لعبة إعادة التدوير التي أصر نظام بشار ورعاته على فرضها وتمريرها، بمختلف أساليب الاستفزاز والمكابرة، والاستهتار بالمشاعر والانتقادات؛ هذا فضلاً عن ارتكاب كل أشكال التزوير والتلفيق والتهديد والوعيد؛ هذه اللعبة – المهزلة إنما هي استمرار منطقي لنهج تسلطي رسّخ أسسه حافظ الأسد الذي أزاح سائر منافسيه في الحزب والجيش والدولة؛ وتمكّن من ربط أصحاب المصالح بنظامه عبر شبكةٍ من العلاقات المصلحية الأمنية التي تجذّرت مع الوقت، وباتت جزءاً من المنظومة الأمنية السلطوية التي تشكلت، لتكون من أدوات ترويج النظام داخلياً، وعلى المستويين، الإقليمي والدولي. ويُشار في هذا السياق إلى المؤسسات الدينية الرسمية بصورة خاصة، الإسلامية والمسيحية، وإلى النقابات والمنظمات الشعبية. هذا إلى جانب الجامعات، فضلاً عن التجار، سيما في كل من دمشق وحلب.
وقد استطاع النظام المعني تدجين معظم الأحزاب السياسية مقابل فتاتٍ سلطويٍّ ضمن إطار “الجبهة الوطنية التقدّمية” التي أسسها عام 1972، وضمّت الحزب الشيوعي، ومن ثم الأحزاب الشيوعية، والأحزاب القومية الاشتراكية والناصرية، لتكون واجهةً يقودها على الصعيد النظري حزب البعث؛ في حين أن جميع القرارات المفصلية كانت بيد حافظ الأسد نفسه الذي كان يستند، في عملية اتخاذ القرارات وتنفيذها، إلى شبكة معقدة من الأجهزة الأمنية التي كانت تبدو، أحيانا، وكأنها متنافسة ومتصارعة، ولكن الخطوط جميعها كانت تلتقي عند الأسد.
أما القوى والأحزاب التي رفضت السير في المشروع الأسدي؛ أو تلك التي وجد فيها حافظ الأسد نفسه خصماً لا يمكن التعايش معه، أو وجد فيها ضرورة الخصم، ليروّج نفسه بوصفه البديل الأفضل، فقد كان مصيرها الإبعاد والاعتقال والشيطنة، وإخراجها من دائرة الفعل والتأثير. ويُشار في هذا السياق إلى الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي (جمال أتاسي) والحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) وحزب العمل الشيوعي؛ إلى جانب الإخوان المسلمين. أما الأحزاب الكردية فكانت أصلاً أحزاباً مطلبية، لا تمتلك برامج تغيير السلطة، والوصول إلى الحكم، وإنما كانت تطالب بإيقاف العمل بالمشاريع التمييزية التي كان النظام قد فرضها على الكرد، فضلاً عن المطالبة بالاعتراف بالخصوصية الكردية والحقوق القومية الديمقراطية الكردية ضمن إطار وحدة الوطن والشعب.
ومع ذلك، حرصت الأجهزة الأمنية على اختراق معظم هذه الأحزاب، وعملت باستمرار على إحداث الانشقاقات فيها، حتى باتت تحت السيطرة، ولا تمثل حالة يمكن التوجس منها مستقبلاً. فالتزمت بالهامش المتاح، وظلت حريصة على عدم تجاوز الخطوط الحمراء المحددة من جانب النظام. ولإضفاء مزيد من الشرعية الشكلية على نظامه، اعتمد حافظ الأسد أسلوب تنظيم “الاستفتاءات الرئاسية” التي كانت تتمحور حول فرض تجديد البيعة للرئيس نفسه، وبالنسبة التي يحددها هو، حتى باتت هذه الاستفتاءات مناسبةً تعبويةً دورية، يعمل من خلالها النظام على شدّ عصب أنصاره، ويستهدف فرض روحية اليأس على المعارضين، حتى يصلوا إلى قناعةٍ ضمنيةٍ بأنه لا جدوى من عملية البحث عن البديل.
