يمكننا أن نتعلم من -ونتعاون مع- البلدان والمناطق التي يبدو أنها توازن بين الانفتاح الديمقراطي والعمل السريع والمتضافر في مجال الصحة العامة، بما في ذلك كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ. لا توجد استجابة مثالية، وقد يشهد العالم المزيد من حالات التفشي الجديدة المتصاعدة للوباء، لكن النجاح النسبي حتى الآن يظهر قيمة اللجوء السريع إلى التدخلات الأساسية للدولة في مجال الصحة العامة وسط السياسات المفتوحة.
* *
مع وصول مرض فيروس كورونا المستجد COVID-19 إلى أبعاد وبائية، وإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب حالة الطوارئ الوطنية، أصبحنا نعيش الآن في لحظة حاسمة، والتي تستوجب التعلم من استجابات الدول الأخرى حتى الآن والشروع سريعاً في تطبيق استراتيجيات فعالة للحد من تأثير الفيروس. ومع ذلك، يبقى الأميركيون معرضين لخطر تعلم الدروس المقارنة الخاطئة في مواجهة هذه الحالة العالمية من الطوارئ. وفي أوقات الأزمات، يمكن أن تبدو الاستجابات الاستبدادية، القائمة على عرض ظاهر لسلطة الدولة، جذابة. لكن ذلك العمل الأقل ظهوراً بكثير لهيئات الصحة العامة هو الذي يميز الاستجابات الفعالة حتى الآن، على ما يبدو.
في الحادي عشر من آذار (مارس)، أعلن ترامب عن حظر مفاجئ على قدوم المسافرين من معظم أنحاء أوروبا، ثم وسعه بعد ذلك ليشمل المملكة المتحدة وأيرلندا. ومن غير المحتمل أن يؤثر حظر السفر هذا، الذي يتعارض مع نصيحة منظمة الصحة العالمية والقانون الدولي، بشكل كبير على مسارات وباء “كوفيد-19” الأميركية. وفي الواقع، ربما تكون قد فاقمته من خلال التسبب بمشاهد ازدحام المطارات غير المستعدة لاستقبال هذه الأعداد عندما عاد المسافرون المذعورون إلى الوطن.
لكنها تعكس الجهود التي تهيمن على عناوين الصحف في الصين وأماكن أخرى، والتي تفرض قيوداً قسرية على السفر والتنقل في محاولة لوقف انتقال العدوى. ويمكن أن يؤدي هذا إلى صرف الانتباه عن النجاح الذي يحققه مناهض إجراء الفحوص للناس على نطاق واسع، والانفتاح والشفافية، والتواصل والإعلام المثمرين بشأن الصحة العامة، والتي كانت المكونات الرئيسية للاستجابة الفعالة في العديد من البلدان حيث يجد الانفتاح السياسي تقديراً أيضاً.
كان رد الصين على فيروس كورونا في أواخر كانون الثاني (يناير) عرضاً رائعاً لقوة الدولة، من خلال التدابير التي تضمنت الحجر على ما يقرب من 60 مليون شخص في مقاطعة هوبي، مع اتخاذ إجراءات صارمة لعزل الناس في منازلهم وإيقاف السفر كله تقريباً، وفرض المزيد من القيود على 700 مليون شخص آخرين أو أكثر في جميع أنحاء البلاد. وقد أثنى ترامب على هذا الرد باعتباره “قوياً” وأظهر “انضباطاً كبيراً”، ولقي الإشادة من المدير العام لمنظمة الصحة العالمية لأنه “وضع معياراً جديداً للاستجابة لتفشي الأوبئة”. وقد شهدت الصين انخفاضاً سريعاً في الإصابات الجديدة في الأسابيع الأخيرة، وصولاً إلى السيطرة على تفشي المرض. وخشي البعض من أن هذا النوع من سيطرة الدولة الاستبدادية لا يمكن تكراره في مجتمعات أكثر انفتاحاً.
لكن التركيز على مسألة الرقابة الاجتماعية قد يفوت العديد من المكونات الأكثر فعالية في استجابة الصين. وتشير دراسة حديثة حول نمذجة انتقال العدوى في مجلة “ساينس” العلمية إلى أن القيود المفروضة على الحركة في هوبي لم توقف انتشار الفيروس داخل الصين، وإنما يمكن أن تكون قد أدت إلى إبطائه لمدة ثلاثة إلى خمسة أيام فقط. وهناك حاجة إلى مزيد من البحث لفهم ما نجح وما لم ينجح في الصين. ولكن، على الرغم من أن عمليات الإغلاق غير المسبوقة حظيت بأكبر قدر من الاهتمام، فقد استخدمت الدولة هناك أيضًا المزيد من تدابير الصحة العامة المعترف بها على نطاق استثنائي، بما في ذلك بناء مستشفيات مؤقتة، ونشر الآلاف من العاملين الصحيين لفحص الأشخاص وعزل المصابين بالفيروس وتوفير الرعاية الطبية.
