حتى ولو لم تطلق النار في الهواء في لبنان او غزة، فإن التغيير الحكومي الذي تم في اسرائيل مساء الاحد، هو بلا شك خبرٌ سارٌ، مهما بدا أنه شأن داخلي تفصيلي، إحتكم، كما هي العادة، لمختلف أشكال الانتهازية السياسية، ولم يكن، في الظاهر على الاقل، ناجماً عن تغيير جذري في البرنامج السياسي الاسرائيلي. بل كان يقود الى معادلة وحيدة: يمين فاشي يرث من يمين عنصري، حكم تلك القلعة اليهودية المسيجة بالاساطير والخرافات.
أهم ما في ذلك التغيير أنه تأخر نحو ستة أشهر. كان ينبغي أن يتم مع دخول الرئيس الاميركي جو بايدن الى البيت الابيض مطلع العام الحالي، لكن القلعة اليهودية صمدت، وخاضت أطول عملية تمرد سياسي في تاريخها الحديث، على الإدارة الاميركية، بعدما كانت قد تمتعت بشهر عسل أميركي_ إسرائيلي، طويل، إمتد على أربع سنوات وأسهم في إعادة تعريف دولة اسرائيل وترسيم حدودها وتطويب القدس عاصمتها، وأهداها دولة الامارات العربية كشريك وحليف راسخ يتقدم على بقية دول التطبيع العربي.
في تاريخ العلاقات الحميمة بين إسرائيل وأميركا، كان الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب ظاهرة فريدة. لم يكن ينتهك القوانين والقرارات والتقاليد الدولية في عطاءاته الثمينة لإسرائيل، بدافع إيديولوجي أو إستراتيجي أو حتى ديني، أو بناء على حسابات إنتخابية داخلية، تهدف الى إستقطاب اليهود الاميركيين (الذين لم يصوتوا له في إنتخابات الولاية الثانية العام الماضي). كان خياره الاسرائيلي الحاسم، الذي لم يسبقه إليه أي رئيس أميركي، يستند الى شراكة شخصية إستثنائية مع وحش سياسي إسرائيلي أطيح به بالأمس، بصعوبة شديدة، هو بنيامين نتنياهو، الذي ظل طوال الاشهر الستة الماضية، يقاتل بضراوة ويسد الثغرات والتصدعات في جدران القلعة.
خرج نتيناهو من الكنيست مهزوما مثله مثل شريكه ترامب. لكنه وعد بأنه سيعود الى السلطة، وبدا واثقاً من أنه يمكن أن يسبق ترامب ويمهد لعودته هو الآخر الى البيت الابيض، بعد أربع سنوات. ربما، من يدري؟ لعل الحكومة الاسرائيلية الجديدة، الهجينة، التي نالت الثقة، تكون مجرد صدى مؤقت لإدارة الرئيس الاميركي الحالي جو بايدن، الانتقالية التي تتولى تنظيم الهدنة قبل موعد الموقعة الكبرى بين الديموقراطيين والجمهوريين في أميركا في خريف العام 2024.
حتى ولو كان الأمر مجرد هدنة، تسري في واشنطن وفي تل أبيب، فإن من المفيد إلتقاط الانفاس التي قطعها الثنائي ترامب ونتنياهو، ومن المهم أيضاً، أن تعود إسرائيل للانضباط في جدول الاعمال الاميركي الراهن، في العالمين العربي والاسلامي، بدل ان تتحول الى دولة مارقة لا تخضع لأي من القواعد والاحكام والأوامر الاميركية، التي تتجه الآن نحو تعديل الكثير من القرارات التي إتخذها الثنائي ترامب ونتنياهو، وإعادة الامور بين الدولتين، وبينهما وبين بقية الاعداء والحلفاء، الى مسارها التقليدي السابق.
والحال أن الحكومة الاسرائيلية الجديدة لن تتمتع على الارجح بهامش الحركة الذي إستفادت منه حكومة نتنياهو السابقة، عندما عبرت عن ما يشبه العصيان، ولو لمدة ثلاثة ايام، لقرار إدارة بايدن بوقف الحرب الاخيرة على قطاع غزة، أو عندما تجرأت على رفض العودة المرتقبة الى الاتفاق النووي مع إيران، ولامست الخط الاحمر بقولها أنها إذا خُيّرت بين مواجهة إيران وبين صداقة أميركا، فإنها تعتمد الخيار الاول. والتعبير هو لنتنياهو الذي لم يكن يبدي الاستعداد للانتحار السياسي، بقدر ما كان يلمح الى أنه يعرف الاميركيين أكثر مما يعرفون أنفسهم.
من الآن وحتى عودة نتنياهو، وربما ترامب الى الحكم، سيكون الانضباط، بل الانصياع الاسرائيلي للقرار الاميركي تاماً. لا حرب على غزة، ولا حملة على الضفة الغربية، من دون الحصول على إذن مسبق من واشنطن. ربما تحتفظ إسرائيل بهامش من الحركة ضد إيران في لبنان وسوريا والعراق، لكن بإيقاعات ومواعيد وأهداف يحددها الاميركيون سلفاً.
ولمثل هذا الانصياع الاسرائيلي للمشيئة الاميركية فوائد متعددة، أهمها على الاطلاق، أن إدارة بايدن معنية بأن تأخذ في الاعتبار ذلك التحول الاستثنائي في موقف الجمهور الاميركي، الديموقراطي تحديداً، من القضية الفلسطينية، والذي كان من أبرز نتائج معركة القدس الاخيرة، التي أشعلت غضب 12 مليون فلسطيني في الداخل والشتات، وأثارت إستياء الملايين من الاميركيين خاصة، من سلوك سكان تلك القلعة اليهودية المقفلة.
المصدر: المدن