وبعد وفاة حافظ الأسد صيف عام 2000، توفرت لحظة حاسمة للقوى الديمقراطية السورية التي كان من المفروض أن تنسّق المواقف في ما بينها، وتتحرّك لتطالب بإصلاح حقيقي يضع نهاية سلمية للنظام الأمني الشمولي، غير أن نتائج جهود عقود من التفتيت والتشتيت مارستها الأجهزة الأمنية في مواجهة السوريين، على مستوى الأحزاب والنخب، وحتى على مستوى مؤسسات المجتمع الأهلي، بل على مستوى الأسر، والتغلغل في مختلف الأنحاء عبر جيش من المخبرين، ومن خلال منظمات حزب البعث الذي كان حافظ الأسد قد أعلنه “دستورياً” قائداً للدولة والمجتمع. كل هذه النتائج وغيرها حالت دون تمكّن النخب السورية التي كانت قد تحرّكت مطالبة بضرورة إحياء المجتمع المدني السوري، من تحقيق المطلوب المنتظر. وما أسهم في ذلك عدم وجود تجارب سياسية سورية تمحورت حول الوضع السوري الداخلي الوطني، وإنما كانت القوى السياسية، وحتى الشخصيات المثقفة ذات التوجهات السياسية مهتمة بالسياسات الخارجية، وتمارس نشاطها عبر البوابات الفلسطينية واللبنانية، والعراقية؛ وحتى من خلال البوابة السوفييتية. هذا في حين أن الهمّ السوري لم يكن يمثل أولوية أساسية بصورة عامة. ولعل كثيرين منا ما زالوا يتذكّرون، في هذا المجال، القول الذي كان يردّده الزعيم الشيوعي السوري، خالد بكداش، باستمرار، وخلاصته: إذا انطلقنا من الأوضاع الداخلية سنكون في المعارضة، ولكننا نحدد موقفنا من النظام استناداً إلى موقفه من الاتحاد السوفييتي.
تحرّك المثقفون السوريون في بداية حكم بشار الأسد (وارث الجمهورية)، وأصدروا بيان الـ 99؛ ومن ثم البيان الألفي؛ وإعلان دمشق – بيروت؛ ولكن سرعان ما توقفت تلك النشاطات، وتشتت أصحابها نتيجة ضغوط النظام وتهديداته. ولم تتمكّن تلك الجهود النخبوية من التحول إلى حامل اجتماعي فاعل، قادر على اختراق الشبكات المصلحية السلطوية التي كان النظام قد بناها في مختلف المناطق السورية، وفي المدن الكبرى تحديدا.
أما اللحظة الحاسمة الثانية، فقد كانت، بعد عقد من حكم بشار الأسد المستبد الفاسد المفسد، الذي مثل استمراراً للحقبة الأسدية الأولى؛ وذلك مع انطلاقة الثورة السورية في مارس/ آذار 2011؛ وهي الثورة التي جسّدت طموحات الشباب السوري، وتطلعهم نحو مستقبل أفضل، يتجاوز واقع انسداد الآفاق الذي كان النظام قد فرضه، باستبداده وفساده وإفساده، على المجتمع السوري بصورة عامة. ولكن بكل أسف لم تتمكّن القوى السورية السياسية، والتيارات الوطنية السورية، من التوافق على برنامج وطني يطمئن السوريين أولاً؛ فكانت الانقسامات والاتهامات والتحرّكات الاعتباطية العشوائية في مختلف الأنحاء؛ الأمر الذي بدّد الإمكانات الواعدة التي كانت قد تحققت بفعل تحركات الشباب من مختلف المكونات السورية، ومن مختلف الاتجاهات وفي مختلف الجهات السورية. وقد نجح النظام في تمرير استراتيجيته التي اعتمدها، منذ البداية، لمواجهة الثورة، وهي استراتيجية فرض العسكرة وإبعاد المكونات السورية الأخرى، ما عدا المكون العربي السني عن الثورة، وإغراق الثورة بجميع الوسائل بحشد من الفصائل الإسلاموية التي شكّلت تهديداً فعلياً على الثورة نفسها؛ وأدّت إلى توجّس معظم السوريين من القادم المجهول. وقد تمكّن النظام بالتنسيق الكامل مع راعيه الروسي، والجهود الميدانية من جانب حليفه الإيراني ومليشياته من استعادة السيطرة على مناطق كثيرة، كان قد اضطر للانسحاب منها، أو فقد السيطرة عليها. وخاض راعيه الروسي معركة شرسة في مجلس الأمن، وتشخص ذلك في الاستخدام المستمر لحق النقض (الفيتو) لإيقاف أي مشروع قرارٍ كان من شأنه إدانة النظام، ودفعه نحو القبول بعملية تغييرٍ سياسيةٍ فعلية.
