أثارت المعركة الأخيرة التي شهدها قطاع غزة الكثير من الأسئلة والقضايا، بقدر ما أثار من الزوابع السياسية والسقوطات الأخلاقية وانكشاف المزيد من التبعية. ولعل أكثر الأسئلة أهمية بالنسبة لنا كسوريين هو قضية المقارنة بين مسار الثورتين السورية والفلسطينية. فالمعركة الأخيرة لم تتوقف عند حدود غزة والقصف الهمجي المعتاد للعدو الإسرائيلي وأعداد الضحايا من الأبرياء أطفالًا ونساءً وشيوخًا وحجارةً وأشجارًا وذكريات. بل تعدتها إلى الإستطالات التي زلزلت الكيان الصهيوني سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، ووضعت مناصريه التقليديين والمستحدثين في حرج لم يحسبوا حسابًا له. ولم يقف الرد الصاروخي عند حدود الآثار التي تركها والأهداف التي أصابها والقتلى الذين خلفهم، على الرغم من تواضع الأرقام التي تم الاعتراف بها، بل تخطاها فأحدث زلزالًا فاجأ الجميع. ولعل أكبر تبعات هذا الزلزال موقف فلسطينيي 48 الذين تحركوا لنصرة الشيخ جراح ومن ثم غزة وأعادوا صناع القرار في الكيان إلى مربع غادروه منذ زمن بعيد حتى نسوا كيفية التعامل مع فصوله ونتائجه وتبعاته.
حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر في فلسطين المحتلة، إذ وجد الإسرائيلي نفسه بين نارين: نار الصواريخ الغزاوية ونار الانتفاضة الجديدة التي تلوح في الأفق في عمق “دولته” هذه المرة. فكان قرار الموافقة على وقف الهجمات المتبادلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بالنسبة لنتنياهو قبل أن يمر أسبوعان على المعركة والتهديدات باجتياح بري للقطاع. كما بات الأصدقاء الجدد في حيص بيص: إعلان الدعم للعملية العسكرية الإسرائيلية وشيطنة المقاومين، ومواجهة غليان الشارع المحلي نتيجة التغول الإسرائيلي في القصف وعدم التمييز بين الأهداف المدنية وتلك العسكرية.
بعيدًا عن الرعونة التي أقدم عليها قادة حماس والولدنة السياسية في توزيع الشكر شمالًا ويمينًا على من هب ودب، لكن المعركة الأخيرة أعادت للقضية الفلسطينية ألقها القديم وذكرت العالم أن الشعب الذي ظنوه تطبع واستكان خرج من القمقم الذي حبسوه فيه، وأظنها أعادت اللعبة إلى نقطة الانطلاق أو كادت، تلك النقطة التي يحمل أصحابها الآن أدوات مختلفة عن تلكم التي حملها أسلافهم. كما أنها، وهذا هو الأهم، أعادت إلى الشعب وحدته المفقودة، هذه الوحدة التي تعتبر التهديد الوجودي الأكبر الذي يواجه الكيان ويجعل قادته يعيدون حسابتهم من جديد. ويبقى أن تشهد الساحة السياسية الفلسطينية تحركًا يجسد هذه النقلة ويلم شمل العائلة المشرذمة تحت راية فلسطين، وليس رايات الفصائل. ولا أظن الأمر سيتم بالموجود من القادة.
فإذا ما انتقلنا إلى قضيتنا نحن، السوريين، نرى الحسابات فيها منسوخة الأرقام، مهترئة الخانات. فالتشرذم الذي شهدنا بوادره مع انطلاقة البعد السياسي للثورة تحت مسمى المعارضة، بين مجلس وهيئة، استمر وتغلغل في جسد الثورة وأبنائها مما زاد في تفتيت القوى العاملة على الأرض حتى انكمش العمل الثوري والمنجزات وانحسار الجميع إلى “قطاع” إدلب، تيمنًا بقطاع غزة، الذي يخضع لسيطرة جبهة النصرة/جبهة فتح الشام/هيئة تحرير الشام، سمها ما شئت.
ثم، كان هناك إنشاء حكومة الإنقاذ في قطاع إدلب التي قامت بهدف تصحيح مسار الحكومة السورية المؤقتة التي لم نشهد لها مسارًا ملموسًا بالأساس. وهذا ما زاد الطين بلة وكرس الانقسام بين المحرر والقطاع سياسيًا وإيديولوجيًا.
وليس الوضع في المحرر بأفضل منه في إدلب على صعيد الانقسام الطولي والعرضي. فالفصائل انقلبت إلى جماعات تتقاسم النفوذ فيما بينها، وباتت المناطقية والجهوية تلون الانتماءات التي يفترض أن تكون للثورة وحدها. حتى وصل الأمر إلى ما شهدنا من تأخير استقبال المرحلين من الجولان لساعات طوال دون التفات إلى وضعهم وحالهم، وإلى ما نسمع من اغتيالات واستقواء، حتى عاد بنا الحال إلى عهد القبضايات. وهذا غيض من فيض.
أما في المناطق الخاضعة للنظام، فيكفيك أن ترى حفلات الرقص التي قامت، ولو بالإكراه، يوم الانتخابات لتعلم الدرك الذي وصل إليه مفهوم الانتماء والأخوية والغيرية عندنا. وهذا ليس جلد للذات بقدر ما هو تسجيل علامات استغراب ودهشة من هذه المواقف التي لم يستثن منها إلا موقف النشامى في درعا، ومعها مشاعر خزي وأسى لهذا الحال الذي رأيناه.
فإذا ما وضعنا التجربتين، الفلسطينية والسورية، في ميزان المقارنة نجدهما تسيران باتجاهين مختلفين مع بقاء احتمالية النكوص قائمة نظرًا لتبعية الأطراف الفاعلة على الأرض، مع أنهما مرتا بالكثير من المواقف المتشابهة، وواجهتا العدو نفسه محليًا وإقليميًا ودوليًا. فهناك تجربة بدأت تتلمس طريق استعادة الوحدة على نطاق الشعب، على الرغم من خفوت الصوت بعد توقف القتال، وهناك تجربة تتخبط في مسارها وتتشظى غايتها الأسمى إلى أهداف وأغراض شخصية وأقلوية بلون مناطقي، فتزيد من انقسام من بقي من شعب منهك، وتجعل من هاجر أو لجأ منه يجد لنفسه المبرر في تناسي ثورته، إن كان أصلًا ينتمي إليها.
المصدر: إشراق