لا يفتقر النظام الحاكم في دمشق إلى الأطر اللازمة لشكل الدولة، فثمة مجلس وزراء، وبرلمان ، وجيش يخضع لنظام عسكري، ومنظومة أمنية، وكذلك ثمة بُنى قضائية، والأهم من ذلك أن ثمة دستوراً ناظماً لعلاقة الفرد بالدولة، تتفرع عنه جملة من القوانين من المفترض أن تكون ناظمة لسلوك الأفراد داخل الدولة، إلّا أن هذه المأسسة الشكلانية لنظام الدولة تكاد تكون خاوية من مضامينها الفاعلة بسبب ابتلاع السلطة لمضمون الدولة، وبالتالي تغيب الفاعلية الحقيقية لأي دستور أو قانون، ليكون حضور السلطة التي تجسّد إرادة الحاكم المتمثلة بأدواته التنفيذية – العسكر – المخابرات – هي البديل العملي للدولة، ولكن على الرغم من ذلك، فإن الوجود الشكلي لجميع الأشكال المؤسساتية، فضلاً عن الدستور والقوانين، يبقى وجودها أمراً ضرورياً بالنسبة إلى السلطة، لا لكي تستثمرها كغطاء يشرعن سلوكها فحسب، بل لتكون العجينة التي تصاغ بالطريقة التي تجسّد مشيئة الحاكم ومصالحه.
لعل إحدى الشعارات التي سعت السلطات الأسدية إلى تكريسها منذ عقود، والمتمثلة بإطلاق مصطلح ( سيد الوطن) على شخصية حافظ الأسد، تبدو شديدة الدلالة، ذلك أن وجود السيد يقتضي بداهةً وجود المَسُود، والسيد هو الآمر والناهي والسائل والمحاسِب، ليس بموجب ما يقتضيه الدستور وتقرّه القوانين، بل وفقاً لمشيئته كحاكمٍ فوق الدستور والقانون معاً، فيما تبقى المهمّة المنوطة بالمَسُود هي السمع والطاعة العمياء دون أي اعتراض على مشيئة السيّد القيّم على أعناق العباد وأرزاقهم، بل على حيواتهم بمجمل نواحيها.
مشيئة الحاكم ومصالحه التي تحكّمت بمصائر السوريين طيلة نصف قرن وما تزال، أي الصيغة المباشرة لنظام الحكم، لم تكن مفارقةً على الدوام لصياغة خارجية أيضاً، من شأنها أن تعزّز الصياغة الداخلية، بل ربما كان استمرار وجود إحداهما يقتضي وجود الأخرى بالضرورة، وقد تجسّد ذلك بالتأسيس على خطاب سياسي يستلهم قضايا مطلقة لا يؤطّرها مكان ولا زمان، أو هي (قضايا رساليّة) لا يرتبط مدى نجاحها أو فشلها ببرامج وخطط وقدرات مادية محدّدة، بل يجب أن تبقى قائمة، لا لأن بقاءها يلبي حاجة مجتمعية للمواطنين، بقدر ما هو حاجة للحاكم الذي وجد أن من أهمّ مبرّرات استمراره ( سيّداً للوطن) هو التعاطي مع شعارات ( مطلقة) كشرطٍ لطيّ أي شعارات أخرى ذات منشأ مجتمعي له صلة بحياة الناس، وبناء على ذلك يصبح النضال من أجل تحرير فلسطين والجولان، ومناهضة الصهيونية والامبريالية، وتحقيق الوحدة العربية، مُوجباً بالضرورة ليس لاستمرار حالة الموات السياسي في المجتمع، بل حافزاً للحاكم بارتكاب المزيد من موبقاته التي طالت إنسانية المواطن بالصميم، إلى درجة جعلت الفهم البشري يقف مذعوراً أمام مفارقة صادمة للعقل والمنطق وكافة القيم الإنسانية، إذ كيف يمكن تحرير الشعوب من العبودية من خلال إخضاعها لأشدّ وأقذر أشكال العبودية.
