جان دوست روائي سوري لاجئ في أوروبا، له العديد من الروايات التي تتناول الوضع السوري. باص أخضر يغادر حلب هي الرواية الأولى التي أقرها له.
تعتمد الرواية تقنية التحدث بلغة المتكلم، في بوح ذاتي للشخصية المحورية في الرواية؛ عبود العجيلي ابو ليلى، الذي يجلس في باص من باصات الترحيل التي نقلت المسلحين والمدنيين من حلب في كانون الأول من عام ٢٠١٦م. بعد توافقات بين تركيا وروسيا، على إنهاء حالة الحصار والقتل والموت اليومي والتدمير. ابو ليلى السبعيني إبن حلب يجلس على أحد مقاعد الباص يحمل بعض أمتعته. يتوقف الباص الأخضر المشهور الذي واكب ترحيل السوريين من أغلب مدنهم الثائرة، أمام أحد الحواجز العسكرية للنظام السوري على طريق الترحيل، يصعد العسكري ويطلب من ابو ليلى إبراز هويته، لكنه لا يستجيب وبعد تكرار الطلب ، لمس العسكري ابو ليلى ابو ليلى، تبين أنه قد فارق الحياة.
الرواية تعتمد الخطف خلفا كتقنية سينمائية، بالعودة الى محطات حياة ابو ليلى، متقاطعة مع تواجده في الباص مستعداً لمغادرة حلب بشكل نهائي. استرجاع للماضي ومن ثم العودة تصاعديا في الزمن والحدث الروائي، هناك مواكبة لما يعايشه أبو ليلى في الباص، لتنتهي الرواية بلحظة اكتشاف موته على الحاجز العسكري، و بين اللحظتين تدور أحداث الرواية أمامنا.
عبود العجيلي الملقب ابو ليلى على اسم ابنته الوحيدة رغم وجود أربعة أولاد ذكور لديه، لأنه كان يحبها ويحب أن يكنى باسمها. عبود من مواليد خمسينيات القرن الماضي، إبن إحدى قرى عفرين في الشمال السوري، سكان هذه القرية من العرب والكرد، المتعايشين منذ سنوات بعيدة. لم يهتم بمتابعة التعلم الدراسي، توجه باكرا إلى العمل في التهريب بين سورية وتركيا، وذلك كأغلب سكّان هذه البلاد مستفيدين من كونهم يقطنون على الحدود بين البلدين، وأن هناك دوما ما يجب أن يُهرّب بينهما، ويؤمن لهم عائده فُرص حياة أفضل، تعرّف عبود على تاجر كردي آخر كان يعمل في التهريب ايضا، كان اكبر بالسن منه، وله اسرة، وبعد توطد العلاقات والثقة المتبادلة بينهما والزيارات، تعرّف عبود على نازلي ابنة صديقة الكردي، أحبا بعضهما، ومن ثم تزوجا، وبعد مضي فترة استقرّوا كأسرة في حلب حي هنانو، انجبت العائلة أربعة أولاد عبد الناصر وعمر وعاصم وعلي، إضافة لابنته الوحيدة ليلى. يمر الكاتب على الجانب العام لحياة عائلة عبود منذ تسلم البعث السلطة في سورية بعد الانفصال عن الوحدة المصرية السورية، وكيف أصبح حزب البعث هو الحاكم المسيطر على الحياة العامة والجيش والأمن، منذ البداية.
