في مؤتمر صحافي عقده بعد قمة السبعة الكبار قال بايدن: “قد تحدث أشياء كثيرة في المجالات التي يمكن أن نتعاون فيها مع روسيا. في ليبيا مثلاً، حيث نعمل على فتح ممرات لتقديم مساعدات غذائية واقتصادية، أي تقديم المساعدة الحيوية للسكان الذين يعانون من كوارث حقيقية”. هكذا أتت الفرصة ليحتفي الإعلام الروسي الموالي لبوتين بـ”هفوة” بايدن، فهو كان يقصد سوريا لا ليبيا، وكان يقدّمها مثالاً على فتح صفحة للتعاون بين البلدين قبيل القمة التي تجمعه ببوتين الأربعاء في جنيف.
كما نعلم دأب ترامب على وصف بايدن بـ”النعسان” بسبب كثرة هفواته، والجديد في الهفوة الأخيرة أن صاحبها يخطئ في ذكر اسم البلد الذي يضربه مثلاً على إمكانية التعاون مع موسكو. واختياره سوريا يحتمل ما يبرر الهفوة، إذا كان المقصود منه اختبار العلاقة بين الطرفين بدءاً من الملف الأبسط والأسهل بحسب تصور بايدن، ولا يتناقض مع ذلك أن تكون الهفوة تعبيراً عن سياق من عدم اكتراثه بالملف السوري.
كان بايدن، قبل ثلاثة شهور من قمة الغد، قد وصف بوتين بالقاتل في حوار تلفزيوني، ومن ضمن رده تمنى بوتين لبايدن الصحة في إشارة واضحة إلى تقدمه في السن وهي صيغة أقل تهذيباً من النعت الذي دأب ترامب على استخدامه. إذاً، يُفترض أن تكون سوريا موجودة على طاولة القمة “بين القاتل والنعسان”، إنما من دون تعليق أوهام على ذلك، فالاختبار المطروح أمريكياً يقتصر حالياً على موافقة موسكو في مجلس الأمن على إدخال المساعدات الإنسانية، وهو الجانب الوحيد الذي أبدت إدارة بايدن اهتماماً به.
المعلن في الجانب الأمريكي مقايضة إنسانية، توافق بموجبها موسكو على استمرار وصول المساعدات من معبر “باب الهوى” وعلى إعادة فتح معبرين آخرين، معبر “اليعربية” الذي تطالب به واشنطن لإيصال المساعدات إلى مناطق الإدارة الذاتية، وربما معبر “السلامة” الذي تطالب به أنقرة. في المقابل، تلحظ واشنطن الأوضاع الإنسانية المتردية في المناطق الواقعة تحت سلطة الأسد، وستستفيد هذه المناطق من المساعدات الأممية، إذا تم إقرارها في الحادي عشر من شهر تموز القادم، وتمتنع واشنطن عن إصدار عقوبات جديدة تضغط على اقتصاد الأسد، وتستثني على نحو أوضح المساعدات الإنسانية التي قد تتبرع بها له دول خليجية.
ما تضغط موسكو لأجله فيه طموح أعلى بكثير، فهي في الاجتماع القادم لمجلس الأمن “المخصص للبت في مصير المعابر والمساعدات” تريد إغلاق معبر “باب الهوى” وهو الوحيد المتبقي، وستطرح إدخال المساعدات الأممية كلها عبر منافذ يسيطر عليها الأسد، ثم يتم إرسال جزء منها بإشراف منه إلى مناطق خارجة عن سيطرته. الخطة الروسية تربط بين تصور موسكو السياسي وطموحاتها وبين الجانب الإنساني، إذ تسعى إلى تكريس شرعية الأسد كجهة وحيدة مخولة باستلام المساعدات وتوزيعها رغم معرفة العالم كله بما سيعنيه تحكم الأسد بتلك المساعدات لجهة عدم ضمان وصولها إلى مستحقيها، سواء في أماكن سيطرته أو خارجها.
