منذ أن تشكلت الدولة العراقية الحديثة قبل 100 عام (تأسست عام 1921)، حرص المعنيون ببناء الدولة الملكية وقتها على أن يكون النظام الجديد مستنداً إلى مجتمع يقوم على أساس سيادة القانون.
أزمة تأسيس الدولة العراقية الحديثة
وكان هؤلاء المعنيون مدركين أنهم في دولة من الضروري أن تنهل من إرث حضارات ظلت آفلة لقرون خلت، لكن شواهدها على الأرض ما زالت قائمة ومجسدة بآلاف المواقع الأثرية والتراثية، التي تعلن عن عظمة الموروث العراقي الحضاري القديم، ما يثير إشكالية تردّي الواقع الذي خلّفته حقبة الاستعمار الأجنبي الطويلة التي استمرت منذ سقوط آخر معقل حضاري إبان الدولة العباسية التي اتخذت من بغداد عاصمةً لها، لكنها أُسقطت واحتُلت من قبل المغول عام 1258، ليدخل العراق في تعاقب مريع في الانحدار وسيطرة الأقوام الغازية التي احتلته.
وكانت إدارة البلاد تتأسس في أعقاب تركة ثقيلة وخراب شامل، لكنها أدركت أن المجتمع بحاجة إلى أساس قانوني يسيّر الدولة ونظامها الجديد، القائم على مسلّمة الفصل بين السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وفق معادلة سلطة تنفيذية يديرها رئيس حكومة منتخب، وتشريعية يديرها رئيس مجلس نواب، يساعده مجلس أعيان، في استنساخ للتجربة البريطانية التي كان مندوبها السامي الحاكم الفعلي لعراق الحكم الملكي، وأخيراً سلطة قضائية تعمل بالتنسيق مع مجلس القضاء الأعلى بشكل مستقل، وعلى رأسها الملك الذي نُصّب ملكاً هاشمياً (غير عراقي) بتوافق سياسي.
الانقلاب الجمهوري وعصر الدم
واستمرت الحال لغاية الانقلاب العسكري الشهير عام 1958 الذي غيّر النظام الملكي إلى الجمهوري، وأدخل البلاد في حقبة الانقلابات العسكرية الدموية حتى عام 2003. وشهدت هذه الفترة تصفيات بين ضباط النظام الجمهوري الأحرار، وأغرقت البلاد في في مرحلة ديكتاتورية وتفرّد في السلطة وتصفية الأحزاب المشاركة في “الجبهة الوطنية” التي انتهت بتمثيل شكلي. وعلى الرغم من المحاولات المستمرة لكتابة دستور عراقي ينظم السلطة وإدارة الحكم، لكنه ظل مؤقتاً، فيصدر المشرّع (الرئيس) قرارات ملزمة لتصفية خصومه أو تصبّ في تثبيت حكمه. ودفعت البلاد جراء ذلك، خسائر باهظة بشرية ومادية، تُوّجت بحروب طاحنة وتصفيات متواصلة جعلت المجتمع يترحّم على مدنية النظام الملكي، الذي حكم البلاد لـ38 عاماً تقريباً، وُضعت خلالها أسس بناء الدولة الحديثة، واستُكملت خريطتها الجغرافية، وانتزع النظام الملكي ولاية الموصل من تركيا التي طالبت بها كمكافأة لها بعد فترة الدولة العثمانية التي قوّضتها الدول الأوروبية الاستعمارية، كما فعلت مع لواء إسكندرون السوري الذي ضمته إليها.
ورسم النظام الملكي هوية الدولة العراقية الحديثة التي انضوت إلى عصبة الأمم عام 1932، ومنظمة الأمم المتحدة في ما بعد عام 1945 لتنال شرعيتها الدولية، بعد مخاض وجهود مضنية في مسعى للانخراط المبكر في المجتمع الدولي الحضاري. لكن العهد الجمهوري الذي قام عام 1958 بانقلاب دموي، أطاح بالملكية والبرلمان وألغى الدستور، وأنهى الانتداب البريطاني الذي كان يشكّل مظلةً دولية للعراق، وضرب أسس الدولة الديمقراطية التي أُريد لها أن تنمو متزامنة مع جهد كبير يبذله مجلس الإعمار الوطني الذي خطط لغالبية مشاهد النهضة الحديثة للبلاد، على الرغم من إعلانه إنشاء تشكيلات تحاكي الأطر الديمقراطية الصوَرية.
وأمسك النظام الجمهوري الجديد بمفاصل الدولة بواسطة أجهزة القمع للأصوات التي تطالب بحكم دستوري أو تعددية سياسية وتمثيل مجتمعي حقيقي.