يمر عبود على تطور حياة أولاده تباعا، إبنه الأكبر عبد الناصر يلتحق في الخدمة العسكرية الالزامية في ثمانينات القرن الماضي، ويكون في الوحدات الخاصة، ويخدم في لبنان، وكيف أتوا به مقتولا إلى أبيه، وقد أسموه شهيد الواجب الوطني وأنه قتل بيد قناص فلسطيني، في إحدى مخيمات الفلسطينيين في لبنان، في اشارة الى التدخل السوري في لبنان، واجتياح تل الزعتر وغيره من المخيمات، ووقوف النظام السوري وجيشه ضد الفدائيين الفلسطينيين والقوات الوطنية اللبنانية، وستكون تلك المرحلة مقدمة للسيطرة المطلقة للنظام السوري على لبنان بالكامل.سيكون مقتل عبد الناصر ابن عبود أول غصّاته الحياتية القاسية. سنتابع مع الروائي الربط بين حياة عبود الخاصة وما يحصل على المستوى العام وواقع سورية على كل المستويات. النظام المستبد والهيمنة المطلقة على كل الموارد الاقتصادية، واحتكار السياسة وواقع الفاقة والفساد، هيمنة النظام عبر الأمن والجيش، مرور سورية بامتحان الثمانينات والمذابح المصاحبة، الاعتقالات والسجون، والموت الواقعي للعمل السياسي المعارض السوري، وأن موت رأس النظام الاب واستلام ابنه كان مجرد مسرحية استلام وتسليم سهلة، وأن ما حصل في ربيع دمشق اوائل الالفية الجديدة، كان وهما ديمقراطيا، تمّ التعامل معه بقسوة ولم يبق منه، الّا حلم ديمقراطي مهزوم مع اعتقال وسجن العديد من الناشطين. كانت حياة عبود وعائلته مستقرة في هذا الواقع بكل تبعات الحياة القاسية عليهم وعلى اغلب ابناء المجتمع،. استمرّ ذلك الى أن جاء الربيع العربي، وانتقلت شرارته لسورية، التي كانت متهيئة لها، وكيف تحرك الناس مطالبين بحقوقهم الانسانية حرية وكرامة وعدالة وديمقراطية وحياة افضل، رغم رعب الناس من عقود من القهر، لكن ذلك لم يكن ليرضي النظام ويقبله، فهو يملك القوة والارادة ان يقتل الناس ويحرق البلد ويستمر في السلطة، وأن القوى الدولية والاقليمية المؤثرة في سورية لم تكن تهتم بالشعب السوري وحقوقه، بل بمصالحها التي وجدتها مع النظام، لذلك تركته يقوم بأسوأ حملة قتل وتهجير وتدمير للشعب السوري، ولأي شعب في العالم بالعصر الحديث، من قبل سلطة تعتبر نفسها ممثلة لهذا الشعب.
في هذه الأجواء تخوض الرواية عبر بطلها عبود أبو ليلى في الواقع المعاش في حلب في السنة السابعة للثورة السورية، وفعل النظام الذي اصبح متوحشا من حيث عنفه، وقساوته. فقد اصبحت احياء حلب الشرقية هنانو والسكري وغيرهم تحت حملة قصف يومي دائم بالبراميل المتفجرة، الطيران الحربي السوري والروسي، والصواريخ والراجمات ومدافع الميدان، والقناصين الموزعين على أسطح الابنية المطلّة. أصبح كل بيت منكوب في أب ضحية وأم مصابة وابن مات تحت الانقاض. الكثير من أهل الحياء المستهدفة ترك كل شيء وغادر الى مناطق سيطرة النظام او الى تركيا او إلى البحر بحثا عن حياة بديلة في الغربة.
