عندما توفي الشاعر الكبير أمل دنقل، (الجنوبي)، بحسب وصفه لنفسه في آخر قصيدة كتبها قبل رحيله، في 21 آيار/مايو 1983، لم أكن قد قرأت من شعره الا القليل، وهذا القليل هو (لا وقت للبكاء) التي كتبها في رثاء عبدالناصر، عميقة الدلالات والمعاني، وقصيدته الرائعة (لا تصالح)، بحكم بنيتي الذهنية والثقافية المرتبطة بقضية الصراع العربي الصهيوني، ورفض “الصلح” والتطبيع ومانتج عنهما، من خروج مصر من معادلات الصراع في المنطقة، والقصيده نفسها، كما هو معلوم، تحولت في سنوات الثورة السورية الماضية الى مايشبه اللاءات والثوابت الوطنية.
في آواخر آب/ أغسطس 1983 كنت في اليونان/ أثينا عند شقيقي محمد، في زيارة له بعد خروجه من بيروت والحصار، والتي أصبحت منفاه الجديد، الاختياري، وكان مستمرا في كتابة زاويته الثقافية، التي هي مبتدأ القسم الثقافي الغني والمتنوع، في مجلة (الشراع) اللبنانية، الذي كان يرأس تحريره، رغم مغادرته وبعده عن لبنان، والتي تحمل عنوانا ثابتا: (مواعيد ثقافية) كان يتطرق فيها لشتى قضايا الأدب والثقافة وحتى شؤون الفكر المعاصر، وفي صبيحة احدى الأيام، أثناء الزيارة، استيقظت لأرى أبا خالد، كعادته في النهوض المبكر والكتابة، قد أنهى عددا من المقالات لمجلة (الشراع) من بينها مقالا عن الراحل الكبير أمل دنقل بمناسبة صدور آخر دواوينه (أوراق الغرفة 8)، الذي كتب معظم قصائده خلال سنوات مرضه وتلقي العلاج، في المعهد القومي للأورام، وصدر بعد رحيله.
قرأت المقال متأثرا بمعاناة أمل دنقل، وألمه ومواقفه، ورسخ في ذهني، حتى الآن، رغم انقضاء كل تلك السنوات، وماحفلت بها من أحداث وتطورات أنستني الكثير، الكثير…
عندما وصلت السويد/ استوكهولم، في 17 نيسان/ أبريل 2021 ، في رحلة مرض ووداع شقيقي الراحل محمد خليفة توجهت فورا الى المشفى الذي كان يتلقى العلاج فيه، من إصابته بمرض الكورونا، برفقة أولاده، لزيارته والاطمئنان على صحته المتدهورة، والاستماع الى رأي الأطباء، وتقرير حالته التي لم تكن مطمئنة على الإطلاق.
بعد اجراءات معقدة تتعلق بالوقاية من فيروس الكورونا، دخلنا الى جناح إقامته في العناية المركزة الذي يضم الحالات الأشد خطورةً، وأنا أسير باتجاه غرفته في بهو طويل أشارت ابنته الكبرى، ربى، لي بيدها الى غرفته، تسمرت قدماي عند تلك اللحظة، رغم سرعة خطاي، قبل ذلك، لأصل لعنده وألقي نظرة عليه لعلها تبعث بعض الأمل وتعطي بعضا من الطمأنينة.!
كانت الغرفة تحمل الرقم (8)، فورا تذكرت ديوان أمل دنقل وقصائده الأخيرة في مرضه، قائلا في نفسي ماهذه المصادفة الغريبة، وأي لعنة يحملها هذا الرقم…؟؟
تذكرت العبقري أمل دنقل ورحلتي الى اليونان وماكتبه أبا خالد عنه… ومشوار عمره الموجع والقصير (مات عن عمر 43 سنة) وقصائده التي حفظت مقاطع كثيرة منها، بعد ذلك، في السنوات الماضية، واقتناء أعماله الكاملة، والاستمتاع بصوته وهو يلقي قصائده، بين الحين والاخر، بعد أن تحول في وجداني، ووجدان الكثيرين، الى وشما ورمزا، يعطينا بعضا مماله من اسمه (أمل)…
تذكرت أمل دنقل القائل:
كل هذا البياض يذكرني بالكفن
فلماذا اذا مت يأتي المعزون متشحين بشارات لون الحداد؟؟
هل لأن السواد هو لون النجاة من الموت
لون التميمة ضد الزمن؟!
ضد من…؟!
مر شريط سريع من الذكريات عن مشوار وعطاء محمد خليفة ونضاله وتضحياته ومواقفه، كنت أستعيده، أو أجزاء منه، مع كل زيارة، يومية، له، محدقا بالرقم (8) الذي تحول في ذهني الى مشأمة، ربما بات يحتاج إلى تعويذة، حتى غادر دنيانا وأنا بالقرب منه، عاجزا أمام إرادة الله ومشيئته…
تذكرت محمد خليفة في قصيدته التي ألقاها في مهرجان شعر الثورة السورية الأول، في آذار/ مارس الماضي، التي لخص فيها حياته ومسيرته وأمنياته.
أتراني أراك ثانية ياوطني…بعد كل تلك السنين
أتراني أعود ياحلب الشهباء… يوما الى حماك الأمين؟؟!!
وأصلي على ثراك ركيعاتي… الأخيرات مفعما باليقين…
ثم ألقي رأسي على صدرك الدافئ …
مستسلما لوجد دفين…
حالما باستعادة الزمن الوردي… من عمري الحزين…الحزين.
حالما باسترداد كينونتي…سيرورتي..منذ كنت فيك جنين.
أم تراني أموت في غربتي… مثل سنوة براها الحنين…
مثل بحار أنفق العمر يمضي… من سديم الى سراب لعين…
واجه المستحيل وجها لوجه …وتحدى الأخطار حيناً فحين …
راوغ الموت…ناوش اليأس…لاقى قسوة الدهر والزمن الضنين….!!
بين أمل دنقل ومحمد خليفة مشتركات كثيرة في رحلة الحياة والموقف، ولا تقف عند رقم الغرفة التي رحل كل منهما فيها.
رحم الله الثائر محمد خليفة…
رحم الله المبدع المتمرد أمل دنقل القائل على فراش موته:
فاشهد لنا ياقلم
أننا لم ننم
أننا لم نقف بين “لا” و”نعم”
ما أقل الحروف التي يتألف منها اسم ما ضاع من وطن.
مصادفات القدر، أحيانا، موجعة ومؤلمة…!!
رحمهما الله…
====