تتسابق قضايا كثيرة لتحظى بنصيبها من النقاش في القمة المرتقبة للرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، في جنيف بعد غد 16 يونيو/ حزيران. ستتقدم القائمة قضايا السلاح النووي والقرصنة الإلكترونية والتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية والصفقة الإيرانية وكوريا الشمالية وأفغانستان. وهنالك طبعاً قضايا أوكرانيا وبيلاروسيا، ثم أضاف إليها بايدن قبل أيام قضية حقوق الإنسان. وهناك قضية أساسية واحدة لا يريد الرئيس بايدن التطرق إليها: سورية. ليست سورية من أولوياته، فحتى الآن لم يتوصّل فريقه إلى سياسةٍ خاصّة بسورية، ولم يعيَّن ممثّلاً خاصاً إلى سورية بعد. وما انفكّت إدارته تنظر إلى سورية من خلال الملفّ الإيراني، وتركّز على قضيتين لا ثالث لهما: هزيمة تنظيم داعش (تعود تدريجياً إلى نشاطه الشرير) وإيصال المساعدات الإنسانية إلى من هم في حاجة إليها.
لا نماري في أهمية كلا الأمرين، فكلاهما مهمّان إلى حدّ بعيد. هزيمة “داعش” ضرورة لا مفرّ منها إذا أردنا سورية مستقرّة وديمقراطية وشاملة لكل مواطنيها، أو أردنا شرق أوسط مستقرّاً ومسالماً وخالياً من العنف. وكذلك الأمر بالنسبة للمساعدات الإنسانية، فثمة ملايين من السوريين يقيمون أوَدهم بهذه المساعدات. ولكننا نماري في جعل المسألتين جوهر القضية وغاية الطريق، من دون أن نلقي بالاً إلى أنهما ليسا سوى عرضين للمرض الرئيس، وأن التصدّي لهما علاج للعرض، وليس استئصالاً للمرض. والحال أنه لولا الدور التدميري الذي لعبه بشار الأسد ولفيفه لما كان ثمّة “داعش”، ولا صار تهجيرٌ، ولا احتاج السوريون المساعدات الإنسانية. إنه يلعب لعبته علانية، ومن دون مداراة. وكان فصله أخيراً في لعبته الانتخابات الرئاسية التي أرادها مناسبةً ليظهر للعالم أنه لا يأبه بما يرون، وأن رأيهم في حكمه يساوي “الصفر”. يدرك الأسد أن الروس لن يتخلّوا عنه الآن، لأن في ذلك التخلي علامة ضعفٍ لا تليق بالرئيس الروسي الذي يتصرّف وكأنه زعيم عصابة أكثر مما هو زعيم دولة.
ليست سورية، إذن، أولوية لبايدن، ولكنها أولوية لبوتين الذي استثمر في سورية، ويريد أن يجني أرباح استثماراته. ولئن كان في الامتيازات التي نالها في مرفأ طرطوس وقطاع الغاز بعض الربح، إلا أن هدفه، في نهاية المطاف، إعادة الإعمار، لأن المكسب المادي والسياسي الأكبر هناك. وعلى هذا، من المرجّح أن يكون بوتين هو من يطرح المسألة السورية على طاولة النقاش، وعندها سيجد بايدن نفسه في زاوية صعبة. ففريقه لم يطوّر له استراتيجية خاصة بسورية يتوكأ عليها، وهو لا يزال ينتظر أن يرى كيف تسير الأمور مع إيران، ليرسو على برّ فيما يخص الشأن السوري.
وحين ستطرح المسألة السورية، لن يكون أمام بايدن سوى أن يعيد طرح قضيتي “داعش” والمساعدات الدولية، وسيكون ردّ بوتين الجاهز أن “الدولة السورية” تقاتل “داعش”، وأن المساعدات يجب أن تمرّ عن طريق “الدولة السورية”. والأمل أن يوافق بوتين على الخطة الأميركية لفتح معابر إضافية لتمرير المساعدات من الشمال السوري، ولكن ذلك للأسف ليس أكيداً. وفي المقابل، سيركّز بوتين على إعادة الإعمار، وسيقول لبايدن إن الأسد قد خاص انتخابات الرئاسة وفقاً للدستور السوري، وهو، أحبّ بايدن ذلك أم كرهه، موجود وباقٍ، وإذا كان بايدن، ومعه الحكومات الغربية، راغباً في حلّ معاناة السوريين، فلا بدّ من إعادة الإعمار وعن طريق الأسد. وعندها سيخرج بايدن من حوار الطرشان صفر اليدين، كما سيخرج معه السوريون عموماً بدون بارقة ضوء في نهاية هذا النفق المديد.