عايش ابو ليلى كل ذلك بشكل يومي، يتذكر ابنه عبد الناصر ويرى أن حلب وكل سورية الآن ضحية لذات النظام الذي قتله في السابق. يتذكر أنه أحب ابنته ليلى كثيرا وفضّلها على أولاده الذكور، وانه اعطاها فرصة ان تستمر بتعلمها الجامعي، لتصبح معلمة بعد ذلك، ولتتعرف على فرهاد طالب الطب في مقصف الجامعة في حلب، عن طريق اخته زميلتها، وأنهما احبّا بعضهما وحصلت علاقة حب توّجت بزواج، وعاشت مع زوجها في مدينة منبج. حتى جاءت الثورة السورية وتطوراتها، وخروج أغلب المدن والمناطق عن سيطرة النظام ومنها منبج ذاتها. يتحدث عن تغير واقع الثورة على الأرض عندما اصبحت ضحية تدخلات خارجية ، وهيمنة فصائل مسلحة نسيت الثورة واهتمت بمصالح قادتها والنهب وصراعات المصالح بين بعضهم، وكيف سُرقت معامل حلب وفُكّكت وبيعت في تركيا، وكيف جاءت داعش النسخة الاسوأ للقتل الأعمى، التي اجتاحت المناطق المحررة وذاق الشعب السوري في مناطق هيمنتها حياة أقرب للجحيم، وتحت ستار الإسلام؛ للأسف، الذبح والخطف والقتل أصبح خبزا يوميا للناس. فرهاد وليلى واولادهم الثلاثة كامران وآلان وميسون، كانوا يعيشون في أمان في منبج، حتى جاءت داعش، خطفوا بالقوة فرهاد الطبيب وأخذوه عنوة، استخدموه في معالجة مصابيهم، في منبج ثم في باقي المدن التي يسيطرون عليها، حتى وصلوا به الى الموصل حيث مركز خلافتهم، كان قد أقسم الولاء للخليفة خوفا وتقية وحماية لنفسه وعائلته، ومع ذلك أخذوه وغيبوه عن عائلته أكثر من سنة، وعندما يئس من العودة الى أهله، تمرد عليهم وكان مصيره الذبح بعد ان افتى احد الشرعيين بقتله لرفضه أوامر الخليفة، وخروجه عن الطاعة. أما ليلى وأولادها الصغار فقد صبروا بداية على غياب الأب، ومع طول الفترة وعدم إجابة مسؤولي داعش عن مكان وجوده ومتى يعود، خافت ليلى عليه، واستمرت تنتظره، لكن مسؤولي داعش ارادوا اخذ بيتها منها، لكنها لم تسلمهم له. في هذا الوقت كان الوضع في حلب ينتقل من سيء الى اسوأ، القصف والتدمير والقتل اليومي من النظام وحلفائه المرتزقة الايرانيين وغيرهم والطيران الروسي، اقترن مع حصار جعل حياة الناس داخل حلب أقرب للجحيم، مع ذلك قرر أبو ليلى أن يذهب الى منبج ويحضر ابنته واولادها الى حلب لتعيش معه، حتى عودة زوجها فرهاد؛ إن عاد. وفعلا ذهب بصحبة اختيه، الى منبج واحضر ابنته ليلى التي كادت تجن من غياب زوجها ومضايقة داعش لها، احضرها الى حلب وعاشت في كنف والدها مع اولادها، توازنت نفسيا نسبيا. لكن واقع الجحيم اليومي المعاش من طائرات تقصف وبراميل متفجرة تقتل وتدمر، ونقص في حاجات الحياة، جعل الاستمرار بالحياة نصر كبير. احتفلت العائلة بعيد ميلاد ميسون، لبلوغها سن الخامسة، ابنة ليلى وحفيدة عبود، التي يحبها جدّها كثيرا، استطاع الحصول على ثلاث شمعات، أكملتها الام بأوراق بديلة، ليصلوا الى خمس، ميسون الصغيرة واخوتها واولاد الحي المتبقين، اعتادوا على القصف والطائرات والبراميل المتفجرة، يختفون وقت الغارة، ويعودون إلى الشارع ولعبهم، كل الوقت. لا يهتمون لتحذيرات الأهل، فالحياة عندهم مقترنة بالقصف والتدمير والقتل اليومي، هكذا وعوا وجودهم، وكأن لا حياة أفضل بديلة.
جاءت الطائرة، ميسون وأطفال الحي يلعبون في الشارع، ألقت الطائرة برميل، أصابت شظية ميسون، دونا عن بقية الأطفال، شطرها الى نصفين، توفيت بالحال، حضر جدها الى الحي من جولته اليومية في كل المناطق يتفقد المتغيرات، ويلتقي بمن بقي، وينتظر موتا يتمناه ولا يأتيه في مدينته التي تموت تحت نظره، وصل الى الحي وجد جثة حفيدته ميسون شطرين والدفاع المدني يلمّ جثّتها، ركض الى حفيدته والمرارة تحتل قلبه. أطلت أمها على جثة ابنتها، اصيبت بالخرس والجنون بعد ذلك.