غزو العراق وتأسيس مجلس الحكم
وبعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وإعلان عهد جديد، أُريد له كما هو معلن أن يكون عهداً ديمقراطياً، ينهي الحقبة السابقة التي وصفت بـالديكتاتورية. بعد الانسحاب المعلن للقطعات الأميركية والدول الحليفة تباعاً، خلال ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، خلّف الاحتلال نظاماً هشاً لإدارة البلاد تولّاه مجلس يُسمّى “مجلس الحكم”، ضمّ إدارات سياسية متناقضة الأهداف والمرامي، توصف بأنها “ليست على قلب رجل واحد”، تنوعت بين اتجاهات فكرية دينية وقومية وليبرالية، اتفقت على توزيع السلطة الرئاسية دورياً، تُستبدل كل شهر بحسب الأحرف الهجائية، لضمان التوافق في ما بينها نظراً إلى شدة تناقضاتها، إلى حد اغتيال عز الدين سليم في مايو (أيار) 2004، أحد زعماء “حزب الدعوة”، في المنطقة الخضراء.
حقبة الفوضى الخلاقة
ورسمت هذه الحقبة فوضى البلاد اللاحقة، بعد أن صاغت دستوراً اختلف العراقيون بشأنه وما زالوا. ووُصف من قبل قانونيين ومشرعين ومفكرين كثر، بأنه “دستور ملغم”، صيغ تحت هيمنة خارجية بإدارة السفير الأميركي آنذاك بول بريمر، ووزّعت المناصب حصصاً عُدّت كمغانم أو مكافأة لها، أدخلت البلاد في حقبة اضطراب وفوضى غير مسبوقة، وصِمت بمظاهر في الاستحواذ على المال العام، من قبل جهات تظن بأنها تقوى في السيطرة على بلاد عصية، بواسطة المال العام وشراء الأصوات الانتخابية بالترغيب والترهيب، وهذا ما حصل وولّد شرخاً هائلاً بين سلطة تحتمي حول السفارة الأميركية في قلب بغداد، بالمنطقة المسمّاة “المنطقة الخضراء”، متخذةً من القصور الرئاسية التي بناها نظام صدام، سياجات رادعة لزحف المتظاهرين حولها ومحاولة الوصول إليها، حيث حاولوا مراراً من دون جدوى، نظراً إلى كثرة الحمايات حول الزعامات فيها، التي تصل إلى آلاف المسلحين لكل شخصية في المنطقة الخضراء، وهؤلاء تابعون لملاك الدولة ودعمها وتسليحها ودفع رواتبها التي تصل إلى مليارات الدولارات سنوياً تُحسب ضمن الموازنة العامة والإنفاق الحكومي، ما أدخل البلاد في تصفيات وانفجارات متبادلة بين الساسة الذين امتلكوا السلطة أو ظنوا ذلك.
الإدارة الجديدة والتوافق السياسي
انعكس كل ذلك على المناخ العام لإدارة الحكم وفوضى إدارة الدولة التي اعتمدت بعد عام 2003، على اتفاقات مسبقة بين الأطراف المعارضة لنظام البعث في مؤتمرات فيينا ولندن وصلاح الدين في تسعينيات القرن الماضي، وأسست لثلاث سلطات تمثيلية تشريعية، تُخرج برلماناً منتخباً يرشّح إدارة حكومية تمثل السلطة التنفيذية، وسلطة قضائية تفرض العدالة والقانون. لكن المتغيرات السياسية اللاحقة وقسوة الإرهاب الذي أنتجه تنظيم “داعش”، قلَب معادلة التعامل وعسكرة المجتمع من جديد، وتضخمت السلطة الحكومية والعسكرية وتمّ تخصيص موازنات بالمليارات للتسلح، بمزيد من التشكيلات والمسميات الأمنية والميليشيوية، ما سبّب التخلي عن كل التصورات السابقة حول الديمقراطية والشفافية وما إلى ذلك، ووضعها على الرف لمحاربة الإرهاب، بالتالي جعل مصير الديمقراطية التوافقية بعيد المنال.