في واقع الأمر، أسهمت المؤسسات السياسية الاستبدادية في الصين في الفشل المبكر الذي سمح بتفشي المرض في المقام الأول، حيث تم تهديد أولئك الذين حاولوا دق ناقوس الخطر مبكراً وتم منع تدفق المعلومات الحاسمة للقادة والجمهور. كما هرب الكثيرون من ووهان لتجنب الخضوع لإجراءات العزل والإغلاق.
على النقيض من الصين، استندت استجابة كوريا الجنوبية إلى الشفافية والمعلومات المفتوحة ونشر تدابير الصحة العامة المدعومة بالتكنولوجيا. وكانت لدى الدولة هناك استراتيجية واضحة وضعها الفرع التنفيذي وتم إيصالها بشفافية إلى الجمهور من خلال إحاطات إعلامية مرتين في اليوم. وركزت الحكومة على إجراء فحوص لأعداد كبيرة من الأشخاص وتحديد النقاط الساخنة للعدوى؛ مثل مدينتي دايجو وجيونجسان، التي تم تخصيصها كـ”مناطق رعاية خاصة”، وتم غمرها بفيض من الإمدادات والطواقم الإضافية.
لقد أصبح الاختبار مجانياً وسهلاً -مع توفير حوالي 50 مركزاً من خلال القيادة للاختبار ودعم تتبع صارم للاتصال. بدلاً من عمليات التطويق والإغلاق الشاملة على مستوى المدينة، نشرت الحكومة تطبيقاً للهواتف الذكية للسماح بالحجر الذاتي للأشخاص الذين اتصلوا بفيروسات التاجية، وربطهم بالعاملين في الحالات والمراقبة للتأكد من أنهم يتبعون أوامر الحجر الصحي. لم يتم حظر المسافرين من الصين، ولكن يجب عليهم بدلاً من ذلك تنزيل “تطبيق التشخيص الذاتي” واستخدامه لإرسال تحديثات يومية بشأن حالتهم. تم نشر حملة واسعة النطاق للتمييز الاجتماعي لإلغاء التجمعات الجماعية وإبطاء انتشار الفيروس من خلال الإجراءات الطوعية التي تفصل بين الناس.
في كوريا الجنوبية، جعلوا الفحص مجانياً وسهلاً -مع توفير حوالي 50 مركزاً- من خلال أخذ العينة بطريقة مرور المركبة، ودعم عملية تعقب صارمة للاختلاط. وبدلاً من عمليات التطويق والإغلاق الشاملة على مستوى المدينة، نشرت الحكومة تطبيقًا للهواتف الذكية لإتاحة الحجر الذاتي للأشخاص الذين اختلطوا بمصابين بالمرض، وربطهم بعاملين على الحالات والمراقبة للتأكد من أنهم يتبعون تعليمات الحجر الصحي. ولم يتم حظر قدوم المسافرين من الصين، وإنما ترتب عليهم بدلاً من ذلك تحميل “تطبيق للتشخيص الذاتي” على هواتفهم وأجهزتهم واستخدامه لإرسال تحديثات يومية بشأن حالتهم. وتم نشر حملة واسعة النطاق للتباعد الاجتماعي وإلغاء التجمعات وإبطاء انتشار الفيروس من خلال الإجراءات الطوعية التي تبعد الناس عن بعضهم بعضاً.
ولد هذا النهج من سياق سياسي مختلف تماماً. في كوريا الجنوبية، ثمة إعلام مفتوح ينشر أخباره وتغطياته على نطاق واسع، والانتخابات هناك تنافسية للغاية، وتم عزل الرئيسة السابقة نتيجة لإجراءات الإقالة بعد احتجاجات ضخمة في الشوارع شارك فيها الملايين بسبب طريقة تعاملها مع أزمة سابقة. وكان حزب المعارضة الرئيسي نشطًا في انتقاد استجابة الحكومة لفيروس كورونا في الفترة التي تسبق الانتخابات المقبلة، بما في ذلك الضغط ضد تنفيذ الاقتراحات بإغلاق دايجو على نطاق أوسع.