هاهي الحرب وفعل النظام وحلفائه يقتل احبة ابو ليلى أول بأول، كما أنه يدمر مدينته التي عاش فيها. يتذكر أبو ليلى وهو في الباص الأخضر وقت الترحيل ما حصل لأولاده الأربعة، عبد الناصر المقتول في لبنان، وعمر الذي كان في الجيش ثم انشقّ في بداية الثورة، والتحق بأحد كتائب الجيش الحر، واكتشف أن أغلبهم انتهازيين و مرتبطين بأجندات لا علاقة لها بالثورة ومصلحة الناس، وكيف أنه ترك العمل المسلح بعد ذلك والتحق بالدفاع المدني ينقذ المصابين والجرحى و يلم الجثث والأشلاء ويسعف من يحتاج لإسعاف، حتى وقع ضحية قصف عندما كان وزملاءه ينتشلون الناس من تحت انقاض احد الابنية، عندما عادت الطائرة و قصفتهم، سقط ميتا تحت ردم جديد من قصف طاله ومن معه. أما ابنه الثالث علي فقد عاش حياته يعشق البزق ويعزف عليه، ترك كل شؤون الحياة، وعندما جاءت الثورة ووصلت الى ماوصلت اليه حال حلب، قال لوالده لا علاقة لي بكل ما يحصل. غادر الى اخواله في ريف عفرين وضاعت اخباره هناك، أما ابنه الرابع عاصم فقد قرر أن يهرب ناجيا بحياته، غادر الى تركيا، ومنها في البحر الى اليونان عن طريق المهربين، وفي اليونان، نُقل على متن باخرة كبيرة الى جزيرة اخرى، وفي النقل وأثناء تجوله على ظهر السفينة، أصيب بدوار البحر، كان على حافة السفينة، سقط في البحر وغرق. ماتت معه أحلامه بأوروبا وحياة بديلة. كان ابو ليلى يعيش مع زوجته وابنته وأحفاده، قُتلت حفيدته ميسون بقي الصبيان الصغيران، وأمهما الخرساء القريبة من الجنون. وزوجته التي ترعى ابنتها والطفلين. مازال يعيش المآسي تتالى على حلب وأهلها وعليه وعلى عائلته، وكان آخرها، مرض زوجته المفاجئ، واسعافها للمشفى الميداني، حيث تبين انها مصابة في التهاب بالزائدة، تركها في المشفى لوجود ازدحام بالمصابين والجرحى، وعاد للبيت، على أن تجرى لها العملية، لكن طائرات النظام كانت أسرع، حيث حلقت فوق المشفى الميداني و قصفته. قتلت زوجته وكثير من المرضى والمصابين وأغلب الطاقم الطبي. هكذا اصبح ابو ليلى وحيدا في منزله الذي أصبح محطما، شاردا في الشوارع المهدمة الفارغة، ويوم حصل اتفاق الترحيل خارج حلب، أخذه المقاتلين الى الباص ليخرج من حلب تاركا بها ذاته وأحبابه وعمره الذي أحسّ أنه هُدر. في الباص استعاد ابو ليلى حياته كلها عندما اصطحب معه بعض الصور، قلبها بين يديه واستعاد عُمره كله. واجهته جلطات متتالية انتهت بموته. لذلك عندما صعد الجندي وطلب منه هويته وجده ميتا. وهكذا تبين ان أبو ليلى لم يحتمل أن يغادر جسده حلب فغادرت روحه حتى تعانق المكان وأرواح أحبائه الذين دفنهم هناك تباعا.
هنا تنتهي الرواية.
في التعقيب عليها اقول:
٠ نجحت الرواية رصد حقائق الواقع المعاش في حلب خصوصا وفي الأجواء السورية عموما، سواء لجهة فعل النظام السوري الإجرامي، او لواقع الناس الذين كانوا الضحية بكل المقاييس، وكذلك واقع القوى العسكرية المنسوبة للثورة السورية، عيوبها التي غطّت على ادعاءاتها، أو الدور الإجرامي لداعش و افعالها الارهابية.
٠ استطاعت الرواية أن تصور الوقائع الباردة من قتل وقصف وتدمير وتهجير، وأن تعيد لها الحياة من خلال الناس وما يعايشون، تصوير مشاعرهم و معاناتهم والمنعكسات الكارثية على حياتهم، ومن ثم المآلات التي قادتهم للموت او الغربة وفقدان الأحبة او الضياع.
٠ الرواية تقول أن الحساب الختامي لما حصل في سورية، سواء ادنّا النظام الذي دمر البلاد وقتل الشعب وهجّره وشرده، واستدعى جميع أنواع الاحتلالات واحضر القتلة الى سورية، او من جهة الثورة والثوار الذين أصبحوا جزء من لعبة الموت، و أصابتهم لوثة القتل والانتهازية و استرخاص حياة الناس، وظهور الجماعات الارهابية بادوات قتلها البدائية داعش وغيرها.
كل ذلك كان كارثيا على الشعب السوري، بغض النظر عن شرعية مطالب الشعب الثائر: الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل، او فعل الأطراف الفاعلة محليا واقليميا ودوليا في الحالة السورية المفجعة، والحال مازال على ماهو عليه من زمن الرواية أواخر عام ٢٠١٦، ونحن الان أواسط عام ٢٠٢١م .
أخيرا الرواية شهادة من الشهادات التي حشدها الشعب السوري عبر الأدب و الصورة و الفديو والمقالة وجميع انواع الفن، ترصد الحالة السورية منتصرة للشعب ومطالبه المباشرة، لعيش كريم، وبعيدة المدى لعودة سورية لشعبها وعودة شعبها لها.
هل هناك أمل في الأفق ؟!.