تكريس الطائفية ونزع الديمقراطية
وينظر أساتذة العلوم السياسية ومفكرون في بغداد وخارجها بتشاؤم إلى ما جرى للمشروع الديمقراطي في العراق. وقال رئيس “مركز التفكير السياسي العراقي” إحسان الشمري إن “أزمة الديمقراطية في البلاد تعود إلى لحظة تأسيس هذا النظام، فالشكل الطائفي –القومي للإدارة خلال المرحلة الانتقالية (2003-2005) دفعت إلى تثبيت سيطرة المكونات على الدولة والنظام، فضلاً عن أن مَن تصدّر المشهد والقرار السياسي لا يؤمن بالديمقراطية كنظام يقود الدولة، بل كانوا مؤمنين بفكر إسلاموي طائفي، وهذا يتعارض مع التأسيس الصحيح لها”. وأضاف الشمري “كانت التجمعات السياسية تعمل على عدم التعاطي مع الدستور والقانون كحاكم للنظام وأسهمت بتشكيل صورة بأنها مصدر السلطات، وهذا أثّر بشكل كبير في عدم التعاطي مع الديمقراطية كنظام رصين، فلم تؤمن القوى السياسية بدولة المؤسسات ومبدأ الفصل بين السلطات اللذين يُعدّان من أسس النظام الديمقراطي في أي بلد في العالم، إضافة إلى أن المجتمع لم يمر بمرحلة انتقالية يمكن من خلالها صياغة تنشئة سياسية ديمقراطية حقيقية. وهذا عطّل إلى حد كبير ما يدعم الديمقراطية كنظام مجتمعي”.
من جهته، لخّص الكاتب هادي جلو مرعي، مآلات الواقع العراقي الذي تنادي زعاماته بالديمقراطية، بالقول إن “هناك انفلاتاً اجتماعياً وقيمياً في البلاد وتمرّداً على الدين والعادات والتقاليد وأشكالاً من الإلحاد والشذوذ واللامبالاة في التعاطي مع القوانين والتجاوز على الأملاك العامة والخاصة، والتعدي على الدولة وعدم احترامها، والفساد المجتمعي والتطاول على الحرمات، والفجوة التي تتّسع بين الأغنياء والفقراء والتظاهر بالتديّن، يقابله تظاهر بالكفر والعدوانية، وهذه باتت عناوين لانفلات مجتمعي بكامله يسيطر عليه التفكير السطحي التافه والمادية المقيتة. ويفتقد المجتمع إلى العدالة والحكم الرشيد والرحمة والتعاون والإنسانية التي سُحقت بفعل القسوة الكبيرة، وهذه علامة على بلد يعاني الانفلات. المجتمع العراقي انفلت من عقال الضبط والحزم والحكم الفاعل القوي”.
وذهب الكاتب عقيل عباس إلى القول إن “استخدام مصطلحات مثل الغالبية الشيعية والأقلية السنية والكردية، فضلاً عن حشد آخر من المصطلحات الأخرى كالأقلية المسيحية والأيزيدية والصابئة، أسهما في منح هذه الانتماءات القبلية شرعية سياسية وثقافية، وتحويلها إلى أطر سياسية ومؤسساتية أو شبه مؤسساتية لفهم الهوية، تساعد في تحويلها إلى شأن سياسي ومؤسساتي في تكريس مفاهيم استبدادية تخالف روح الديمقراطية وتقوّض القيم الدستورية والقانونية المتعلقة بالمساواة والمواطنة المتكافئة”.
الديمقراطية وصعود الهويات الفردية
في السياق، معروف أن المجتمعات الديمقراطية لا تقوم على مفهوم الغالبية والأقلية القبلية بل على الغالبية والأقلية السياسية اللتين تفرزهما الانتخابات العامة الحرة والنزيهة، فالغالبية القبلية هي تكريس للتمايز في الهوية وتقود حتماً إلى الصراع والاحتراب، بينما التنافس السياسي بين الغالبية والأقلية، فيجري في حدود السياسة والأفكار والبرامج الانتخابية. لكن الزعامات العراقية التي حصدت السلطة بعد عام 2003، قدّمت مفهوماً آخر للديمقراطية أسموها “ديمقراطية توافقية” وهي تجربة محدودة في العالم مصيرها الاضطراب، حين لا تستند إلى موروث ديمقراطي يمكّنها من تخطي العقبات، كما حدث في لبنان وأفغانستان ويوغوسلافيا التي انشطرت خمسة أجزاء في النهاية.
وقال الدكتور إحسان الشمري في هذا الصدد “تميزت مرحلة ما بعد عام 2003 بصعود الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية والدولة ونظامها الذي رسخته القوى السياسية، ما غيّب مبدأ تساوي الجميع أمام القانون والحقوق، وكرّس عدم القدرة على إدارة البلاد من قبل الأحزاب التي أمسكت بالقرار، إضافة إلى أن نشوء الصراعات والأزمات واستشراء الفساد والصراع الداخلي كلها عوامل أسهمت في تأخر الديمقراطية في العراق”. واعتبر أن “العراق الديمقراطي اكتسب جرعة هذا النظام من دون وجود ديمقراطيين حقيقيين، فطغت السلطة وهوس كسب المال والمغانم وكأن العراق أضحى كانتونات سياسية وحزبية تتصارع في ما بينها من أجل البقاء”.
المصدر: اندبندنت عربية