مِن عُنُقِ عَدُوِّ اللهِ مَأْخَذَهَا، قالَ فَقالَ أَبُو بَكْرٍ: أَتَقُولونَ هذا لِشيخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِهِمْ؟ فأتَى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فأخْبَرَهُ، فَقالَ: يا أَبَا بَكْرٍ لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُمْ، لَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ، لقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ. فَأَتَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَقالَ: يا إخْوَتَاهْ أَغْضَبْتُكُمْ؟ قالوا: لا يَغْفِرُ اللَّهُ لكَ يا أَخِي. ) .
كلما قرأت هذا الحديث تهزني في العمق تلك الجملة : يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك. تحرك هذه الجملة في داخلي كل المخزون الفكري الذي كونته من خلال قراءاتي بهدف فهم جوهر الإسلام وعمقه، فأغمض عيوني وأنتقل بخيالي مباشرة عبر آلة الزمن إلى المدينة المنورة عام الحديبية وأشاهد عن قرب ذلك المشهد البديع المعبر.
أبو بكر : سيد من سادات قريش وواحد من أشرافها وكبار أغنيائها، وزير النبي وصاحبه ورفيقه في هجرته وأقرب الناس إليه وأشدهم دعمًا له ودفاعًا عن رسالته.
أبو سفيان : سيد من سادات قريش وواحد من أبرز زعمائها الذين حاولوا وضع حد لانتشار الدين الجديد، وتاجر من أغنى تجارها.
سلمان وصهيب وبلال: ثلاثة عبيد في الجزيرة العربية من أصول غير عربية، غرباء عن ثقافتها وعاداتها وطبيعتها، أعتقهم إسلامهم فتحولوا بعدها مباشرة إلى شخصيات بارزة لها وزنها الاجتماعي والتاريخي ولها مكانتها العظيمة في نفوس المسلمين حتى يوم القيامة.
لا يتحمل هؤلاء الثلاثة رؤية رأس الكفر يمشي في المدينة بعد صلح الحديبية وهم الذين عانوا من ظلمه وجبروته كأفراد مستضعفين، وكمسلمين ملاحقين محاصرين فتخرج منهم الكلمة المذكورة.
تتحرك داخل أبي بكر حمية عربية وتراكمات طبيعية من زمن قريب كان المجتمع فيه مقسم إلى طبقات فيها أكابر القوم وسادتهم وأشرافهم من جهة، وعبيدهم وعمالهم وأجراؤهم من جهة أخرى فيأبى أن يتطاول صهيب وبلال وسلمان على واحد من أشراف قريش وشيوخها. لا يقدح ذلك بحال من الأحوال بمقام سيدنا أبي بكر. إنها طبيعة البشر وألفة حال دام عقودًا طويلة لا يمكن انتزاعها بلحظة من أعماق النفس البشرية دون ترسبات. يمكن لأي منصف أن يتفهم اعتراضه على هذا السلوك لولا أن ذلك حصل في ظل رسالة جاءت لتغيير المفاهيم وتصحيح المسالك وتبديل الموروثات التي تفرز البشر وتعاملهم على أساس النسب أو العرق أو اللون أو المكانة أو السلطة أو المال.
كان يمكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعبس بوجه الثلاثة وينهرهم على جرأتهم الغريبة في حضرة زعماء قريش حيث كانوا منذ عهد قريب عبيدًا لدى قادتها. كان يمكن لرسول الله أن يتجاهل المسألة احترامًا لرفيق دربه ووزيره، ويتكئ على تفهم الثلاثي غير العربي للحرج الذي أوقعاه فيه. كان يمكن للنبي الكريم أن يهمس في أذن أبي بكر طالبًا منه أن يسامحهم على جرأتهم حفاظًا على هيبة طبقة الأشراف والزعماء. لكن ذلك لم يحصل. الذي حصل أن النبي (ص) عاتب صاحبه على الاعتراض البسيط الذي أبداه للثلاثي الأطهار ودفعه بأسلوبه الأنيق إلى الاعتذار منهم. لماذا ؟؟ ألم يكن الأجدى من وجهة نظر سياسية واجتماعية وبراغماتية أن يوجه اللوم للثلاثي الضعيف حفاظًا على تماسك المجتمع وتأليفًا لقلوب زعماء قريش ( حتى لو اضطر لاستعطاف الثلاثي وتهدئة نفوسهم فيما بعد سرًا) ؟!. نعم ربما كان هذا هو الأجدى لو كانت قضية رسول الله صلى الله عليه وسلم السيطرة على الحكم والإمساك بزمام المجتمع القبلي وبناء دولة على مقاس الجزيرة العربية. أما عندما تكون القضية متعلقة برسالة إلهية موجهة لكل البشر هدفها إعادة بناء المجتمع وهيكلته على أسس أخلاقية ومبادئ إنسانية عالمية تتجاوز حدود العصبيات العرقية والقبلية إلى فضاء القيم والمبادئ والانجاز وصدق الانتماء، عندها فإن ردة الفعل الطبيعية والمنسجمة مع هدف الرسالة هي بالضبط ما قام به رسول الله (ص).