سلاح موسكو في مفاوضات المعابر هو الابتزاز، فإما المساعدات عبر الأسد أو لا مساعدات على الإطلاق، واحتمال التوقف الكلي للمساعدات لا يؤرقها، فبوتين الذي دأب على تحدي العقوبات الاقتصادية الغربية التي أثرت على معيشة مواطنيه لن يكون أكثر اكتراثاً بمعاناة السوريين. ما يسوّقه بوتين داخلياً هو تحقيقه اختراقات استراتيجية خارجية تعيد لبلده كرامتها، وستدرّ عليها المكاسب الاقتصادية لاحقاً لأن الغرب سيرضخ للأمر الواقع، أي أن المقايضة التي يريدها بوتين في سوريا هي تلك التي يستطيع تسويقها كمكسب سياسي، وآخر ما يود التورط فيه تسويق نفسه كزعيم يرضخ للاعتبارات الإنسانية!
في الطريق إلى لقاء القمة، أتى التصعيد المحدود “لكن العنيف جداً” في إدلب وعفرين، وهو بمثابة رسالة لإيضاح قدرة موسكو على تفجير الوضع المستقر نسبياً، وهي رسالة موجهة إلى بايدن وأيضاً إلى أردوغان الذي سيسبقه بلقاء نظيره الأمريكي على هامش قمة قادة الناتو. الرسالة المزدوجة تذكّر أردوغان وبايدن بأن الوجود التركي لن يهنأ بالهدوء إلا عبر التفاهم مع موسكو، وتلمّح إلى استعداد بوتين لقبض الثمن على حساب نفوذ أنقرة بدل المقايضة الأمريكية المطروحة.
لدينا زعيم أوحد وطليق اليدين في سياساته الداخلية والخارجية هو بوتين، وفي المقابل رئيس أمريكي مقيّد بسياسات لن يتجاوزها، ما لا يضع الثاني في موقع الأفضلية لفرض شروطه. السياسة الأمريكية منذ أيام أوباما مقيّدة بما ألزمت واشنطن نفسها به؛ لا تدخل عسكرياً ضد الأسد، ولا وجود لاعتراض جدي على تدخل حليفيه الروسي والإيراني لصالحه عسكرياً. التسوية السياسية التي تعلن واشنطن سعيها إليها بعيدة المنال؛ بشار الأسد رفضها ورفض أدنى تنازل وهو في أسوأ أوضاعه، والمضي بها رغماً عنه يتطلب توافقاً أمريكياً مع كل من موسكو وطهران مع توافق الحليفين في ما بينهما.
ضمن ما قيّدت واشنطن نفسها به، كان واضحاً منذ بدء التدخل الروسي أنه لن يلقى مصير التدخل الروسي في أفغانستان، في حين تبذل واشنطن جهدها كي لا يلقى وجودها في سوريا متاعب تحرجها فتضطر إلى تدعيمه أو إلى الانسحاب. جدير بالذكر أن الإقدام العسكري الروسي يلتقط الفرصة مع توجه واشنطن إلى الانسحاب العسكري من مختلف مناطق التدخل السابقة، وهي سياسة مُتفق عليها بين الجمهوريين والديموقراطيين، مثلما هو متفق بين الجانبين على أولوية التصدي للخطر الصيني المتصاعد والمدعوم بقوة اقتصادية عظمى بالمقارنة مع اقتصاد روسي يُقارن مستواه عادة بالاقتصاد الإيطالي.
سيكون حضور سوريا في القمة بين جشع القاتل وتواضع ما يريده النعسان، وهذا يرجع من جانب آخر إلى تقييد إدارة بايدن نفسها بمفاوضات الملف النووي مع إيران، وما سينجم عنها من تفاهمات حول دور طهران الإقليمي. لذا قد تكون المفاوضات أمام إخفاقين؛ أولهما عدم الاتفاق على صفقة إنسانية وحينها تتوقف المساعدات الأممية عن السوريين في مختلف المناطق، وثانيهما أن يقدّم بايدن تنازلاً عن “قطعة نفوذ جديدة”، إما من حساب الإدارة الذاتية أو من حساب أنقرة، وهذا الاحتمال يمر عادة على جثث ضحايا جدد ويخلّف المزيد من اللاجئين. الاحتمال الثالث أن يقبض بوتين في مكان آخر، وهذا يتطلب أن تكف واشنطن عن استرخاص سوريا واستسهال الدفع منها، وربما يتمكن بايدن آنذاك من حفظ اسمها فلا يخلط بينها وبين ليبيا.
المصدر: المدن