بدأت الحالات الجديدة في كوريا الجنوبية في التباطؤ حول أواسط آذار (مارس)، ويأمل البلد في أن عبور المنعطف. وأشار الرئيس، مون جايين، إلى أن البلد يدخل “مرحلة الاستقرار”. وهذا يدل على أن الحكم الديمقراطي والمقاربات غير القسرية يمكن أن تكون فعالة ضد فيروس كورونا -وإنما فقط إذا كانت قوية ومتجذرة في جهود شاملة لتوظيف تدابير الصحة العامة.
أعلن ترامب أخيراً حالة الطوارئ في البلاد بموجب قانون ستافورد، مما أدى إلى زيادة كبيرة في سلطات الحكومة والتمويل. ويجب أن تركز هذه السلطات على تكثيف قدرات الصحة العامة، ووضع إجراء الفحوص للمواطنين على المسار الصحيح، وتمكين المشاركة التطوعية واسعة النطاق في تدابير وقف الفيروس، وليس على التدابير القسرية الشاملة. وسيكون من المناسب استخدام سلطات الصحة العامة لضمان تطبيق التباعد الاجتماعي -يمكن الجمع بين حظر التجمعات الحاشدة الذي تفرضه السلطات المحلية وبين استخدام منبر الرئيس لدعم حملة تطوعية اجتماعية. ويجب أن يكون نشر خيارات التقنية المتقدمة لأنشطة الصحة العامة الأساسية، مثل العزل وتتبع اختلاط المصابين وصلاتهم، أولوية قصوى. لكن هناك خطاً حاسماً ومهماً بين تدابير الصحة العامة لتشجيع إبعاد الناس عن الفيروس وبين عزل الناس وحالات الإغلاق المشددة التي تحظر السفر والتنقل.
يمكننا أن نتعلم من، ونتعاون مع، البلدان والمناطق التي يبدو أنها توازن بين الانفتاح الديمقراطي والعمل السريع والمتضافر في مجال الصحة العامة، بما في ذلك كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ. لا توجد استجابة مثالية، وقد يشهد العالم المزيد من حالات التفشي الجديدة المتصاعدة للوباء، لكن النجاح النسبي حتى الآن يظهر قيمة الاستخدام السريع للتدخلات الأساسية في مجال الصحة العامة وسط السياسات المفتوحة.
إن تدابير حظر السفر هي إجراء متطرف. وهي امتياز من جانب واحد للسلطة التنفيذية. وهي تتناسب جداً مع السرد عن إبقاء الأمراض “الأجنبية” خارج البلاد. وقد أثبتت عدم فعاليتها إلى حد كبير في مكافحة تفشي الأمراض، وتشير الدلائل إلى أن هذا صحيح أيضاً في حالة التفشي الحالية. وما يزال المسؤولون الأميركيون يؤكدون أن الحظر المرتبط بفيروس كورونا كان مفيداً، لكنهم يقرون بأن جهود الاحتواء لم تمنع الفيروس من الانتشار داخل المجتمعات الأميركية من دون أن يتم ردعه وتعقبه. ولعل الأكثر أهمية هو أن هذه الإجراءات تدق إسفيناً بين البلدان في وقت تشتد فيه الحاجة إلى رد عالمي منسق.
على المدى المتوسط، يمكن للتحول من الانعزالية إلى التعاون والتنسيق عبر-الوطني أن يمكّن الولايات المتحدة من التعرف في الوقت الحقيقي على ما ينجح، وتنسيق السياسات عبر الحدود لإيقاف الانتقال. ويمكن لإعادة بناء القدرة التنسيقية للصحة العالمية بسرعة داخل مجلس الأمن القومي أن تساعد. وتقدّم جهود كوريا الجنوبية للدبلوماسية الصحية العالمية وقرار تقديم تحديثات عامة منتظمة عن حالة المرض باللغة الإنجليزية نموذجًا جديراً بالانتباه. ويمكن للولايات المتحدة، وهي عضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أن تضغط من أجل جمع قادة العالم (افتراضياً) في استجابة أكثر تنسيقاً. ويمكن للمثال الصيني -ويجب- أن يدفع الولايات المتحدة إلى تكثيف الجهود الصحية العالمية لدعم البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل حيث قد يواجه الناس الآثار الأكثر قسوة لهذا التفشي. ويمكن للتركيز على الدروس الصحيحة من الخارج أن يهزم -أو أن يساعد- مسار هذا الوباء سريع التغير.
الآن ليس الوقت المناسب للاستجابة القائمة على الاستبدادية أو الانعزالية. ولن يخدم أي منهما الولايات المتحدة جيداً.
المصدر: (فورين أفيرز)/ الغد الأردنية