هذا الموقف ليس مجرد موقف عابر وبسيط يسهل تجاوزه. هذا الموقف هو موقف تأسيسي ومحوري ويرتبط بجوهر الإسلام وعمقه.
هل يمكنك تصور معنى الربط بين غضب الله وغضب الثلاثة الذين كانوا منذ وقت قريب عبيدًا لا يأبه لمشاعرهم أو كلامهم أحد. هل تدرك عمق الثورة التي أحدثها رسول الله على مستوى المفاهيم والعلاقات الاجتماعية. هل تقرأ مغزى أن يتحرك اليوم واحد من أشراف العرب وخليل المصطفى ليطلب السماح من عبيد الأمس. هل تلمح حجم التغيير الذي أحدثته الرسالة في الوعي الجمعي والتي سمحت للثلاثي الأنقياء بالكلام مع زعيم قريش بهذه الجرأة الغريبة والمرفوضة بشدة في المجتمع القبلي.
لقد سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إعادة بناء منظومة اجتماعية وسياسية وثقافية أساسها الانتماء والإخلاص والعمل الجاد المبني على قيم وأخلاق ومبادئ الرسالة الجديدة، وكان لا بد من أجل إتمام هذا البناء من هدم أسس البناء القديم القائم على العصبية القبلية والتفاوت الطبقي الذي يولي الأهمية الكبرى للنسب والمال والجاه والسلطة والقبيلة.
إن هذا الموقف هو التعبير العملي عن قيم ومبادئ الرسالة الجديدة. فعبد غريب ذو قيم ومبادئ وانتماء أهم من زعيم غني عريق معاد لتلك القيم والمبادئ.
تحت مظلة الدين الجديد لم يعد هناك أهمية كبيرة لكونك عربيًا أو غنيًا أو من قبيلة عريقة. لم يعد هناك أهمية كبيرة للونك أو عرقك أو مهنتك أو نسبك. أهميتك بمقدار قربك من مبادئ وقيم هذا الدين ( الإنسانية والعالمية ) وإخلاصك له واستعدادك للتضحية من أجله. لقد نجح الإسلام بتجاوز الحدود الجغرافية والفكرية والاجتماعية والعرقية ليقدم نفسه كدين عالمي يعطي للإنسان قيمته ويضمن له حقوقه ويحافظ على كرامته دون أدنى اعتبار للعصبيات ودون أدنى اهتمام بالأفكار العنصرية الموجودة لدى شرائح متكبرة من معظم أمم الأرض.
من أجل تلك الروح التي تسري في جسد الإسلام، ومن أجل تلك القيم التي تشكل جوهر الدين الإسلامي وركيزته فإن هذا الدين يتسع يومًا بعد يوم وينتشر في مساحات واسعة من الكرة الأرضية بما في ذلك أرض أعدائه التاريخيين والاستراتيجيين على الرغم من كل المؤامرات التي تحاك والخطط التي تنفذ لخنق الإسلام ومحاصرته وتشويه صورته ومحاولة اجتثاث جذوره.
يقول تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ).
” يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك “
إنها جملة ساحرة. جملة تصلح أن تكون مفصلًا من مفاصل التاريخ البشري. بالقوة الكامنة في أعماق هذه الجملة ومدلولاتها وامتداد معانيها ومراميها بما يتجاوز حدود الجغرافيا واللغة واللون والعرق والشكل، سيظهر الله تعالى هذا الدين على الدين كله ولو كره الغرب وأذنابهم في المنطقة.
المصدر: اشراق