لا يبدو أن نظام الحكم الأسدي، بصيغتيه الداخلية والخارجية، بدعةً في تاريخ الأنظمة الإستبدادية، مع التأكيد على خصوصية له بهذا المجال، وتتبدّى تلك الخصوصية ببنيته الاستبدادية المُركَّبة ( السياسية والطائفية بآن معاً)، ومن هنا – أيضاً – لا تبدو تلك الصيغة من الحكم مجرّد منظومة سلوكية إجرائية ارتبطت بحاكم ما، بقدر ما سعت، وتسعى إلى أن تتحوّل إلى إرث وبائي لم يسلم من لوثاته حتى خصوم نظام الأسد أنفسهم، أو على الأقل من ادّعوا أنهم خصومه. ويجب التأكيد في هذا السياق، على استبعاد إدراج هذا الكلام عن سياق لَوْم المعارضة السورية أو التشهير بها، ذلك أن تلك المعارضة لديها من عاهاتها ما يتجاوز مثل هذا الكلام، فضلاً عن أن تلك المعارضة، وبحكم واجبها الوظيفي، لم تكن، ولن تكون بوارد الاهتمام أو الاستماع لما يوجَّه إليها من نقد أو نصح أو سوى ذلك، فالمسألة إذاً تذهب باتجاه تسليط الضوء على ظاهرة لا تتمثّل بسلوك فرد أو أفراد فحسب، بل تمضي لتكون السمة الناظمة لعمل ونشاط كيانات رسمية معارضة، تحاول – بقصد أو دون قصد – إستنساخ معظم ما أنتجه الإرث الأسدي من فن وقوانين ونظم إدارة الحكم. ما هو مؤكّد وصحيح أن المعارضة السورية بجناحيها السياسي والعسكري، لا تمتلك قوام الدولة، كما لا تمتلك الإمكانيات والقدرات المادية التي بحوزة نظام الأسد، ولكنها – دون أدنى ريب – تملك طرق التفكير وآلياته ووسائله، والتي من خلالها تظهر بوادر استنساخ أنماط التفكير لدى الآخر، ومن هنا يمكن تفهّم مدى نفور تلك الكيانات وانزعاجها ونزقها ممّن يرى ضرورة إعادة بناء البيت الداخلي للمعارضة، واستدراك حالات الفساد والحرص على أمن المواطنين، ووقف التغوّل على حقوق الناس، ذلك أن المواجهة الأساسية في المرحلة الراهنة – وفقاً لخطاب المعارضة – هي محاربة النظام، وتشتيت هذه المواجهة بمهام أخرى هو استنزاف للطاقات،أمّا كيف ستتم مواجهة نظام الأسد؟ هل تمكن تلك المواجهة دون وجود أطر حقيقية ذات تماسك تنظيمي وإداري، ودون تمثيل سليم وتعاضد حقيقي بين جمهور الثورة وقيادتها، أم أن الشعارات وحدها تكفي للمواجهة؟ وهل هذه المواجهة محكومة بمرجعيات ونظم وخطط ذات حيّز زمني محددّ وتخضع لمراجعات ومساءلات وتقييم، أم أنها مواجهة مفتوحة في سبيل المطلقات، كما مواجهة نظام الأسد للإمبريالية والصهيونية؟ وهل قبول اللجنة الدستورية استمرار الحوار مع وفد النظام دون الالتزام بأي سقف زمني، وذلك خلافاً لما نص عليه القرار 2254 ، سوى نوع من مواجهة المطلقات؟ ثم أليس سعيُ المعارضة لتعزيز القناعة لدى السوريين بأن قضيتهم خرجت من أيديهم، وما عليهم سوى الانتظار على قارعة الزمن، إلى أن تتفق مصالح الدول النافذة في الشأن السوري، سوى تبرير واضح للجم الأعين والألسن عن أية إستحقاقات تنتظر المعارضة؟ وهل كون القضية السورية باتت بأيدي دولية خارجية يوجب أن يتحول عمل المعارضة إلى نشاط وظيفي لدى تلك الدول فحسب؟
بالتأكيد لا تعدم كيانات المعارضة سبل إيجاد مبرّرات صنيعها، كما أنه ليس ببعيدٍ أبداً ألّا ترى في أي حديث من هذا النوع، سوى ضرب من التشويش والغوغائية حيناً، أو هو مسعى يهدف إلى خدمة الخصم أحياناً أخرى، بل كثيراً ما نظرت إلى ذلك في عداد المزاحمة على المناصب، ولذا فمن غير المُستبعد أن تكون تهمة العمالة والخيانة قرينة هكذا خطاب، لأنه يتجاهل أن لدى المعارضة أطراً تنظيمية مُحصّنة بلوائح داخلية وقوانين ناظمة لعملها، ولا شيء يجري اعتباطاً، بما في ذلك تبادل المناصب بين رؤساء الكيانات، أو تجديد البيعات أو سوى ذلك، كما لا تعدم كذلك، إيجاد لفيف من مستفيدين وصحفيين وناشطين على وسائل التواصل للدفاع عن قناعاتها وسلوكها، وهذا ربما من حقها، ولكن الأمر الذي بات عصيّاً على الخفاء أن مجمل تلك القوانين واللوائح الناظمة لعمل المعارضة الرسمية باتت قابلة للاندحار – ومنذ زمن – أمام سطوة المال السياسي والنفوذ الخارجي، وباتت الحاجة إليها مرهونة بمصلحة صاحب المنصب أو القائم عليه، وبالتالي فقدت وظيفتها من حيث القيمة، واحتفظت بها شكلاً فقط.
قناعة الشرفاء في العالم والإنسانية بعدالة القضية السورية، وانحيازهم إلى مطالب السوريين المشروعة، وبالتالي مطالبتهم باتخاذ مواقف أكثر قيميةً وأخلاقية حيال معاناة السوريين، لهي مرهونة، ليس بتفّوق عسكري وحيازة أوراق قوة مادية على نظام الحكم الأسدي فحسب، بل بتفوّق أخلاقي أيضاً، وخاصة لدى من يقود ثورة السوريين.
المصدر: تلفزيون سوريا