لا نعرف إن كان بايدن يرى كيف تسير الأمور في الملف السوري، وفي أي اتجاه؟ تبدي دولٌ أوروبية، وبينها اليونان، وهنغاريا وصربيا وقبرص، رغبتها في إعادة فتح سفاراتها في دمشق، وتنحو غالبية من الدول العربية هذا المنحى، بدفع مصري – سعودي واضح. وفرنسا التي أنقذت الأسد في السابق، حين أخرجه الرئيس الأسبق، نيكولا ساركوزي، وسفيره إريك شوفالييه، من العزلة الخانقة التي وضع نفسه فيها بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق، رفيق الحريري، فرنسا هذه لا تبدو بعيدةً عن إعادة الانخراط مع الأسد، وخصوصاً بعد أن أفسحت في المجال لسفارة الديكتاتور أن تفتح أبوابها لاستقبال من يرغب في التصويت، وهي تعلم علم الحقّ أن الانتخابات لن تكون نزيهة، وأنها تخالف صراحة خطة الأمم المتّحدة لحلّ النزاع في سورية.
في حكومة الولايات المتحدّة أشخاص لا يعرفون عن سورية إلا أنها تقع شمال إسرائيل وشرق لبنان. وفيها من يعرف تفاصيل دقيقة لا يعرفها بعضُنا، نحن السوريين المتابعين. جمعني قبل أيام، مع نخبةٍ من قادة المنظمات السورية الأميركية، لقاء بنائب ديمقراطي عن ولاية إيلينوي، رجا كريشنامورثي، وهو عضو في لجنة الاستخبارات الأميركية التابعة لمجلس النواب، وعضو المجموعة الداعمة للشعب السوري في المجلس. أهم ما قاله كريشنامورثي إنه لا ينبغي لسورية أن تكون جزءاً من التفاوض ضمن الملف النووي الإيراني، وإنه بوصفه نائباً ديمقراطياً يريد سياسة “أخلاقية” للولايات المتحدة، بحيث لا يتم السماح لنظام الأسد بالوصول إلى التمويل اللازم لإعادة الإعمار قبل الحلّ السياسي النهائي. وقد سألتُه عن السعودية، وسعيها، من تحت الطاولة وفوقها، إلى التطبيع مع النظام، وعمّا إذا كان على الإدارة الأميركية أن تقف في وجه ذلك، فأجاب أنه يضغط على الإدارة أن تشرح لهذه الدول أن للتقارب مع بشار عواقب جدّية وأثماناً عالية.
من واجب المعارضة السورية ومراكز الأبحاث المتعاطفة معها أن تكّثف نشاطها مع أعضاء الكونغرس ووزارة الخارجية الأميركية لإيصال رسالة مفادها بأن انتصار الأسد المزعوم ضربة لمسار جنيف وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وضربة أيضاً لمواقف الديمقراطيات الغربية من المسألة السورية، ومن قضايا حقوق الإنسان عموماً، وهو ما كان واضحاً في خطاب الأسد. من المهم أن يكون بايدن حاسماً مع الروس، وواضحاً معهم، في الوقت نفسه، بأنه مستعد للقبول بحلّ سياسي يضمن مصالح روسيا في المنطقة بعيداً عن الأسد الذي سوف يتحول من ديكتاتور إلى طاغية لا يحدّ من انتقامه حدّ ولا يقف في طريقه أحد.
عندما تم انتخاب السيد بايدن، كنت آمل أن يتعلم من الدروس المؤلمة الأخيرة، ومن الأخطاء المؤسفة لسلفيه في ما يخصّ الشأن السوري، فيضع سياسةً أكثر قوة تجاه موسكو مما فعل سلفاه الضعيفان. ولا يزال ثمة رهان على حنكة الرجل وقوة شخصيته وخبرته في السياسة الدولية ونزعته الإنسانية التي عبّر عنها في أكثر من مجال.
المصدر: العربي الجديد