ونحن إذ نحمّل المجتمع الدولي، لا سيما المجموعة الكبيرة التي أعلنت عن نفسها بوصفها مجموعة أصدقاء الشعب السوري مسؤولية عدم أخذ الموقف الحاسم في الموقف المناسب، وكان في مقدورها أن تفعل ذلك، إلى جانب مطالب الشعب السوري العادلة؛ ولكننا لا بد أن نتحمّل في المعارضة السورية المسؤولية؛ إذ انشغلنا بخلافاتٍ ثانويةٍ كانت بفعل التسابق نحو أدوار ومواقع مستقبلية، في حين أن الأمور لم تكن قد حسمت بعد. وقد بلغت الأمور ضمن المعارضة ذروة الخطورة، حينما تحرّكت مجموعاتٌ بعينها في مسارات مختلفة، من دون أي تنسيق أو استراتيجية بين السوريين أنفسهم، وإنما كانت تحرّكات تتم بناء على التنسيق مع القوى الإقليمية والدولية؛ أو بكلام أدقّ بناء على توجيهات (وتعليمات) القوى الإقليمية والدولية التي كان من المعروف أنها تتحرّك بناءً على حساباتها وأولوياتها ومصالحها.
وهكذا تم إفراغ مسار جنيف من مضمونه، وكان مسار أستانة الذي قزّم الموضوع السوري، وحصره ضمن “لجنة دستورية” لم ولن تصل إلى شيء، وهذا أمرٌ يعرفه جميع المشاركين. ومع ذلك يحرصون على اللجنة المعنية بطريقة تثير استغرابا واستفهاما كثيريْن.
لم تفاجئ عملية تدوير النظام التي تمّت أحداً، لأنها حصيلة منطقية لسلسلةٍ من التطورات والمتغيرات والتراجعات التي كانت سواء على صعيد المواقف الدولية، أم على صعيد الانقسامات الحادّة، والممارسات المستهجنة ضمن صفوف المعارضة “الرسمية”، والقوى الميدانية المحسوبة عليها. هذه حقيقة، ما لم نعترف بها لن نتمكّن من تقديم التوصيف الدقيق لما جرى، وسيجري، مستقبلاً. كما لن نتمكّن من تحديد المطلوب، لتجاوز الوضع غير المقبول الذي تعيشه المعارضة، بكل أجنحتها، الرسمية وغير الرسمية.
لقد استغل النظام الاستفتاء الذي وضعه على مقاسه لشد عصب أتباعه ومواليه والمستفيدين منه، غير آبهٍ بالأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضغط على السوريين من جميع الجهات، وفي جميع المناطق؛ وغير مكترثٍ بواقع تحوّل سورية إلى مجموعة من مناطق النفوذ تتقاسمها القوى الإقليمية والدولية، فهو يصرّ على النصر الزائف الذي يتماهى مع الإبقاء على رأس النظام، وهي المعزوفة ذاتها التي تتكرّر في واقع منطقتنا، منذ رحيل الجيوش الاستعمارية وظهور وكلائها في دول المنطقة؛ وهذا ما يفسّر استمرارية أزماتنا، وانعدامية إنجازاتنا. أما الخطاب الذي ألقاه بشار الأسد ليسدل الستار على مسرحيته المبتذلة، فقد أكد مجدّدا نزوعه الفاشي التابع، وحرصه على البقاء على رأس النظام وبأي ثمن. فهو بعد أن سلّم البلاد إلى الروس والإيرانيين؛ وهجر أكثر من نصف السوريين؛ وتسبّب في قتل نحو مليون سوري، فضلاً عن مئات آلاف من المعتقلين والمغيبين؛ بالإضافة إلى تدمير البلد؛ مستعد اليوم لإشعال فتنةٍ كبرى بين السوريين، وهو يفعل ذلك بالتنسيق مع نظام ولي الفقيه الإيراني الذي يرى أن افضل وسيلة تمكّنه من التحكّم بسورية، أرضاً وشعباً، تتمثل في تمزيق ما قد تبقى من النسيج المجتمعي الوطني السوري المتهتك.
المصدر: العربي الجديد